نجحت الحكومة الأميركيّة في سنوات الحرب الباردة في إحداث فصل ذهني ومعرفي بين معسكر «حريّة» مفترض وبين معكسر الإغلاق والتوتاليتاريّة. وضعت الحكومة الأميركية كل أعدائها في مخيّم الاضطهاد والقمع (وفي هذا المعكسر، اندرجت كل دولة تجرّأت على معارضة أميركا) فيما وضعت كل أصدقائها (بما فيها معظم أنظمة الاستبداد والرجعيّة في الشرق الأوسط) في خانة «العالم الحرّ». ومفهوم العالم الحرّ كان مستعملاً بشدّة، وكان زعماء لبنان قبل الحرب يزهون بانضواء لبنان في نطاق العالم الحرّ. بشّرهم شارل مالك، الذي كان يجول في محافل اليمين الرجعي في الغرب، بدخول لبنان إلى العالم الحرّ. وتزوير أميركا لانتخابات ١٩٥٧ كان للمساهمة في تدعيم انضمام لبنان إلى «العالم الحرّ» هذا (لم يستطع شارل مالك دخول المجلس النيابي إلا من خلال انتخابات ١٩٥٧ المزّورة، تماماً كما أن فارس سعيد لم يستطع الانضمام إلى المجلس النيابي إلا في عهد سيطرة المخابرات السوريّة في لبنان وسعيد أصبح من أبطال معارضة النظام السوري، لكن بعد خروجه من لبنان). والأكاديميا الغربيّة ساهمت طبعاً كعادتها في معركة أميركا الدعائيّة: مؤتمرات في مختلف الجامعات الأميركية انعقدت في الخمسينيّات والستينيّات عن مفهوم التوتاليتاريّة وكيف أنه لا ينطبق إلا على النظام النازي وعلى الأنظمة الشيوعيّة. وكانت الحكومة الأميركيّة ناشطة في الترويج لهذا المصطلح الذي منح أعداء أميركا شهادة بالشرّ لا يمكن التنصّل منها إلا بالتحالف مع أميركا، ومِن دون تغيير نظام الحكم. النظام الشيوعي في رومانيا، مثلاً، كان من أقسى وأوحش الأنظمة الشيوعيّة، لكن التعاطي الإعلامي والرسمي والأكاديمي الأميركي معه كان ليّناً للغاية، لأن رومانيا حافظت على علاقات أفضل مع إسرائيل ومع دول الغرب. والصين تخلّصت من عبء الوصف بالتوتاليتاريّة بمجرّد أن تطوّرت بالعلاقة الصينيّة-الأميركيّة في عهد ريتشارد نيكسون. وكانت تايوان اليمينية الديكتاتورية من ضمن العالم الحرّ، لكن أميركا لم تعد تجرؤ على التودّد نحوها كما في السابق خشية إغضاب الصين. لكن الحكم الأميركي توصّل في السيطرة العالميّة على مرحلة من التوتاليتاريّة لم تصلها إمبراطوريّة من قبل.

كريستوفر ماكغيان (الولايات المتحدة)

لا تزال تجد في الصحافة الأميركيّة إشارات إلى حكم البوليس السريّ («ستاسي») في ألمانيا الشرقيّة. لا تزال ترد في الأفلام والمسلسلات الغربيّة إشارات إلى قمع ال«ستاسي» على أنه أقسى أنواع القمع. في الحقيقة، كان البوليس السرّي الألماني مثله مثل أي بوليس سرّي في العالم ويعمل بتجميع الإضبارات. لم يكن هناك أي جهاز استخباري أكثر وحشيّة وقسوة وسطوة من استخبارات دول الغرب، خصوصاً اميركا. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتطوّر تقنيّة الاستخبارات والتجسس التكنولوجي والأقمار الاصطناعية والمُسيّرات، بلغت سطوة التجسّس الأميركي نطاقاً لم تبلغه أي دولة في العالم، ولن تصل إلى مستواه أي دولة قبل سنوات طويلة. لقد فضحت تسريبات سنودن مدى الاختراق الأميركي لخصوصيّة الأفراد في العالم. التوتاليتاريّة الأميركيّة (بصرف النظر عن دورية وانتظام الانتخابات، خصوصاً بعد افتضاح هزالة وهشاشة الديموقراطية الأميركية في عهد ترامب، اعترف رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركيّة في كتاب «أنا الوحيد الذي يستطيع أن يُصلح» الذي صدر حديثاً أنه خشيَ من لحظة«حريق الرايشتاغ»، أي لحظة استغلال ترامب لحدثٍ ما كي يسطو على الحكم على طريقة هتلر).
وتقوم أميركا بتلزيم فرعي لسطوتها التوتاليتاريّة العالميّة لإسرائيل وحلفائها من العرب. إن فضيحة التجسّس الخاصة بشركة «إن.إس.أو» الاسرائيليّة هي من أكبر فضائح خروق الخصوصيّة وحقوق الإنسان في العالم. والصحافة العربيّة، لا بل مواقع التواصل الاجتماعي العربيّة، تجاهلت الموضوع بالكامل لأنه يطال نظاميْن يصيبان الشباب العربي بالرعب: أي النظام السعودي والإماراتي. ليس هناك من سطوة لمستبدّ في العالم العربي كما سطوة محمد بن زايد ومحمد بن سلمان. كان لصدّام حسين ولحافظ الأسد ولغيرهما من حكّام العرب المستبدّين سطوة ورهبة فظيعة في نفوس مواطني بلدانهم لكن سطوة الأمير والشيخ لا مثيل لها لأن لا حدود (جغرافيّة) لها. أصبح الشاب العربي يطمح بالعمل يوماً ما في دولة الإمارات أو في شركة سعوديّة ولهذا فإن نظاماً من الرقابة الذاتيّة بات مُستبطَناً من معظم الشباب العربي منذ سنّ المراهقة. بات تمشيط وسائل التواصل الاجتماعي بحثاً عن تغريدات أو تعليقات منبوذة من الأنظمة والحكومات مألوفا جداً. طاقم الأمن في مطارات مدن الغرب لا تجد حرجاً في ذلك وتقنيّة التمشيط تتطوّر باستمرار وهي التي تستعين بها شركات التكنولوجيا لمعاقبة المخالفين (لا يزال هذا الكاتب مطروداً، شرّ طردة، من شركة فايسبوك الصهيونيّة اللعينة). ما جرى لجاد غصن كان درساً للشباب العربي وللإعلاميّين العرب أكثر مما كان درساً لجاد غصن (لكن حتى لجاد غصن، الذي لم يكتب أكثر من دزينة تغريدات ناقدة للنظام السعودي على مرّ سنوات طويلة: هل يستطيع جاد أن يغرّد ضد النظام السعودي بعد اليوم؟ وحتى لو لم يغرِّد، لن تجرؤ شركة إعلام كبرى في العالم العربي على توظيفه).
إن سمة العقد الحالي ستكون من دون منازع سمة التحالف الإسرائيلي-الإماراتي. النظام الإماراتي كان قبل مرحلة الانتفاضات يلعب دوراً خافتاً وخجولاً في شؤون العالم العربي لكنه كان يسير خلف النظام السعودي (لا يعفي هذا النظام الإماراتي من تمويل صدّام حسين وتمويل مجاهدي أفغانستان أو المشاركة في الحرب العربيّة الباردة ضد محور عبد الناصر التقدّمي). بعد مرحلة الانتفاضات، برز دور جديد مختلف للنظام الإماراتي وتزامن ذلك منذ عام ٢٠٠٨ مع تبوّء سفير محمد بن زايد في واشنطن، يوسف العتيبة، منصبه. ليس هناك من دور مشابه لدور العتيبة في العاصمة. صحيح، صدّام أرسل نزار حمدون في الثمانينات من أجل أن يحسّن صورته مع اللوبي الإسرائيلي. وكان أشرف غربال سفير السادات لدى الحكومة الأميركيّة ولدى اللوبي الإسرائيلي. لكن العتيبة، الذي كان في السابق مستشار أمن قومي لمحمد بن زايد، أسّس لِلُبْنات تحالف إماراتي-إسرائيلي. ولم يكن العتيبة خجولاً في دوره، بل هو كان يصف علاقته مع سفير نتانياهو بأنها «صداقة». والعتيبة فتح الباب واسعاً أمام تمويل إماراتي لمراكز الأبحاث وتنظيم رحلات رفاهية باذخة للصحافيّين في واشنطن: مثل تنظيم رحلة بطائرة خاصّة لصحافيّين صهاينة لحضور حفلة «فورمولا وان»، أو دعوة أقطاب الصحافة إلى منزله في ضاحية واشنطن لحضور حفلة رياضيّة على شاشة يُقال إن الحاضرين لم يروا مثيلاً لها من قبل أو بعد. وهذه الأساليب ليست جديدة وهي لا تزال فاعلة (كان نظام الشاه متمرّساً في استمالة صحافة أميركا من خلال الدعوات والهدايا والاستمالة الباذخة). كان للأردن ومصر علاقات رسميّة مع إسرائيل على مرّ السنوات لكن لم يكن هناك تحالف وثيق يرتبط بالمشاركة في رسم سياسات وأحداث المنطقة العربيّة. هذا ما فعله العتيبة قبل سنوات من إعلان التحالف الرسمي من خلال «إتفاقيّات إبراهيم»، التي كان محمد بن زايد وصحبه يريدونها هديّة مجانيّة لعهد دونالد ترامب. لكن الدور الإماراتي كان سيستفيد أكثر من وجود ترامب ونتانياهو في الحكم. لم يبنِ محمد بن زايد تحالفه مع إسرائيل على أساس شخصي، لكن علاقته مع نتانياهو ومع ترامب كانت وثيقة ولا تمرّ عبر الأقنية الديبلوماسيّة المعهودة. الإدارة الأميركيّة تستمرّ في دعم طغاتها حول العالم، بصرف النظر عن هويّة الرئيس الأميركي أو حزب الرئيس. لكن محمد بن زايد يختبر قدرة التحالف الإماراتي-الإسرائيلي على اختبار منسوب السماح الأميركي.
إن فضيحة التجسّس عبر برنامج «بيغاسوس» (والإسم من طائر مجنّح في الميثولوجيا الإغريقيّة) ليس إلا جانباً آخر من أواصر التحالف بين النظام الإماراتي وإسرائيل. النظام السعودي بات رديفاً لمحمد بن زايد: فشل مغامرات محمد بن سلمان في اليمن وفي اختطاف سعد الحريري، ثم قتل وتقطيع خاشقحي وضعت الحاكم في موقف أضعف في السياسة الدولية من دون أن يفقد رعاية دول الغرب له: الإشتراكيون الفرنسيّون لا يقلّون استماتة في كسب ودّ طغاة الخليج الأثرياء عن الجمهوريّين في أميركا. اختلّ التوازن بين محمد بن زايد ومحمد بن سلمان بعد فضيحة خاشقجي. لم يعد محمد بن سلمان قادراً على التجوال في الولايات الأميركية أو وزيارة كبرى الشركات في «وادي السيليكون» كما كان يفعل. بات محمد بن سلمان مقيّداً، كما حلّ بمحمد بن راشد آل مكتوم بعض افتضاح أمر تهديده لزوجته واختطاف وتعذيب بنته. محمد بن زايد ساهم في تخفيف غضبة دول الغرب على محمد بن سلمان. لكن العلاقة بين محمد بن سلمان وبين محمد بن زايد لا تخلو من الشوائب وهي مرشّحة للتفاقم بسبب الدور المتعاظم لابن زايد في المنطقة العربيّة. يشعر محمد بن زايد بفائض من القوة لأنه يشعر أنه الطرف الأقوى في علاقته مع النظام السعودي (وهذا يفسّر الخلاف الأخير في «اوبيك») كما أنه يشعر بأنه الطرف الأقوى في العالم العربي لأنه أوثق وأقوى حليف عربي لاسرائيل منذ نكبة فلسطين.
يوفّر التحالف الإماراتي مع إسرائيل اكثر من فائدة للنظام المستبد: ١) هو يقرّبه من الكونغرس الأميركي ويعطيه مناعة ضد انتقاد قد يطاله بسبب طبيعة نظام الحكم وحروبه الوحشيّة في كل المنطقة العربيّة، من اليمن إلى الصومال وليبيا. وعندما حاول تقدميّون في الكونغرس الأميركي تجريم شركة «إن.إس.او» بسبب فضيحة التجسّس لم ينضمّ إليهم أكثر من أربعة أعضاء في الكونغرس فقط. والقرب الاستثنائي بين الإمارات وإسرائيل يحرج النظام الأردني والمصري لأنه يظهر لصهاينة الكونغرس أن التطبيع في الإمارات استطاع تحقيق إنجازات (تطبيعيّة) لم تتحقّق بعد عقود من التطبيع في مصر والأردن. ٢) تستطيع إسرائيل أن تستخدم اللوبي في واشنطن للدفاع عن محمد بن زايد ولحمايته من أي عقوبات أو إجراءات قد تطاله بسبب سياساته وحروبه ومؤامراته في المنطقة العربيّة. ٣) إن المخابرات الإسرائيلية باتت أداة في يد النظام الإماراتي والسعودي على حد سواء، كما أن النظاميْن هما أداة بيد ال«موساد» لتحقيق غايات صهيونية (هل من يظن أن اغتيال المبحوح في دبيّ لم يكن بعلم وموافقة محمد بن زايد؟). والمخابرات الاسرائيليّة تسوّق لنفسها عند طغاة العرب، لأنها تمدّهم بالمعلومات والحراسة التي يتطلّبها أمن النظام الإستبدادي. إن علاقة المخابرات المغربيّة بالمخابرات الاسرائيليّة منذ الستينيات كان في أساس العلاقة بين الملك المغربي وإسرائيل. والمخابرات الاسرائيليّة تعمل بالتعاون مع الحلفاء العرب لمطاردة وقتل المعارضين للأنظمة. هي أيضاً كانت في العلاقة بين قابوس وثوّاره، ومن المرجح أن ال«موساد» ساعدت محمد بن سلمان في استدراج خاشقجي وترصّده. والمفارقة، أن المخابرات الاسرائيليّة كانت تمدّ سلطة أوسلو بما تحتاجه من معلومات لأغراض القمع لمساعدتها ضد شعبها، تماماً كما تساعد هي الطغاة العرب للبقاء في الحكم. ٤) يعلم محمد بن زايد ان التحالف الوثيق مع إسرائيل يضمن له سكوتاً غربيّاً -وليس أميركياً فقط-على جرائمه وجرائم حليفه. ٥) يحقّق محمد بن زايد اختراقاً لإسرائيل في الداخل العربي، وهذا ما كانت إسرائيل تحلم به منذ إنشائها. اما فائدة ذلك للنظام فيكمن في الاستعانة بإسرائيل لتخويف خصومه في الداخل والخارج، ولترجيح كفّته ضد منافسيه بين الحكّام العرب.
ويوفّر محمد بن زايد ومحمد بن سلمان أكبر خدمة دعائيّة لإسرائيل منذ النكبة. فبحكم تملّك الرجليْن لمعظم الإعلام العربي، فإن الإعلام العربي بات يفقد منابر معارضة ومعادية للصهيونيّة. صحف آل سعود وآل زايد، وشاشاتهم، باتت نسخاً متطرّفة من الصهيونيّة. الصور والمقالات والعناوين باتت تقلّد إعلام الصهيونيّة الغربيّة في انحيازها ضد شعب فلسطين. من يتصّور أن صحفاً عربيّةً ستنشر مزاعم عن بيع الفلسطينيّين لوطنهم (طبعاً، صحافة الانعزاليّة اللبنانيّة كانت سبّاقة في ذلك). إسرائيل، حسب جريدة «الشرق الأوسط» مؤخراً، ليست إلا ضحيّة لاعتداءات همجيّة من «بالونات حارقة»، والتسمية صادرة عن مكتب الدعاية في جيش الاحتلال الإسرائيلي. وصحف الخليج باتت تنشر أخباراً تظهر إسرائيل بمظهر الساعي للسلام ومُرتكب أعمال الخير نحو الشعب الفلسطيني. وبالتوازي مع التغطية الموالية للصهيونيّة في هذا الإعلام، فإن مواقع التواصل الاجتماعي خاضعة رسميّاً، وبالسطوة شبه الطوعيّة، لسياسات ومشيئة النظاميْن. لم يسبق أن أحكم نظام عربي سيطرته على مقدّرات السياسة في العالم العربي كما يفعل النظامان السعودي والإماراتي ومعهما إسرائيل. والنظام القطري، وهو نظام مُطبّع، لا بل رائد وسبّاق في التطبيع الصفيق، خفت مقاومته، كما خفّت مقاومة الحليف التركي الساعي للتقرّب من السعودية وإسرائيل على حد سواء، لسياسات النظام السعودي والإماراتي. الحكومة الأميركيّة (في عهد بايدن كما في عهد ترامب) تحبّذ الارتقاء (أو الانحدار) العربي من مرتبة التطبيع إلى مرحلة التحالف الوثيق. ولدى إسرائيل ما تقدّمه من وسائل قتل وقمع ومراقبة. إن المخابرات السعوديّة والإماراتية باتتا فرعاً عربيّاً محليّاً لل«موساد» (ويتوافق معهما في ذلك أنظمة المغرب والبحرين ومصر).
يوفّر محمد بن زايد ومحمد بن سلمان أكبر خدمة دعائيّة لإسرائيل منذ النكبة. بحكم تملّكهما لمعظم وسائل الاعلام، بات الإعلام العربي يفتقد منابر معادية للصهيونيّة


لم يكن الانقلاب في تونس ممكناً من دون رعاية خارجيّة له. قيس سعيد نال مباركة سعوديّة وإماراتيّة قبل أن يخطو خطوته، وتباحث هاتفيّاً مع محمد بن زايد قبل إعلان فرمان الانقلاب. ومن المستحيل أن يقوم الجيش التونسي (الخاضع كما معظم الجيوش العربيّة الحاليّة لسيطرة أميركيّة مباشرة) بدعم الانقلاب من دون إستشارة واشنطن. والتلاعب اللفظي الذي صدر من إدارة بايدن عن الانقلاب (خصوصاً عندما جعلت الإدارة مسألة الحكم في الانقلاب بأنها مسألة نظريّة تدخل في علم السياسة وليس في ممارسة السياسة. لكن صدر ما يكفي للدلالة على رعاية الحكومة الأميركيّة للانقلاب التونسي. لو أن الانقلاب كان ضد نظام مستزلم بالكامل لأميركا لما كان هناك تلكؤ نظري من قبل الإدارة الأميركيّة للفصل في صوابية تصنيف الانقلاب على الحدث). ولو استقرّ الحكم الانفرادي لقيس سعيد في تونس فإن أوّل ما سيستوجب عليه دفعه لحساب الإمارات والسعوديّة هو تطبيع بالكامل مع العدوّ. وفي تونس، كانت «النهضة» معارضة لتجريم التطبيع منذ تلك الزيارة لراشد الغنوشي في عام ٢٠١١ إلى واشنطن حيث قدّم واجب الطاعة ل«مؤسّسة واشنطن» وتعهّد للوبي الإسرائيلي بمحاربة تجريم التطبيع في الدستور التونسي، قد وفى الغنوشي بوعده للوبي مذّاك. وبالفعل، فإن كل عرقلة لمساعي تجريم التطبيع في البرلمان كانت بفضل «النهضة». والرئيس التونسي الذي صعد في شعبيّته بناءً على مواقفه الحادة والقاطعة ضد التطبيع لأن بعد أن وصل إلى السلطة، وأصبح يعتبر أن تحالف الإمارات مع إسرائيل هو شأن داخلي. من المستبعد أن يستطيع قيس سعيد، في ظل رعاية النظاميْن وإعلامهما له، أن ينطق بكلمة ضد التطبيع. أن ما حدث في تونس جانب من إعادة رسم الخريطة السياسيّة للعالم العربي وفق أجندة إسرائيليّة-إماراتيّة. إذا كان موت عبد الناصر قد أذن لصعود الحقبة السعوديّة، فإن النظام الإماراتي يدشّن دخول المنطقة العربيّة في الحقبة الاسرائيليّة في التاريخ العربي المعاصر.
إن نوعيّة وشمول الاتفاقات بين النظام الاماراتي وحكومة العدوّ يدلّ على نظرة استراتيجيّة طويلة المدى بين النظاميْن. محمد بن زايد يستثمر في العلاقة مع حكومة العدوّ، ويريدأن يستخدم تلك العلاقة لتطوير علاقاته مع دول الغرب. أكثر من ذلك، يريد محمد بن زايد أن يعزّز موقفه إزاء السعودية (خصوصاً بعد تنامي الخلافات بين النظاميْن وظهورها إلى العلن) عبر توثيق علاقته بإسرائيل. وإسرائيل تستطيع أن ترجّح (عبر اللوبي الإسرائيلي) موقع دولة عربيّة على أخرى في الحلبة الواشنطونيّة. وقد يؤدّي هذا التحالف الوثيق بين محمد بن زايد وإسرائيل إلى تسارع وتيرة التطبيع السعودي مع إسرائيل (لم تذكر الصحافة العربيّة ولا مواقع التواصل التابعة والخاضعة أن فضيحة «بيغاسوس» كشفت أن نتانياهو ومحمد بن سلمان التقيا عدة مرّات). ومحمد بن سلمان يريد ان يطبّع وبسرعة لكنه يخشى غياب التأييد في داخل العائلة المالكة التي لم يسيطر عليها إلا بالإكراه والسجن، كما أنه يخشى ردة فعل الرأي العام السعودي الذي نشأ وتربّى فطريّاً على العداء لإسرائيل. وتمنّع باكستان عن المضي في التطبيع، بالرغم من إغراءات سعوديّة وإماراتيّة، يزيد من إحجام محمد بن سلمان. والعلاقة الوثيقة بين محمد بن زايد وحكومة العدوّ تقلّل من أمل محمد بن سلمان في إقامة حلف مطابق للحلف الإماراتي-الإسرائيلي. طبعاً، إن العدوّ يرغب في نقل التطبيع السرّي مع السعوديّة إلى مرحلة العلن لأن ذلك يزيد من رصيدها الدعائي في مزاعمها عن قبول عربي بالكيان.
إن الحلف الإماراتي-الإسرائيلي لهو أخبث حلف عرفته المنطقة العربيّة منذ الحرب العالميّة الأولى. لم يسبق ان أدخلت دولة عربيّة عدوّاً تاريخيّاً للعرب إلى داخل كل دولة عربيّة عبر الاعلام والثقافة والفن والسياسة. ودور دبي في السيطرة على الإعلام والثقافة العربيّة يمنح للتحالف قوّة دعائيّة كبرى. لكن الحقبة الاسرائيليّة تعني ان تعديل نظام الجامعة العربيّة لم يعد بعيداً، وحلم شمعون بيريز في استبدال الرابطة العربيّة برابطة أخرى تضع إسرائيل في موقع الصدارة لم يعد بعيداً، خصوصاً وأن النظام العربي الرسمي لم يكن يوماً على ما هو عليه اليوم من رخاوة في الموقف من احتلال فلسطين.

* كاتب عربي - حسابه على تويتر asadabukhalil@


اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا