أما وقد انتهت الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في لبنان إلى ما انتهت إليه، فلا بد من إعادة تقويم هذا الاستحقاق على المستويين الداخلي والخارجي.داخلياً قيل كلام كثير في الآونة الأخيرة عن «لبننة» الاستحقاق الرئاسي ولأول مرّة منذ عقود. وهذا صحيح. ويسجّل في هذا الاطار لبكركي وللقوات اللبنانية سعيهما إلى «لبننة» الاستحقاق. الأولى من خلال دعوة الأحزاب والتيارات المارونية الأساسية منذ أشهر إلى الاجتماع والاتفاق على صيغة للتعامل مع هذا الاستحقاق على قاعدة التوصّل الى انتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل الخامس والعشرين من أيار.

والثانية من خلال ترشّح الدكتور سمير جعجع بقرار حزبي بعيداً عن المعطيات الاقليمية والدولية. وقد أعطت الطريقة الاحتفالية لاعلان الترشّح والبرنامج الانتخابي المكتوب والواضح أهمية أكبر، ليس فقط لترشّح «الحكيم» الذي اثار حفيظة الخصوم، إنما للاستحقاق بحد ذاته.
الجدّية التي أظهرتها القوات اللبنانية في التعامل مع الاستحقاق الرئاسي قابلتها جدّية من نوع آخر يمكن وصفها بـ«السلبية» من قبل التيار الوطني الحرّ وتكتل التغيير والاصلاح من خلال الترشّح «غير المعلن» للجنرال ميشال عون. فالجنرال مرشّح «جدّي» للرئاسة (كما أعلن الامين العام لحزب الله عام 2007). ولا يخفى على أحد بأنه يسعى للوصول الى الرئاسة الاولى منذ عام 1988. وقد خاض معارك سياسية وحروباً عسكرية للوصول لها. ولكنه لم يعلن ترشّحه، حتى الآن، بانتظار التوافق على اسمه، ليس ليكون توافقياً فحسب إنما لعلمه المسبق باستحالة نجاحه بأصوات فريقه السياسي فقط (خصوصاً أنه يخشى عدم الحصول عليها كلها). من هنا كان مد الجسور مع تيار المستقبل قبل وخلال وبعد تأليف «حكومة المصلحة الوطنية». ولكنه أتى متأخّراً. كما يجتهد نواب تكتل التغيير والاصلاح ووزيره جبران باسيل، في تهدئة الخطاب السياسي وفي تسويق «الجنرال» كمرشّح توافقي. ولكن عبثاً يحاولون. هذا الفشل ليس مفاجئاً. إذ كيف للجنرال أن يكون توافقياً وهو الذي قطع «One Way Ticket» للرئيس سعد الحريري بعد أن أطيح بحكومته عام 2010؟ وكيف له ان يكون توافقياً وهو لم ينجح في الحصول على التأييد الكامل داخل طائفته في إطار اجتماعات بكركي؟
مقابل الحراك القواتي المُعلن والواضح والحراك العوني المكتوم والمرتبك لم نشهد أي حركة جدّية لدى «مستقبل» 14 آذار ولا «حزب» 8 آذار توحي بنِيّة جدية لانتخاب رئيس للجمهورية. فالأول تأخّر في تبنّي ترشيح سمير جعجع. والثاني لم يساعد الجنرال ليكون مرشّحاً توافقياً. فاستمرّ في تشديده العلني على رئيس يحفظ خيار المقاومة، الذي هو أبرز المواضيع المختلف عليها بين الاطراف. ولمعرفة أسباب هذا «السُبات» السياسي لدى أقوى طرفين على الساحة السياسية اللبنانية لا بد من قراءة الاستحقاقات المرتقبة في المنطقة، والتي يمكن لبعضها أن يحدث تغييرات جيوسياسية ينتظرها الطرفان ليبنيا على الشيء مقتضاه في ما خصّ الاستحقاق اللبناني.
الاستحقاق الأقرب جغرافياً هو انتخابات الرئاسة في سوريا. كما كتبنا سابقاً (في هذه الصفحة بالذات) أن الرئيس بشار الأسد سيترشّح لولاية ثالثة وسيفوز بالرئاسة. على الرغم من تراجع دور دمشق في بيروت لصالح طهران، لا يزال للاستحقاق الرئاسي السوري تأثيره على الداخل اللبناني. فإعادة انتخاب بشار الأسد تؤكّد إطالة الحرب (المستمرة) في سوريا لسبع سنوات مُقبلة (على الاقل). ما يعني استمرار النظام بتفوّقه العسكري «النِسبي» على المعارضة المشرذمة والمفكّكة والمشوّهة بـ«التكفير»، وما يقوّي موقف ايران وحزب الله في المنطقة وفي الصراع السياسي في لبنان، واحدى ابرز جولاته رئاسة الجمهورية.
استحقاق اقليمي آخر أقرب زمنياً (في شهر ايار المُقبل)، هو انتخاب رئيس للجمهورية في مصر. فمن المنتظر أن يفوز المشير عبد الفتاح السيسي بهذه الانتخابات على الرغم من منافسة حمدين صباحي الجدّية، كما يؤكّد دبلوماسي مصري. بعد أن نجح وزير الدفاع السابق في كسر قوة جماعة الاخوان السياسية والشعبية وفي قمع محاولاتها خلق فوضى امنية في البلاد، سيركّز المشير بعد انتخابه على تركيز اسس النظام الجديد بسرعة ليتفرّغ بعدها الى استعادة مصر لدورها الاقليمي من خلال قيادة «جبهة عربية» يكون من أبرز مهامها مواجهة «المحور الإيراني»، بعد أن ثبُت عجز المملكة العربية السعودية عن الاضطلاع بهذه المهمة خلال السنوات الثلاث المنصرمة لأسباب جيوسياسية (لا يسعنا تفصيلها في هذه الاسطر القليلة).
من هنا فإن المملكة، المهتمة بالشأن اللبناني، غير مستعجلة لاجراء الاستحقاق الرئاسي فيه لعلمها المسبق بضعف موقفها في مواجهة الموقف الإيراني الأقوى. وقد ظهر ذلك من خلال إحجام الرياض عن استقبال أي من المرشّحين البارزين الذين انتظروا تحديد مواعيد لهم قبل الدخول في المهلة الدستورية لانتخاب الرئيس، ولا يزال بعضهم ينتظر. وللسبب عينه تأخّر تأييد سعد الحريري لترشيح سمير جعجع، علماً بأنه هو نفسه كان قد اعلن ترشيحه منذ حوالى السنتين. إيران من جهتها تفضّل تأجيل الاستحقاق الرئاسي في لبنان ليس فقط إلى ما بعد الاستحقاق السوري إنما أيضاً لعدم خلق عراقيل أمام استحقاق الاتفاق النووي مع «الدول الخمس زائد واحد»، المرتقب في حزيران المقبل، والذي تأمل بنتيجته رفع العقوبات الاقتصادية عنها. علماً بأن الفراغ سيكون مناسباً لحزب الله في تثبيت قوته السياسية على الساحة اللبنانية، وربما لفرض توزيع جديد للسلطة في إطار اتفاق سيكون حتمياً في المستقبل للخروج من الفراغ وذلك استناداً الى الأحجام السياسية لكل طرف! كما أن الفراغ الرئاسي يريح حزب الله في حربه الى جانب النظام في سوريا (والتي من المحتمل ان تتوسّع شمالاً في معركة حلب خلال الصيف المقبل). فلن تزعجه بعدها تصريحات رئيس للجمهورية تطالبه بتطبيق مبدأ النأي بالنفس والالتزام بإعلان بعبدا ولن تُحرجه دعوة للجلوس الى طاولة حوار وطني يكون سلاحه هو الموضوع الاساسي في إطار مناقشة الاستراتيجية الدفاعية.
أما في ما يتعلّق بالقوى الدولية المعنية بالملف اللبناني، فقد تراجع اهتمامها بهذا الملف لصالح أزمات أكثر أهمية أبرزها الازمة الاوكرانية والملف النووي الإيراني. فحتى الأزمة السورية لم تعد أولوية لها. وقد عكس هذا الواقع عدم ممارسة الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا الضغط باتجاه انتخاب رئيس يكون ضامناً لاستقرار البلاد. ويؤكّد موقف الدولتين، وبخاصة فرنسا، مرة أخرى تراجع اهتمامهما بالدور السياسي للمسيحيين عموماً والموارنة خصوصاً، والذي يشكّل موقع رئاسة الجمهورية إحدى ضماناته الأساسية.
أمام كل هذا الواقع يصبح الكلام عن «لبننة» الاستحقاق الرئاسي اللبناني غير واقعي ومبالغ فيه. ويكون الفراغ الرئاسي هو الأكثر احتمالاً أقلّه إلى ما بعد انجاز الاستحقاقين الرئاسيين في كل من مصر وسوريا وربما استحقاقات اقليمية أخرى ستغيّر المعطيات الجيوسياسية في المنطقة!
* باحث أستاذ جامعي