كانت الاحتفالات بمئوية لبنان الكبير باهتة بكلّ معنى الكلمة، بسبب الوضع المعيشي والاقتصادي والسياسي الحالي، في حين لم ينقذ حضور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هذه الاحتفالات من الفشل. وبالرغم من ذلك، لا يزال بعض من يسمّون أنفسهم بالمؤرّخين، يحاولون استنباط الوسائل التي تتيح لهم الاستنتاج بأنّ إنشاء «لبنان الكبير»، إنّما هو إحياءٌ لكيان وهمي كان موجوداً عبر التاريخ. وأنا، هنا، لا أريد أن أُناقش هؤلاء في ما يكتبون، كي لا أدخل في مناقشات عَبَثية مع الذين يحاولون تزوير التاريخ، ونَسب لبنان إلى الفينيقيين وما شاكل، إنّما أحاول أن أتعرّض لنشأة «لبنان الكبير» بُعَيدَ الحرب العالمية الأولى، في عام 1920، طارحاً الحقائق التالية:1 ــ خلال الحكم العثماني، وتحت ضغط الدول الأوروبية، أُنشئ نظام القائمقاميّتين، وبسبب المذابح المعروفة، استُبدِل بنظام المتصرّفية، وكان يقتصر على بعض أجزاءٍ من لبنان الحالي.
2 ــ خلال الحرب العالمية الأولى، عُقد «اتفاق سايكس ـــــــ بيكو»، بتاريخ 6/5/1916، وجرى بموجبه تقسيم ما يُعرف ببلاد الشام بين إنكلترا وفرنسا. هذا الاتفاق الذي أُبقِيَ سرياً، تمّ بالرغم من وعد إنكلترا للشريف حسين بتنصيبه ملِكاً على البلاد العربية، لتحريضه على القيام بثورته ضدّ العثمانيين، والتي انطلقت بقيادة الأمير فيصل، عام 1917.
3 ــ متابعة للتقسيم المذكور أعلاه، جرى إعلان «وعد بلفور»، بتاريخ 8/11/1917، والذي أدّى بالنتيجة إلى قيام الكيان الصهيوني الحالي.
4 ــ كانت لإنكلترا وفرنسا اليد الطولى، ومعهما طبعاً الولايات المتحدة، في عصبة الأمم المتحدة التي أُنشئت عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى. وما كانت اللجان التي أُرسلت إلى المنطقة لاستمزاج آراء سكّانها والوفود التي استُقدمت من هذه المنطقة، إلّا ديكوراً لتنفيذ مشيئة هاتين الدولتين، باستثناء طبعاً الوفود التي أُهملت نتيجة معارضة مشيئتهما.
5 ــ بعد هزيمة الشهيد القائد يوسف العظمة في ميسلون، في معركة غير متكافئة على يد الفرنسيين عام 1920، جرى إعلان «دولة لبنان الكبير» من قِبَل الاستعمار الفرنسي ممَثّلاً بالجنرال غورو، والذي أطلقت عليه إحدى الصحف اللبنانية، أخيراً، اسم فخامة الجنرال غورو! الكيان الجديد ضمّ، بالإضافة إلى المتصرّفية، عدداً من المدن الساحلية وجبل عامل، وما يُسمّى بالأقضية الأربعة، أي البقاع وبعلبك وراشيا وحاصبيا.
تمّ إنشاء الكيان اللبناني بموجب إرادة المستعمِر الفرنسي وموافقة بعض المواطنين، من دون الحصول على موافقة بعضهم الآخر


6 ــ كان هنالك، ولا شك، دور مهم للبطريرك حويك في تحديد بعض تفاصيل حدود الكيان اللبناني. ولكن مع مرور الزمن أُعطي هذا الدورُ أهميةً مُبالغاً فيها، إذ أنّ الفرنسيين كان يهمّهم تقسيم حصّتهم من بلاد الشام إلى أعلى درجة ممكنة، حتى إنّهم قسّموا سوريا الحالية إلى عدّة أقسام سُمّيت بدول، وهي دول دمشق وحلب واللاذقية والسويداء. وما زلت أحتفظ حتى اليوم، بوثيقة تقاعد والدي توفيق التي تفصل خدمته في سوريا، التي استمرّت 22 عاماً، والورقة إياها صادرة عن دولة اللاذقية مشطوبة، وفوقها كلمة محافظة.
7 ــ أُنشئ هذا الكيان، بالرغم من معارضة قسمٍ كبير، أو لعلّه الأكبر من المواطنين، وجلّهم من المسلمين الذين كانوا يطالبون بالانضمام إلى سوريا. ولقد عُقِدت مؤتمرات عدّة لرفض الهوية اللبنانية، والمطالبة بالوحدة مع سوريا، وكان فيها ممثلون من بيروت، طرابلس، عكار، صيدا، صور وجبل عامل، والأقضية الأربعة، واستمرّ هذا الخلاف بين معظم المسلمين ومعظم المسيحيين، إلى أن انتهى بالاستقلال عام 1943، الذي وحّد بين الجميع.
8 ــ الاستعمار الفرنسي، الذي يُصِرّ البعض على تسميته بالانتداب تخفيفاً لوطأته، كان هو الحاكم الفعلي والمطلق للبنان. وبصفته تلك، كان له دورٌ كبير في إحياء الطائفية في لبنان، وليس أدلّ على ذلك من أنّ الشيخ محمد الجسر، الذي كان يرأس المجلس النيابي في ذلك الحين، ترشّح عام 1929 لمنصب رئيس الجمهورية، من دون أن يحصل على موافقة الفرنسيين طبعاً. فما كان من هؤلاء إلّا أن سارعوا، بعد خوفهم من أن يحصل الجسر على الأغلبية في مجلس النواب، إلى تعليق الدستور وحلّ المجلس، وفي ذلك إثبات قاطع على سيطرتهم المطلقة على لبنان.
ماذا يعني كلّ ذلك؟ بالنسبة إليّ، إنّ إنشاء الكيان اللبناني تمّ بموجب إرادة المستعمِر الفرنسي وموافقة بعض المواطنين، من دون الحصول على موافقة بعضهم الآخر، ولذلك، لا يمكنني أن أعترف بهذا الكيان وبمئويته. أما، وإنّ استقلال لبنان قد تمّ بإجماع مواطنيه في 22/11/1943، فإنني أعتبر أنّ هذا الكيان اكتسب شرعيّته حينئذ. ولذلك، يحقّ لي الاعتراف بشرعيّته هذا على أساس أنّه جزء لا يتجزّأ من الوطن العربي. ولذلك، فإنني أفتخر بكوني مواطناً لبنانياً عربياً، أُجهر بمحاربة الطائفية التي منعت هذا الكيان من تحويله إلى دولة، بعد 77 عاماً من إجماع المواطنين عليه.

* كاتب وسياسي لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا