تتنوع وتختلف مطالب الحراك الشعبي، الذي بدأ في ١٧ تشرين الأول الماضي، وتشمل الفساد والمحسوبية والبيئة واستعادة الأموال المنهوبة وخلق فرص عمل جديدة وغيرها، في بلد وصل الفساد فيه إلى أعلى المستويات، بحسب المقاييس الدولية، بينما تزيد البطالة والبطالة المقنّعة عن أربعين في المئة. كلام الشباب المتظاهر عبّر بطرق مختلفة عن حاجته إلى فرص عمل جديدة، وهو المطلب المركزي عندهم، وسبب ذلك أمران: الأول، وهو أنّ الشباب (وخصوصاً الشابات) يفضّل البقاء في لبنان، ولا يريد تعب الهجرة. والثاني، أنّ الهجرة والعمل في الخارج أصبحا في مطلع العقد الثالث من هذا القرن صعبَي المنال في معظم بلدان العالم، ومستحيلَين في أخرى كانت إلى وقت قريب ترحّب بالقادمين إليها.باختصار، يريد الحراك أن يصبح لبنان دولة حديثة، منتجة غير ريعية. الحراك يريد لبنان وطناً بكلّ ما للكلمة من معنى. الحراك يريد لبنان دولة مدنية. السؤال: من سيحقّق هذه المطالب؟
غالبية أهل السلطة التي حكمت لبنان، منذ أوائل تسعينات القرن الماضي، إلى الذين التحقوا بها بعد الانسحاب السوري من لبنان عام 2005، تجمعهم أهداف واحدة أبرزها احتواء الانتفاضة الشعبية أو قمعها. لهذه الأسباب وغيرها، لن يحقّق أهل السلطة مطالب الحراك، حتى لو أظهروا أنهم يعملون على تحقيقها. السبت الماضي، أو السبت الأسود، كان بداية وليس نهاية القمع. لكن ما يجب التنبّه إليه، هو أنّ الحراك نفسه، لا يمكن أن يستمرّ في مساره من دون نتائج ملموسة. بالفعل، أصبح الناس يعتبرون أنّ الحراك «متلن كلن». لذلك، فهو بحاجة إلى ابتداع آلية تسمح بتحقيق أهدافه وأحلامه كلّها، لا سيما أنّه حتى الآن ليس للحراك مشروعٌ معروف ومتّفق عليه بينهم.
يمكن أن تكون الآلية المطلوبة هي الاتفاق على:
• قانون انتخاب جديد حديث يعطي للبنان برلماناً فيه أكثرية وأقلية، من دون مسّ الميثاقية إلى حين الاتفاق على إصلاحات دستورية، منها إلغاء الطائفية واللامركزية الإدارية.
• قانون انتخاب يمنع احتكار السلطة من قلّة بمفاهيم ضيّقة.
•قانون يساهم في إحياء النظام الديموقراطي في الحياة السياسية اللبنانية.
كل قوانين الانتخابات التي عُمل بها منذ «اتفاق الطائف»، اعتمدت على «اللائحة» التي تفرز ـــ في ظل الواقع الراهن ـــ تكتّلات كبيرة تحتكر تمثيل الطوائف والمذاهب. تفرض نتائج كهذه تشكيل حكومات وحدة وطنية تُعطّل الحياة الديموقراطية الحقيقية، كما تُعطّل أهم وظيفة لمجلس النواب، وهي مراقبة ومحاسبة الحكومة. طبعاً، هناك من يدّعي أنّ الديموقراطية ستنتقل إلى مجلس الوزراء، بعد الاتفاق على تشكيل حكومة ائتلافية. لكن عملياً، فإنّ حكومات الوحدة الوطنية (قبل وبعد الانسحاب السوري) أبعدت مجلس الوزراء كمؤسسة عن الديموقراطية والأنظمة البرلمانية المُعتمدة حول العالم.
من هنا، على الحراك أن يفتّش عن قانون انتخاب يسمح للديموقراطية بالانتعاش. وعلينا أن نعرف أنّ اعتماد النظام النسبي على أساس لبنان دائرة واحدة، اليوم، وفي غياب أحزاب وطنية وعصرية وديموقراطية، سيُعطي نتائج مشابهة للنظام الحالي لأنه يعتمد على نظام اللائحة التي يشكّلها الزعيم.
ليس لنظام «الصوت الواحد للناخب الواحد» احتكار لمسيرة زرع الديموقراطية في بلد متعدّد كلبنان


لكنّ نظام الدائرة الفردية على أساس 128 دائرة هو الأفضل، لكن يستحيل تطبيقه إلّا إذا أُلغي التوزيع الطائفي للنواب، وهذا قد يحصل في حال تم الاتفاق على مجلس للشيوخ على أساس طائفي ومجلس نواب على أسس وطنية.
من الممكن للحراك أن يدرس بتمعّن نظام «الصوت الواحد للناخب الواحد» (one person one vote) في دوائر متعدّدة المقاعد. إنه سهل التطبيق ونتائجه تسمح بممارسة الديموقراطية التي يصبو إليها كلّ اللبنانيين. يمكن تطبيق هذا الاقتراح على الشكل التالي:
1 ـــ يدلي الناخب بصوت واحد لمرشّح واحد، في دائرة فردية أو متعدّدة المقعد. يمكن اعتماد الدوائر المعتمدة منذ ستينات القرن الماضي ـــ أي القضاء عموماً. تبقى مثلاً، لدائرة زحلة سبعة مقاعد: 2 للروم الكاثوليك، واحد لكل من الموارنة والشيعة والروم الأرثوذكس والسنة والأرمن الأرثوذكس. يحقّ لناخب من دائرة زحلة، أيّاً تكن طائفته، أن يختار أحد المرشحين إلى أيّ طائفة انتمى، ويصوّت فقط له وليس لأحد آخر سواه.
2 ـــ يفوز المرشح الذي يحصل على أكبر عدد من أصوات المقترعين بين المرشحين على مقعد أو مقاعد طائفته. بالعودة إلى زحلة، يفوز المرشّحان الكاثوليكيان اللذان يحصلان على أكبر عدد من الأصوات مقارنة بالمرشحين من الطائفة ذاتها، كما يفوز من حصل على أكبر عدد من أصوات الناخبين لكلّ من المقاعد الباقية.
للمشروع المقترح مآثر كثيرة منها:
•يساهم نظام «الصوت الواحد للناخب الواحد»، إلى حدّ كبير في تفعيل النظام البرلماني وتنشيطه وإنعاش الروح الديموقراطية بين النواب.
•يلغي الريع السياسي. يفوز النائب، حزبياً أو مستقلاً، بقوته أو قوة حزبه وليس نتيجة لقوة اللائحة التي ينضم إليها.
•يزيل الأحادية من كلّ الطوائف في مجلس النواب.
•يمنع إقصاء الجماعات الصغيرة، مذهبية أو سياسية، على أن تتمثّل في مجلس النواب.
•يمنع المحاصصة بين التكتلات الكبرى في مجلس النواب عند تشكيل الحكومة.
•ينعش الحياة الديموقراطية إذ إن إزالة الأحادية تزيل حكم الأوليغارشية وتسمح بمشاركة أوسع في الحياة البرلمانية.
•يسمح بوجود أكثرية تحكم وأقلية تعارض، ما يعيد إلى مجلس النواب دور المراقبة والمحاسبة على ما تقوم به الحكومة.
•يؤمّن، إلى حدٍّ بعيد، سلطة تشريعية تُجاري العصر، ويشعر كل لبناني بأنه ممثل فيها.
•يحدث صدمة سياسية قد تساهم، عملياً وفعلياً، في نقل لبنان من عهد الصراع الدامي على السلطة إلى عهد التنافس السياسي، الهادف إلى الوصول إلى السلطة لخدمة المواطن وليس اقتسام المغانم.
•يوقف النظام عمليات نقل النفوس لمصالح انتخابية، كما يوقف التجنيس المبطّن الهادف إلى الإخلال بالتوازن الطائفي والديموغرافي لأغراض انتخابية.
•يسمح النظام بتجاوز الطائفية مع الوقت، لأنّ معه لن تشعر أيّ طائفة مهما كان حجمها بالغبن.
•يحترم القضاء كدائرة انتخابية لكونه عاملاً مؤسّساً في الهوية الإدارية والنيابية في لبنان منذ الاستقلال. مع العلم، أنّ معظم الأنظمة النسبية المقترحة، ومنها النظام الحالي، والتي تقترح لبنان أو المحافظة دائرة انتخابية، تشترط أن يمثل النائب القضاء، وليس الدائرة الانتخابية التي تجمع أكثر من قضاء.
•يخفّف من تأثير المال في الإعلان والإعلام، بالرغم من أنّ قلّة من الأغنياء تستطيع شراء مقاعدها. والجدير بالذكر، أنّ نظام اللائحة لم يمنع الأغنياء من شراء مقاعدهم والمجلس النيابي الحالي يضم الكثير من الأغنياء. الفرق ينحصر في من يحصل على المال، الناخب أم الزعيم.
ليس لنظام «الصوت الواحد للناخب الواحد» احتكار لمسيرة زرع الديموقراطية في بلد متعدّد كلبنان. في الإمكان التقدّم بسيناريوات عدّة لتحقيق الهدف. لكن أجزم أنّ الظهور على شاشات التلفزة للمطالبة بتحقيق المطالب لن يؤدّي إلى تحقيق الأهداف المحقّة التي ينادي بها أهل الحراك.

* سفير لبناني سابق