باشر لبنان رسميّاً في 14 تشرين الأول / أكتوبر الماضي، مفاوضات مع إسرائيل لترسيم الحدود البرية والبحرية، وهي مسألة اعتبرها البعض روتينية تقتضي تعديل الخطوط بمسافات أمتار أو مئات الأمتار، ولكنّها تخوّل لبنان أخيراً الاستفادة من ثروته البحرية من الطاقة، لأنّ الترسيم يشمل المنطقة الاقتصادية الخالصة في البحر. وتثبت أربع جولات من المفاوضات أنّها حوار عقيم لن يعيد للبنان حقوقه المشروعة. وثمّة ثلاثة أسباب وجيهة تشرح لماذا يجب وقف المفاوضات التي لا تسير في مصلحة لبنان العليا، فلبنان يدخلها بعد تعرّضه لحصار قاتل منذ سنوات حتى باتت دولته في مرحلة وهن. وكما يحذّر الخبراء: إذا كانت نقابة العمال مفكّكة وضعيفة، فهذا يكون أسوأ وقت لمفاوضة رب العمل الشره الذي يستغل العمّال وهم مفكّكون. وإذا كانت أسهم البورصة في انحدار كبير، فهو أسوأ وقت لبيع أسهمك. وهذا درس للبنان أن لا يخوض أيّ مفاوضات تلزمه لعقود قبل أن يتمتّع بعناصر القوة ويستعيد عافيته الاقتصادية واستقراره السياسي ويدرس مصادر دفاعه. وإلّا سيكون في لحظة ضعف قد يفقد فيها حقوقه وسيادته على أرضه وبحره وثرواته.
أمّا الأسباب الثلاثة التي تجعل أيّ مفاوضات اليوم عبثية وغير مجدية فهي:

أولاً، الحدود البرية
إنّ حدود لبنان البريّة مع فلسطين المحتلّة، وكيف انتهت إلى شكلها الحاضر، لم تُبحث في دراسات علمية باستثناءات قليلة، أبرزها ما قام به الأستاذ عصام خليفة (الجامعة اللبنانية). ورغم ما قاله البعض أخيراً (ومنهم عسكريون ومؤرّخون) وبنية حسنة، إنّ لبنان هو الدولة الوحيدة من بين الكيانات التي نشأت بموجب اتفاقية «سايكس بيكو» التي لم يطاولها تعديل حدودي، فهذا ليس دقيقاً لأنّ حدود لبنان الجنوبية تبدّلت أربع مرّات، في أعوام 1920 و1922 و1949 و2006. فمن عام 1863 وحتى 31 آب / أغسطس 1920، كانت مساحة متصرّفية جبل لبنان هي 3500 كلم مربع. ثمّ أعلن الجنرال غورو دولة لبنان الكبير، في 1 أيلول / سبتمبر 1920، بمساحة بلغت 12 ألف كلم مربع، وفق خرائط «سايكس بيكو» التي درست جيداً التركيبة الديموغرافية اجتماعياً واقتصادياً، ومنها صلة شيعة قرى وادي الحولة بجبل عامل وموارنة القرى الثلاثة برميش وعين إبل. ولذلك، فإنّ الخرائط التي جعلت الحدود بين منطقة الانتداب الفرنسي ومنطقة الانتداب البريطاني، لم تُرسم عشوائياً، بل وضعت خطّاً يمتدّ من مدينة عكّا إلى بحيرة طبريا، بحيث يبقى الجليل الأعلى بأكمله في لبنان، وكذلك نهر الليطاني ومصادر مياه الأردن في منطقة الانتداب الفرنسي. وتلك المنطقة وحتى بحيرة طبريا وصفد، كانت دائماً جزءاً من الإمارة اللبنانية، منذ عهد الأمير فخر الدين الثاني، وفيها 30 بلدة وقرية على الأقل (مارونية وسنية وشيعية)، انتمت جغرافياً واجتماعياً إلى جنوب لبنان.
وبذلك، لم يكن ثمّة خطأ في حدود لبنان الكبير عام 1920. إلّا أنّ المنظمة الصهيونية واصلت ضغوطها في مؤتمرات السلم الدولية في لندن وباريس، لتوسيع حدود فلسطين الانتدابية شمالاً، حيث تريد بناء دولة لليهود. ولكنّ القانون الدولي الذي تطبّقه عصبة الأمم كان العقبة الرئيسية. وأدّت الضغوط الصهيونية إلى فرض مفاوضات كثيفة بين بريطانيا وفرنسا لإعادة ترسيم الحدود، حتى وافقت فرنسا على تسوية يفقد لبنان بموجبها أصبع الجليل لتتراجع مساحته من 12 ألف كلم مربع إلى 10400، بخط يبدأ في رأس الناقورة غرباً ويتّجه شرقاً - وبدلاً من وصول الخط الأفقي إلى صفد ينعطف الخط فجأة عند قرية المالكية (شرق عيترون) نحو الشمال، ليصل إلى خراج كفركلا. فابتلع هذا الترسيم حوض الحولة وكامل الأراضي الممتدّة شرق قرية دير ميماس، وحتى مدينة صفد جنوباً. وشكّلت بريطانيا وفرنسا لجنة مشتركة لرسم الحدود الجديدة، فترأّس اللجنة ضابطان هما الفرنسي ن. بوليه Paulet والبريطاني س. ف. نيوكومب Newcombe . ولكن وجد البريطاني نيوكومب أنّ أغلبية سكان وادي الحولة من الشيعة والموارنة (القرى السبع والقرى الثلاث)، هم امتداد لجبل عامل، فحاول وفشل في إقناع حكومته بالتنازل لفرنسا عن «أصبع الجليل» مقابل سهل اليرموك وحوضه الذي يقع جنوب شرق بحيرة طبرية. واستمرّ عمل لجنة هندسة المساحة 28 شهراً، حتى أنجزت المسح الميداني في 3 شباط / فبراير 1922، وخرجت بخريطة في 7 آذار / مارس 1923 عُرفت باسم خط نيوكومب - بوليه Paulet–Newcombe Agreement، ولكنّها ليست خريطة شرعية إذ لم يكن ضمن صلاحيات الدولتين المنتدبتين - فرنسا وبريطانيا - حق خرق حرمة الكيانات، ورفضت عصبة الأمم تصديقها، حتى بعد سنوات من تقديمها. وما حصل أنّ عصبة الأمم فقدت أهميتها وتضعضعت، فنجحت بريطانيا في الحصول على تصديق لخريطة نيوكومب - بوليه، بعد عشر سنوات قبل عام من انتصار الحزب النازي في ألمانيا، عام 1933، إلى أن اختفت عصبة الأمم.
لقد نجحت الحركة الصهيونية في إبعاد الحدود السورية عن حوض طبريا واليرموك ونهر الأردن، كما أنّ كامل سهل الحولة فُصل عن قضاء مرجعيون وضُمّ إلى قضاء صفد. وقبلت فرنسا أن تصبح مصادر الأردن حتى منابع بانياس ونهر دان ضمن النفوذ البريطاني، رغم أنّ هذه الأراضي هي مملوكة لعائلات لبنانية، وكان يجب أن تكون ضمن لبنان. والأسوأ، أنّ هناك في لبنان من يتمسّك بخط بوليه - نيوكوب، الذي زرعه الاستعمار ولا أساس قانونياً له.

ثانياً، الحدود البحرية
في ما يتعلّق بالحدود البحرية، وهنا بيت قصيد المفاوضات الحالية، فإنّها لتسهيل استغلال حقول الطاقة في البحر، فحوض شرق المتوسط كلّه من البقع المهمّة في حقول الغاز في العالم، ولكن تتوزّع ثروة الغاز فيه بشكل متشابك بين لبنان ومصر وقبرص وفلسطين المحتلّة وسوريا، ما يجعل من المستحيل لأيّ دولة ترسيم منطقتها بمفردها. لقد حدّد لبنان منطقته الاقتصادية الخالصة Exclusive Economic Zone EEZ في التركيب الجيولوجي، بموجب خرائط 1923. ولكن إسرائيل عملت - ومن دون تنسيق مع الدول المجاورة - على استغلال حقلين أسمتهما «تامار» و«ليفييثان». نصف الحقل الثاني يقع في المياه الإقليمية اللبنانية، وهذا النصف هو ملك للبنان، كما أنّه لا يحقّ لقبرص تفعيل أي اتفاق مع إسرائيل حول الغاز، من دون موافقة لبنان والاتفاق معه أولاً على الحدود البحرية المشتركة. وبعض الحقول يمتدّ من ساحل سوريا وحتى شمال فلسطين، ما يحتاج إلى حضور الحكومة السورية أيضاً.
يبدو من اتجاه الأمور في المفاوضات الحالية أنّها ستكون طويلة والتركيز على الحدود البحرية مع إلقاء نظرة على الخط الأزرق


ولقد أشار خبراء إلى أن «خرائط شركة نوبل إنرجي الأميركية عن حقول النفط مغلوطة وغير دقيقة. فقد حدّدتها كلّها إلى الغرب من الحدود الفلسطينية المحتلّة، بينما الواقع أنّها توجد جميعها في لبنان وإلى الغرب الشمالي باتجاه قبرص، مع حصة لسوريا». وتعود المسألة إلى خطأ في ترسيم الحدود بين لبنان وقبرص، عام 2007، في اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، ولم يصادق عليها لبنان بسبب وجود ثغرات في بنودها، منها وضع مساحة بحرية هي 860 كلم2 تخصّ لبنان خارج الترسيم. وفي نيسان / أبريل 2009، توصّل لبنان إلى تصحيح الثغرات في الاتفاق مع قبرص، وحُدّدت نقاط البداية والنهاية للمنطقة اللبنانية من رأس الناقورة وحتى أقصى الشمال، شاملة مساحة بحرية تساوي 22,730 كلم2. ثم أبلغ لبنان الأمم المتحدة عن حدوده البحرية المدعومة بخرائط دولية رسمية، وبخريطة البحرية البريطانية وخرائط الجيش اللبناني وبخطوط الهدنة مع إسرائيل. ولكنّ إسرائيل استغلّت خطأ الترسيم الأول، عام 2007، واتخذته حجّة لتوسيع منطقتها البحرية متجاهلة تصحيح عام 2009، فأعلنت في تموز / يوليو 2011 عن ترسيم منطقتها الخالصة، بشكل يضمّ اعتباطياً مساحات مائية عائدة للبنان. في 17 كانون الأول / ديسمبر 2010، اتفقت إسرائيل وقبرص منفردتين على تحديد منطقتيهما الاقتصاديتين، بشكل يتنافى مع فهم لبنان لمنطقته، فاعترض لبنان وأرسل ترسيماً لمنطقته إلى الأمم المتحدة، يكشف أنّ إسرائيل تحاول سرقة مساحة تبلغ 860 كلم مربعاً من لبنان.
ولأنّ زمن فرض إسرائيل إرادتها بالقوة العسكرية على لبنان قد ولّى، فقد تدخّلت واشنطن منذ تشرين الثاني / نوفمبر 2013 لإيجاد تسوية، مدفوعة بمصالح شركة «إكسون موبيل». واقترحت أميركا اعتماد الخط الأزرق البري الذي اعتمده القرار الأممي 1701، عام 2006، لانسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية، ومن ثمّ رسم هذا الخط باتجاه البحر ليفصل بين لبنان وإسرائيل. وفي حين لم يرفض لبنان الاقتراح الأميركي، وطلب تعديلات عديدة، رفضت إسرائيل واعتبرت الاقتراح يصبّ في مصلحة لبنان، وهدّدت بإصدار قانون يحدّد منطقتها بصورة أحادية الجانب، كما أنّها لن تسمح للبنان بالاستفادة من المنطقة المتنازع عليها، إلّا بعد توقيع معاهدة سلام. ومضت سنوات من ليّ ذراع لبنان عبر عقوبات وإجراءات حصار اقتصادي، حتى تلاقت الخيوط باكراً هذا العام على بدء مفاوضات.
ويبدو من اتجاه الأمور في المفاوضات الحالية، أنّها ستكون طويلة والتركيز على الحدود البحرية مع إلقاء نظرة على الخط الأزرق، من دون الذهاب عميقاً في أصل الصراع وحدود اتفاقية «سايكس بيكو»، وما تلاها من ترسميات حدودية. وحسناً فعل الوفد اللبناني بتقديم مستندات ووثائق وخرائط تثبت حق لبنان في حدود مياهه البحرية، وفقاً لقانون البحار المعترف به ويتشبّث بحقّه من مساحته البحرية البالغة 1430 كيلومتراً مربّعاً. ولكنّ الحقيقة القانونية التي يغفلها الجميع، هي أنّ القانون الدولي قد يمنح لبنان الحق في حدود 1920، وليس خط نيوكومب وعلى هذا الأساس يصبح حق لبنان في البر 1600 كلم2 إضافية، وفي البحر 6000 كيلومتر مربع، وليس 860 أو 1430. (هناك سابقة ترسيم الحدود بين الكويت والعراق، عام 1932، والتي أكدت الأمم المتحدة على خطّ 1932، وليس أيّ ترسيم آخر بعد ذلك).

ثالثاً، الملفّات العالقة التي لا يجوز إغفالها
من الأسئلة التي على شرطي السير الإجابة عنها أثناء امتحان التوظيف في كندا، أنّه إذا أوقف سائق سيارة يخالف السرعة وشاهد داخل السيارة مسدّساً، فهل يكتفي بكتابة محضر ضبط بالسرعة ويهمل السلاح داخل السيارة؟ وبالمنطق نفسه، كيف يمكن لوفد لبنان أن يغمض عينيه عن سائر الملفّات ويهتم فقط بالحدود البحرية بمعزل عن كلّ شيء حتى لو كان السبب استثمار ثروة الغاز؟ إنّ إسرائيل احتلّت مساحات شاسعة من لبنان ودخلت عاصمته بيروت ورفضت تطبيق قرارات مجلس الأمن الدولي. وحتى بعدما أجبرتها المقاومة على الانسحاب، عام 2000، عادت إلى شنّ حرب جديدة على لبنان، في تموز / يوليو 2006. ولا يمكن وضع العربة أمام الحصان والتظاهر بترسيم الحدود البحرية، فيما مسائل حقيقية تمنع ذلك، منها أنّ الترسيم النهائي للحدود الجنوبية لا يتمّ إلا بموجب معاهدة سلام، وهو ما لن يحصل بين لبنان وإسرائيل. والترسيم النهائي يحتاج إلى إعادة النظر في الخرائط التي أقرّتها عصبة الأمم، عام 1920، ومساحة لبنان 12000 كلم2، وليس خط نيوكومب - بوليه، الذي تمّ بإرادة احتلال أجنبي فرنسي - بريطاني، ولم يمثّل الدولة اللبنانية. وثانياً، لا يمكن للبنان الرسمي التغاضي عن القرى السبع الشيعية والقرى الثلاث المارونية والقريتين السنيتين، وهي قرى هجّرت القوات الإسرائيلية سكّانها عامَي 1948 و1949، ولا أن يهمل أراضي مزارع شبعا وتلال كفرشوبا المحتلّة التي تتعلّق بقرار مجلس الأمن 242. كما أنّ إسرائيل قتلت 25 ألف لبناني، من عام 1948 إلى عام 2006، وجرحت 50 ألفاً، وهجّرت أكثر من نصف مليون مواطن، وألحقت الأذى والدمار بالقرى والبلدات والمنشآت الحيوية والبنية التحتية اللبنانية، ما قد تصل تكلفته إلى 10 مليارات دولار. لهذه الأسباب الوجيهة الثلاثة، ليس من مصلحة لبنان الاستمرار في مفاوضات عبثية تجعله يتنازل عن حقوقه الثابتة.
* أستاذ جامعي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا