يشهد العالم موجة انتفاضات شعبية كبيرة واعتراضات عفوية حاشدة، وغالباً من دون قائد سياسي، تجيب كلّ واحدة منها على إشكالية وطنية غير أنها كلّها عندها نقاط مشتركة.فرنسا تشرين الأول/ أكتوبر 2018، كتالونيا تشرين الأول/ أكتوبر 2019، الجزائر شباط/ فبراير 2019، بورتوريكو تموز/ يوليو 2019، هونغ كونغ آذار/ مارس 2019، السودان كانون الأول/ ديسمبر 2018، إيران تشرين الثاني/ أكتوبر 2019، هايتي كانون الثاني/ يناير 2018، هوندوراس، العراق تشرين الأول/ أكتوبر 2019، كازخستان، كولومبيا تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، غينيا، باناها، الأكوادور، تشيلي تشرين الأول/ أكتوبر 2019، لبنان تشرين الأول/ أكتوبر 2019. الآلاف والملايين وبدا العالم في غليان.
وإذا كانت الأطر الجيوسياسية تختلف، فإنّ هذه الانتفاضات تأخذ جذورها من المصدر نفسه: خيبة أمل الشعب تجاه نظام لم يعد يفهمه، وعدم الرضى العميق. جذور الغضب المتعدّدة ولدتها شرارة غالباً ما تكون عبارة عن تدبير غير اجتماعي يضع النار في البارود، وباستطاعة الحكومة التراجع عنه، كما حصل في فرنسا ولبنان والإكوادور والعراق وهونغ كونغ...
مع ذلك، تستمر الانتفاضات وتتوسّع، وهذه نقطة تشابه. في فرنسا، الشرارة التي كانت وراء اشتعال التحرّكات هي ارتفاع الضريبة على المحروقات، في تشيلي زيادة في سعر بطاقة المترو، أما في السودان فقد كان انفجار سعر الخبز، وفي لبنان قرار زيادة الرسم على تطبيق «واتساب».
إنها موجة ثورية عالمية غير مسبوقة منذ مدّة طويلة، تغذّيها سياقات قائمة، كالأزمة الشاملة لعام 2008 وخصوصاً الثورات العربية (الربيع العربي). وكان توسّع الثورات العربية باتجاه السودان والجزائر وارتدادها إلى العراق ولبنان، وأصابت أيضاً مصر مع موجة تظاهرات سياسية قُمعت بسرعة، كما تتابعت في إدلب ودرعا، وهناك أيضاً حالات قديمة أدت إلى الوصول إلى اللحظة الثورية في هايتي ونيكاراغوا وفنزويلا التي شهدت جماهير يدفعها الجوع والإهانة، فقامت ضدّ السلطات الفاسدة. ثم امتدت الحالات الثورية إلى بوليفيا وكولومبيا ووصلت إلى إيران. كما أصابت الموجة دولة أفريقية هي غينيا، وأصابت في أوروبا تشيكيا (تظاهرات لوجه الحكومة) وكتالونيا (عودة التعبئة الوطنية) وفرنسا (السترات الصفراء).
هذه الحالات الثورية بدون أيدولوجيا محدّدة، اكتفت برفع شعارات الحرية والعدالة والكرامة، وإسقاط الأنظمة ومحاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين واسترجاع الأموال المنهوبة.

1 ـــ في سلمية الحراك:
عام 1986، قامت مسيرات شعبية ملايينية في ثورة أسقطت نظام ماركوس بعد أربعة أيام، وإلى جانب مانيلا قامت ثورة الغناء في أستونيا أواخر الثمانينات، وثورة الورود عام 2003، حيث أجبر السكان في جورجيا الرئيس شيفرنازه على الاستقالة باحتلال البرلمان بالورود. وعام 2019، أعلن الرئيس السوداني عمر البشير، والجزائري بوتفليقة التنحّي عن السلطة، التي ظلّا ممسكين بها لعقود، وذلك تحت ضغط الحراك الشعبي السلمي.
وفي هذا السياق، نشرت الباحثتان تشينويث وستيفن، نتائج دراسة في كتابهما: «لماذا تنجح المقاومة المدنية: الأسباب الإستراتيجية وراء نجاح النزاع السلمي». وفق تشينويث، يتنافى مع سلمية الحراك إلقاء قنابل أو وقوع عمليات خطف أو إتلاف البنية التحتية أو أي إضرار بالأشخاص أو الممتلكات... وخلصت إلى أنّ فرص نجاح الحراك الشعبي السلمي، أعلى من فرص نجاح الاحتجاج غير السلمي في تحقيق أهدافه بمقدار الضعف. وقد قاد الحراك الشعبي السلمي إلى التغيير السياسي في 53% من الحالات، في مقابل 26% فقط للاحتجاجات العنفية.
إذا كانت الأطر الجيوسياسية تختلف فإنّ هذه الانتفاضات تأخذ جذورها من المصدر نفسه


وترجّع تشينويث ارتفاع فرص نجاح الحراك السلمي إلى قدرة منظميه على حشد عدد أكبر من المشاركين من قطاعات عريضة من السكان، ما يؤدّي إلى تعطيل المرافق العمومية وإصابة الحياة اليومية والاجتماعية بالشلل. في المجمل، يستقطب الحراك السلمي نحو أربعة أضعاف الأعداد التي تستقطبها الاحتجاجات العنيفة، لأنّ الحراك الشعبي يستمدّ قوته من أعداد المشاركين فيه بحيث يمثّل تهديداً حقيقياً للسلطات. وبمجرّد ما يصل عدد المشاركين الى 3.5% من إجمالي عدد السكان، فإنّ نجاح الثورة يتحقّق لا محالة. إضافة إلى ما تقدّم، لم يفشل أي حراك حقّق 3.5% من المشاركة في الذروة. كما أنّ الحراك السلمي الذي تشارك فيه قطاعات واسعة من الشعب، يحظى بتأييد عناصر الشرطة والجيش المكلّفين الحفاظ على النظام.

2 ــ في التزامن:
ليست هذه المرّة الأولى التي يظهر فيها بوضوح وجود تزامن دولي للانتفاضات وللثورات. أولى هذه الموجات كانت في الربع الأخير من القرن الثامن عشر مع اشتعال الثورة الأميركية 1776، ثم الثورة الفرنسية 1789، تبعتها ثورة هايتي 1804، ثم ثورات أميركا اللاتينية 1810 ـــــ 1821.
ثم الموجة الثانية مع الثورة الأوروبية 1848 (فرنسا، ألمانيا، هنغاريا، النمسا وإنكلترا). وبين عامي 1820 و1848، سلسلة ثورات في أوروبا الغربية (البرتغال، إسبانيا، نابولي، اليونان 1821، فرنسا 1830و1848). 1917-1919 روسيا، ألمانيا، هنغاريا. 1968 حركة عالمية: اليابان، المكسيك وأوروبا. وفي 1989، دول أوروبا الشرقية. أما في عام 2011، فقد كان «الربيع العربي» (تونس، مصر، ليبيا، اليمن، سوريا، البحرين).
في 17 تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2019، اندلعت انتفاضة شعبية في لبنان، ستكون مهمّتها صعبة ومعقّدة لأسباب تتعلّق بطبيعة النظام الطائفي المتجذّر، واختراقها من قبل بعض من الطبقة السياسية، إضافة إلى ارتباطها بمناخات الصراع الإقليمي الساخن، وغياب قائد أو قيادات أو حتى مشروع أو رؤية سياسية موحّدة لمكوّناتها. ذلك لا ينفي أحقّية مطالبها المعبّرة عن السواد الأعظم من اللبنانيين. إنّ اندلاع الانتفاضة في لحظة إقليمية حاسمة، قد يجعل منها مقدّمة لإجراء عملية تغييرية جذرية تؤسّس لنظام سياسي جديد، من خلال مؤتمر تأسيسي بات حاجة ملحّة للجميع، مؤتمر يصنعه الأقوياء والمنتصرون من الطبقة السياسية، والمنتفضون عليها، على وقع الصفقة المتوقعة بين إيران والولايات المتحدة.

* الأمين العام للمركز اللبناني للدراسات الاستراتيجية

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا