كشفت انتفاضة 17 تشرين الأول / أكتوبر 2019 (وما سبقها من حراك شعبي منذ بضع سنوات)، أنّ قواعد الانتفاضة الشعبية المشكّلة لجمهور قوى التغيير والانتفاض الجذرية (الشيوعية والاشتراكية واليسارية والقومية عموماً) على ضعف كبير بالقياس إلى جمهور أحزاب وتيارات الطبقة الحاكمة، وهي تشكيلات عصبية طائفية دينية أو مذهبية، أو طائفية شبه دينية وشبه مذهبية، وعلى أيديولوجيا نيوليبرالية في الآن ذاته. فما الذي حصل؟ ولماذا وصلنا إلى هذه الحال بعد حوالى نصف قرن على الحرب الأهلية التي اندلعت في عام 1975؟ في حينه، كانت قواعد القوى اليسارية والقومية والتقدمية واسعة الانتشار، وهي على أيديولوجيا علمانية لحدّ كبير، مقابل قوى طائفية ضعيفة الحضور والفعّالية في وسط الجماهير الشعبية لشتّى فئات المجتمع اللبناني ومناطقه.
«حدث ذات مرّة -2» (2013) لوحة زيتية للفنان THEOS - موناكو (100x100x2 سنتم)

عبّرت لحظة انفجار الحرب الأهلية، عام 1975، عن تطوّر عميق في الوضع اللبناني ميّزته المحالفة العضوية بين المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية (البرنامج المرحلي...، تشكيل القوات المشتركة). وباتت الدولة اللبنانية مهدّدة بكاملها بالسقوط، مع انهيار عسكري للمحالفة التي كوّنها حزب «الكتائب اللبنانية» وحزب «الوطنيين الأحرار»، المدعومة أميركياً وإسرائيلياً وخليجياً. وجاء التفاهم الأميركي ــــــ السعودي ــــــ السوري، ليوجّه ضربة قوية إلى المحالفة اللبنانية ــــــ الفلسطينية، مع تشكيل قوات الردع العربية، بعد تكليف سوريا بوضع حدّ لقدرة هذه المحالفة، عبر إدخال 30 ألف جندي سوري إلى لبنان. يعتبر البعض أنّ هذا التطوّر (الدور السوري ومفاعيله العسكرية والسياسية، حتى «اتفاق الطائف» وتطبيقاته)، بتضافره مع الثورة الخمينية في إيران وانعكاساتها اللبنانية (تشكيل حزب الله)، هو الذي عدّل بمزاج الجماهير الشعبية اللبنانية، وعمّم الفكر الطائفي ومهّد الطريق أمام نشوء وتوسّع التشكيلات السياسية الطائفية، وأدّى بالتالي (بالقمع والإفساد والتطييف وخلاف ذلك) إلى ضمور الجمهور اليساري العلماني والتحرّري.
إنّ هذا التحليل، على ما فيه من جوانب فاعليّتها صحيحة، يبقى متسرّعاً ويتجنّب المسألة الأساسية في عملية توسع هيمنة الفكر النيوليبرالي باللباس الطائفي. فكيف تسنّى للطائفية أن تخرج من قمقم صغير لدى المسيحيين (الموارنة) بداية، وتتعمّم لاحقاً عبر أنوية صغيرة لدى بقية الطوائف لتصبح لاحقاً الأيديولوجيا المسيطرة؟ إنّ تفسير انتصار الطائفية يكمن في حقيقة أنّ قادة الطوائف النيوليبراليين قد بذلوا الكثير من الجهود من أجل تحقيق هذا «التغيير العميق» البالغ الضرر والسوء. لقد فهموا ما سبق للتقدميين أن فهموه، ومارسوه قبيل الحرب الأهلية 1975 (والذي غاب عن اهتمامهم لاحقاً، ما عدا حالات قليلة، أبرزها ما عبّر عنه المناضل الشهيد مهدي عامل): إنّ للأفكار فعلها العظيم. لقد خلق ليبراليو كلّ طائفة شبكة ضخمة من المؤسسات والمعاهد ومراكز البحوث والمنشورات والباحثين والكتاب والخبراء في العلاقات العامة، وأجهزة إعلام مكتوب ومسموع ومرئي...، من أجل عرض مستمر لأفكارهم الطائفية ولفت الانتباه إليها واستقطاب الجماهير.
بنى ليبراليو الطوائف إطاراً أيديولوجياً (طائفياً) عظيم الفعّالية، لأنّهم فهموا (بمعرفة منهم أو بدونها) قصد المفكر الماركسي الإيطالي انطونيو غرامشي، عندما وضع مفهومه عن الهيمنة الثقافية: إذا استطعت الدخول إلى رؤوس الناس استطعت التحكّم بقلوبهم وأفعالهم؛ كما فهموا قول ماركس: كلّ ما يفعله الناس يمرّ بالضرورة في رؤوسهم. لا يتّسع الوقت لعرض تفاصيل هذا العمل هنا (وهو بحث جدير بالاهتمام). ولكنّ العمل الأيديولوجي والتعبوي الطائفي، الذي قامت به قوى الليبرالية، كان هائلاً فعلياً. لقد أنفقوا مئات ملايين الدولارات، ولكنّ النتيجة التي وصلوا إليها استحقت العناء، لأنّهم جعلوا الطائفية كأنّها الشرط «الطبيعي» للإنسان اللبناني. ولا يهم كثيراً عدد الكوارث من كل الأنواع التي أدى إليها النظام الطائفي، ولا يهمّ حجم الخاسرين والمبعدين من جراء هذا النظام، فكلّ شيء يتمّ تصويره وكأن هذا النظام الطائفي حتمي، كقدر سماوي، إنه النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الوحيد المطروح أمام اللبنانيين.

المثقّف ودروه
لا بدّ من التشديد على أهمية فهم أنّ هذه التجربة النظرية الطائفية ـــــــ النيوليبرالية الضخمة، التي نُجبر جميعنا على خوضها، قد خلقها رجال لهم تصميمهم ومقاصدهم. وما إن ندرك ذلك، أي أن ندرك أنّ الطائفية ليست قوة شبيهة بالجاذبية، بل هي بناء اصطناعي لحدّ كبير، حتى ندرك أنّ ما صنعه البعض، يمكن للبعض الآخر تغييره. ولكنّهم لا يستطيعون ذلك إذا لم يعترفوا بأهمية الأفكار. ومن هنا، دعوتنا المثقفين للقيام بدورهم في نقد الطائفية (والنيوليبرالية) والدعوة إلى نقيضها في المواطنة والدولة المدنية والعلمانية. ولما كانت الدعوة الطائفية هي الوسيلة التعبوية لاستتباع الجماهير (تنظيمها في أحزاب وتيارات سياسية) خلف الطبقة السائدة (محالفة الاحتكارات العقارية والتجارية وحيتان المال)، كان لزاماً على المثقفين الكشف عن حقيقة الطوائف ووظيفتها السياسية، وفضح زيف تمثيلها لمصالح الجماهير الشعبية.
هنا تكمن الوظيفة الأساسية للمثقف: «عمل المثقف هو فعل إزالة الخداع (كشف الأوهام démystification): المقصود مسألة تقييم وتبيان الفجوة القائمة بين القيم المعترف بها باعتبارها حاسمة من قبل النظام السائد وغياب تحقيقها القانوني والإداري والاجتماعي. إنّها مسألة تطوير نقد الواقع القائم، بالكلمة الشفهية والمكتوبة...» (1)؛ (مثلاً، ما جاء في «اتفاق الطائف» لجهة إلغاء الطائفية السياسية والانتخابات خارج القيد الطائفي...). وعلى العموم، المثقف هو مفكر أو كاتب يتدخّل في النقاش العام حول المسائل السياسية، بالمعنى الأوسع للكلمة.
إنّ قراءتنا لهيمنة الأفكار الطائفية تستلزم قراءة دور المثقفين في القيام بواجبهم في نقد ونقض الطائفية


إنّ قراءتنا لهيمنة الأفكار الطائفية تستلزم قراءة دور المثقفين في القيام بواجبهم في نقد ونقض الطائفية، أو تخاذلهم عن مواجهة القادة النيوليبراليين بلباسهم الطائفي، إن لم نقل التحاقهم بهؤلاء القادة مبرّرين حضورهم ودورهم السياسي والثقافي معاً. ومن بين هؤلاء المثقفين، لا بدّ من البدء بالجامعيين والتركيز عليهم، بوصفهم أهل المعرفة العالمة، فالمفكر الجامعي يخضع لقواعد المعرفة المتخصّصة. هذا مع العلم أنّ المثقف الجامعي (الخبير) قد يخضع للمنطق التجاري لوسائل الإعلام ودور النشر، كما قد يلتحق في خدمة القيادات السياسة النيوليبرالية.
إنّ المثقفين الجامعيين يتصدّرون على العموم الفضاءات الإعلامية والتعبوية. ومن بين هؤلاء الجامعيين، يحتل السوسيولوجيون منهم بالتحديد، المكانة الأولى باعتبارهم من أهم وأخطر المثقفين الجامعيين. وذلك على اعتبار أنّ فرعَي السوسيولوجيا والفلسفة، هما من أخطر وأفعل فروع المعرفة في العلوم الإنسانية، لجهة الدور التعبوي والفعّالية المجتمعية. ولهذا، فالسوسيولوجيون هم الأكثر كفاءة وأهلية في «كشف الأوهام» التي تحكم الحياة الاجتماعية، وخصوصاً في دائرتها السياسية. إنّ للمثقف السوسيولوجي، بحكم طبيعة اختصاصه، ما يضفي شرعية معرفية على كفاءة تدخله في «كشف الأوهام» بقضايا المجال العام، وبالقضايا السياسية خاصة.

السوسيولوجيا والسياسة والموضوعية
غاية السوسيولوجيا الفعل والتأثير في الحياة الاجتماعية، فالسوسيولوجيا ليست بمعيار الفن للفن، أو العلم للعلم، والموضوعية والحياد. لعلّ مؤسّسي السوسيولوجيا أفصح تعبيراً عن غايتها العملية. فالغرض العملي علّة وجودها. وها هو أبو السوسيولوجيا أوغست كونت، يقول في رسالة لصديقه فالا، بتاريخ 24 أيلول / سبتمبر 1819: «نعرف لنخدم... لنكن على صلة بالناس حتى نعمل على تحسين مصيرهم... لم أكن لأقوم بالبحث العلمي، إلّا نادراً، لو لم تكن منفعته للجنس البشري حاضرة في ذهني على الدوام» (2). ويكرّر دوركايم الموقف نفسه بقوله: «لكن محاولتنا دراسة الواقع قبل كلّ شيء آخر، لا ينشأ عنها أن نعدل عن تحسينه. إننا نعتبر أنّ مباحثنا لا تستحق ساعة واحدة من العناء، إذا هي كانت لا تهدف إلا لغاية نظرية. ولئن كنّا نفصل بعناية بين المشاكل النظرية والمشاكل العملية، فليس ذلك لكي نهمل هذه الأخيرة، بل على العكس، لكي نكون في وضع يساعدنا على حلها بشكل أفضل» (3).
إن سوسيولوجيا المؤسسين نفسها طرحت وظيفة للسوسيولوجيا بشكل أخرجها من سياق الحتمية المبرّرة لنشوء هذا العلم، ومن سياق حتمية تطوّر الظواهر الاجتماعية، وأدخلها في سياق الفعل التغييري الخاضع للإرادات عندما عيّن وظيفتها في التدخل الاجتماعي مباشرة، ما أفقدها السمات العلمية في الموضوعية والحياد. وها هو أوغست كونت (أبو السوسيولوجيا باعتراف جميع الاتجاهات السوسيولوجية) يحدّد لنا طبيعة علمه الاجتماعي في تعريفه للفلسفة الوضعية (السوسيولوجيا) بقوله: «تتألّف الوضعية أساساً من فلسفة وسياسة متلازمتين بالضرورة، بحيث تشكل الأولى قاعدة والثانية هدفاً لنظام كوني واحد...» (4). ومنذ أن تأسست السوسيولوجيا حملت بذاتها وظيفتها العملية، علّة وجودها. ولم تكن مجرد علم يقول بحتمية القوانين الاجتماعية، بل يستلزم الدعوة إلى التدخل الإرادي في التغيير الاجتماعي. ولكم كان كونت أميناً للمثل الفرنسي الشائع: «نعرف لنتوقع، ونتوقع لنتحكم».
ولقد ازداد على مرّ الزمن الاعتراف الجدي بالغاية العملية (لا التفسيرية فحسب) للسوسيولوجيا، حتى بلغ أروقة الأمم المتحدة ومؤسّساتها (قبل انهيارها مع عملية غزو العراق في عام 2003، وسقوطها بسقوط نظام صدام حسين على حد عبارات أمير الظلام ريتشارد بيرل)، وأنيط بها «تحرير الكرة الأرضية من البؤس والاستغلال والجهل والركود والإذلال»، كما قال رينيه ماهو René Maheu في مقدمة المؤلّف الذي أشرفت على وضعه ونشره الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ مطلع الستينيات من القرن الماضي (5).
ومن الجدير هنا ملاحظة أنّ هذه الوظيفة العملية (السياسية) للسوسيولوجيا أفقدتها شرطاً أساسياً من شروط علمية العلوم: الموضوعية والحياد. فالانحياز ملازم تكويني للسوسيولوجيا مع أبي العلم الاجتماعي (أوغست كونت)، عندما حرّض على أهل السلطة المسؤولين عن «المصير البائس للطبقة العاملة» ونعتهم بـ«الفاسدين» و«العاطلين عن العمل»، الذين يعيشون من «نهب عمل المنتجين»، واعتبر أنّ انتشار الفكر الوضعي (السوسيولوجيا) لن يقوم به غير تحالف الفلاسفة مع النساء والبروليتاريا. هذا بينما قام المبشّر بالسوسيولوجيا، سان ــــــ سيمون، مع وضعه مؤلفه «الفيزيولوجيا الاجتماعية» وسائر كتاباته، بالتحريض على مالكي وسائل الإنتاج وعلى القابضين على السلطة السياسية (الطبقة الإقطاعية ومفكريها من إكليروس وحقوقيين وميتافيزيائيين) ووصفهم بالطفيليات الاجتماعية، والبطّالين، والقائمين بالأعمال غير النافعة.

إرهاصات سان ــــــ سيمون: «الطليعة»، «المثقف العضوي»، «المثقف الجماعي»
لعلّ سان سيمون أول من استعمل، في العقد الثاني من القرن التاسع عشر، تعبير المثقف، وإن يكن بصيغة الجمع (Intellectuels)، وذلك قبل أكثر من سبعة عقود على إطلاق كليمنصو (G. Clemenceau) تسمية المثقفين على الكتّاب والصحافيين المدافعين عن الضابط دريفوس (Dreyfus)، في قضية اتهامه بالتجسس ومحاكمته بتهمة الخيانة، ومن ثم تبرئته.
وضع ألين لو غيادر (Alain Le Guyader) مقالاً بعنوان: «سان سيمون: نشوء المثقف العضوي للمجتمع الصناعي» (6). بيّن المؤلف أنّ سان سيمون يعتبر المثقف بمثابة المصلح الاجتماعي، المثقف حامل للعلم الاجتماعي ما يعطيه حقيقته البروميثيوسية (prométhéenne)، الخلّاقة. استعمل عبارة المثقف بصيغة الجمع وبمعنى نقدي، ليشير إلى الإكليروس والميتافيزيائيين والحقوقيين الذين كان يودّ نقد هيمنتهم الأيديولوجية في المجتمع.
يبدو سان ــــــ سيمون بالتحديد، بمثابة «المثقّف العضوي» للمجتمع الصناعي. وهو يجسّد مثقف الطليعة المندمج بالإعلان عن ولادة مجتمع جديد. مهمة «المثقّف العضوي الدعوة لانتزاع السلطات السياسية من أيدي الإكليروس والنبلاء والحقوقيين، وإناطتها بالصناعيين» (7).
ابتكر سان ـــــــ سيمون مفهوم «الطليعة» (avant-garde)، ومفهوم «حزب المنتجين»، و«المجتمع الصناعي». وفي ذلك يقول: «آن أوان الزمن الذي سيتخذ فيه الصراع طابعه الفعلي. إن حزب المنتجين لن يتأخّر في الظهور» (8). يضمّ حزب المنتجين: العلماء والفنانين، من جهة، والمزارعين والصنّاع والتجّار الذين يشكّلون القادة الفعليين للأمة. يضمّ الفنانون الشعراء والرسامين والموسيقيين والأدباء، وكلّ من له علاقة بالإحساس، وأصحاب المخيّلة الواسعة. وفي حوار بين فنان وصناعي وعالم، يقول سان ــــــ سيمون: «نحن، الفنانين سنكون بمثابة طليعة لكم: إن قوة الفنون هي في الواقع الأسرع والأكثر إلحاحاً. لدينا أسلحة من جميع الأنواع: عندما نريد نشر أفكار جديدة بين الناس، فإننا نكتبها على الرخام أو على القماش. نجعلها معمّمة بالشعر والغناء... أي مصير أفضل للفنون من أن تثير في المجتمع قوة إيجابية، هداية فعلية، تتقدم جميع الكليات الفكرية...!». ويبدو أنّه أول من استخدم مفهوم «الطليعة» في كتيّبه «آراء أدبية وفلسفية وصناعية». وهو يجعل من المثقّفين جماعة واحدة، كأنه يدعو إلى «المثقف الجماعي» (على نمط بورديو، لا نمط غرامشي ـــــــ تولياتي) الذي يشكّل «الطليعة»: «أدعو المثقفين الوضعيين (الإيجابيين) إلى الاتحاد ومزج جهودهم للشروع بهجوم شامل ونهائي على الأحكام المسبقة، بدءاً بترتيب النظام الصناعي، كما أطلب من الصناعيين، وهم الأغنى والأكثر وضعية (إيجابية) إلى الاتحاد ليقدّموا الوسائل لمثقفيهم لوضع وطباعة العمل العلمي الذي يحتاجون إليه» (9).

هل تنطبق على سوسيولوجيي فرع معهد العلوم الاجتماعية في الشمال، سمة المثقّف في شكله الأصيل الذي طرح إرهاصاته سان ــ سيمون


توقفنا طويلاً نسبياً مع سان ـــــــ سيمون، وهو مجرّد المبشّر بالسوسيولوجيا، لأنّه كان يحمل في ذاته الاحتمالات النظرية الأساسية التي لا تزال راهنة في السوسيولوجيا: إنه يقف، باختصار، على مستديرة طرق تؤدي إلى الليبرالية البرجوازية، والاشتراكية العمالية، والتكنوقراطية. وفي هذا بالضبط، تكمن عبقريّته الحدسية والتوقعية، ذلك أنّ الأنتلجنسيا لا تزال في بداية القرن الواحد والعشرين، متردّدة بين موقف الخضوع لقانون السوق (الليبرالية والنيوليبرالية)، والطموح بالثورة الاجتماعية (الاشتراكية) والميل المتّجه نحو سلطة المعرفة (التكنوقراطية). هذا فضلاً عن افتتاحه الكلام في مفهوم المثقف وإرهاصاته في المثقف «العضوي» و«الجماعي» ودورهما، وهذا ما استأنفته السوسيولوجيا الحديثة، بعد غرامشي (10)، منذ أواخر القرن العشرين.

بيار بورديو: المثقّف بمثابة «المناضل العلمي»
اختصر أنطوان دو غودمار (Antoine de Gaudemar)، في مقال له في جريدة «ليبيراسيون» (Libération) الفرنسية (11)، مشروع السوسيولوجي بيار بورديو، بشأن العلاقة بين المثقف والسوسيولوجيا، بتأكيده أن غرض بورديو، وهو على رأس شبكة من الباحثين والمجلات... ودار نشر، هو: «استخدام العمل العلمي كسلاح سياسي».
يحدّد السوسيولوجي (بورديو) هذا المشروع في السياسة والنشر بجملة واحدة: تدمير الحدود بين العمل العلمي والنشاط النضالي، و«إعادة تأهيل النقاش» والتدخّل في المسائل السياسية والاجتماعية الراهنة بمؤلّفات كثيفة من شأنها أن تشكّل، شيئاً فشيئاً، نوعاً من موسوعة شعبية عالمية. وهو يؤكد: لقد تغيّر الزمن: انتهى «الحياد» المفترض للعلم، والفصل بين موضوعية الباحث العلمي والقناعة الشخصية للمناضل. والنتيجة، هي تقاطع غير مسبوق بين النزعة العلمية والنزعة النضالية. يعمل التداول بين الفضاء العلمي والفضاء النضالي في اتجاهين. فالخطاب العالِم يقوِّي مشروعية الخطاب النضالي، ويوفّر الخبرة المضادة لما هو سائد ويزيد من «تأثير نفوذها». في الوقت نفسه، يوفّر الاستثمار في النشر الملتزم الطريقة المفضّلة للمثقفين للتأثير في المجال السياسي، وللربط بين عملهم البحثي وقناعاتهم. ويضيف: لقد حان الوقت لظهور المثقف «الجماعي»، الذي يجمع بين التزام سارتر (المثقف الملتزم) وتصور فوكو (Foucault) عن «المثقف الخاص» في شكل أصيل، وهو «المناضل العلمي».

سوسيولوجيو الفرع الثالث لـ«معهد العلوم الاجتماعية» ـــــــ الجامعة اللبنانية
هل تنطبق على سوسيولوجيي فرع معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية في الشمال، سمة المثقّف في شكله الأصيل الذي طرح إرهاصاته سان ــــــ سيمون المبشّر الأول بالسوسيولوجيا، مروراً بالماركسية وغرامشي، وصولاً إلى بورديو: «المناضل العلمي»؟ هل يشتهر سوسيولوجيو هذا المعهد بـ«النضال العلمي» بوجه النيوليبراليين، الفاسدين والمفسدين؟
بداية نقول: يخال المتجوّل بين ردهات مبنى المعهد في طرابلس، أنّه يتجوّل داخل مبنى مشترك اتفق على بنائه رموز المال السياسي في الشمال، وهم في طليعة من قصدهم منتفضو 17 تشرين بشعار «كلّن يعني كلّن». فقاعة المسرح تحمل من على منبرها، وفي أمكنة أخرى، كتابات بارزة تفيد بأنّ نائب رئيس الحكومة الأسبق، عصام فارس، هو الذي قام بتجهيزها. وقاعة المكتبة تبيّن بوضوح إعلانات بأنّ رئيس الحكومة الأسبق، نجيب ميقاتي، هو من قام بتوفير مستلزماتها. وثمة قاعة ثالثة تقرأ على مدخلها أنّها قاعة المرحوم رمزي الصفدي، ابن الوزير الأسبق، محمد الصفدي. وبالتالي، بدل أن تحمل هذه القاعات أسماء العظام من المفكّرين، كما هي التقاليد الجامعية في عالم العلم والمعرفة، تحمل قاعات معهد العلوم الاجتماعية في الشمال أسماء رموز حيتان المال المشهورين بتهمة الفساد والإفساد المعمّم. مع أنّ كلّ ما أنفقته هذه الرموز لا يعادل أجر شهر واحد لهذا المبنى الذي بُني بطريقة «التهريب» (وفي زمن الكلام على البناء الجامعي الموحّد في الشمال)، لا لأي غرض يؤديه المبنى الجديد، سوى أنّ فيه صفقة سمسرة وتنفيع في استباق وتعطيل لمشروع البناء الجامعي الموحّد في الشمال.
أن تحمل القاعات أسماء رموز المال السياسي، فتلك مجرّد صيغة «أكاديمية» لتحويل دور العلم الحكومية (الرسمية، أي المبنية من أموال الشعب اللبناني) بما فيها من التجهيزات، ومن فيها من أساتذة وعاملين وطلاب، وبأسعار بخسة، إلى «مطبلة» ومطبّلين ومتسولين على أبواب رموز البلوتوقراطية (المالقراطية) اللبنانية. فما العتب على العامة؟ ومن الجدير ذكره أنه لم تكن هناك حاجة ماسة إلى «تسوّل» هذه الخدمات، فالجامعة اللبنانية لم تكن لتعجز عن توفير مستلزمات التجهيز هذه. ولكنّ إدارة المعهد وبعض الأساتذة، تعمّدوا ذلك لتمتين علاقتهم بتلك الرموز السياسية. أوَليس من أفضل سبل الدعاية للسياسيين الليبراليين من حيتان المال، أن تمرّ أجيال الطلبة وهي تشاهد «حسنات» هؤلاء، بحيث يبدو أنه لولاهم لكانت قاعات الجامعة غير جاهزة للاستخدام.
هذا فضلاً عن أنّ البعض من الأساتذة، إنّما يقيمون علاقات سياسية وعلاقات تعاون مع هؤلاء السياسيين. فهذا الأستاذ السوسيولوجي، إنّما يقوم بعرض وبتوقيع كتبه في مراكز جمعيات تعود للبعض من هؤلاء السياسيين. هذا في حين أنّ قاعات جامعته قادرة على توفير مستلزمات هذه الأنشطة. وثمّة أستاذ آخر يقيم أنشطة مشتركة بين جمعيته وجمعية أحد هؤلاء السياسيين، ويُعلن أنّ الجمعيّتَين تقدمان منحاً سنوية للطلاب. ولكم تفتّقت عبقرية «سوسيولوجيي» معهد العلوم الاجتماعية في الشمال، وتداعت لعقد مؤتمرات بمشاركة ممثلين لهؤلاء السياسيين. وكثيراً ما كانت ترد أسماء جميع المداخلين في هذه المؤتمرات، مقرونة بصفتهم الأكاديمية فقط (الجامعة التي يعملون فيها)، باستثناء ممثلي السياسيين، الذين كانت تأتي صفتهم كممثلين لجمعيات تابعة للسياسيين، مع أنّهم يعملون كأساتذة جامعيين.
فأين هؤلاء الأساتذة من «دعوة» النشاط السوسيولوجي، منذ تكوّن هذا العلم مع سان ــــــ سيمون، وصولاً إلى «الدعوة» السوسيولوجية الحديثة مع بورديو، ليكون المثقف السوسيولوجي هو «المناضل العلمي». لم يشكّل لهم مجتمع عاصمة لبنان الثانية موضوعات للبحث السوسيولوجي، بكلّ ما فيه من عناوين استهتار ممثلي الطبقة السائدة (من أبناء الشمال وغيره) بمصالح أفقر فئات الشعب اللبناني وأكثرهم حرماناً. لم تشكّل سلوكيات هذه الطبقة السائدة (برموزها الشمالية) مواضيع بحث لسوسيولوجيي المعهد في الشمال، بل شكلت هذه الرموز، بالعكس، مقصداً لعلاقات تعاون لـ«تبييض» صفحتها وكسب رضاها. ولا شك في أنّ هذه الحال في تخلّف النشاط السوسيولوجي لا تقتصر على الشمال فقط. ولا شك أيضاً في أنّ فيها الكثير من تفسير القصور عن نقد النيوليبرالية والطائفية. وذلك لأنّ سوسيولوجيي معهد العلوم الاجتماعية (في الشمال خصوصاً)، في قسم كبير منهم، من غير صنف «المثقّف المناضل»، و«المناضل العلمي»، بل من صنف «السوسيولوجي الإسخريوطي».

*كاتب لبناني

مراجع:
(1) François Châtelet, «Intellectuel et Société», Encyclopædia Universalis, 12, p 419-422, 1970
(2) Pierre Arnaud, Sociologie de Comte, Paris, puf, p. 7
(3) آميل دوركايم، في تقسيم العمل الاجتماعي، مرجع سابق، ص 44-45
(4) راجع: Auguste Comte, «La science sociale», présentation et introduction de Angèle Kremer-Marietti, éd. Gallimard, Paris, 1972, p. 289
(5) راجع: Paul LAZARSFELD, Tendances principales de la recherché dans les sciences humaines, première partie. Sciences sociales, Préface de René Maheu (directeur général de l’UNESCO), Mouton/ Unesco, Paris, La Haye, 1971
(6) Alain Le Guyader :« C.H. de Saint-Simon : naissance de l’intellectuel organique de la société industrielle » , in : Mercure (D.) et Spurk (J.) (sous la direction de), Le travail dans l’histoire de la pensée occidentale, Montréal : Presses de l’Université Laval, 2003, p 143
(7) G. Gurvitch, C.-H. de Saint-Simon, La physiologie sociale, Oeuvres choisies, Paris, PUF, 1965, p 128
(8) C. H. Saint- Simon, Du Système Industriel, deuxième partie, Paris, chez l’auteur. 1821, p124
(9) Du Système Industriel, Henri Saint- Simon, Paris Chez Antoine – Augustin Renouard, 1821, p. 152
(10) عرضنا في مقالين في جريدة الأخبار مفهوم المثقف العضوي ودوره في بناء الكتلة الشعبية: «غرامشي: المجتمع المدني، الهيمنة الثقافية، المثقف الجماعي»، 20 آذار 2019، و«مقدمة تغيير النظام «كسب العقول والقلوب» وبناء الكتلة الشعبية"، 31 كانون الثاني 2019
(11) Antoine de Gaudemar, « Les petits pavés de Bourdieu », Libération, 16 avril 1998