عرف الآشوريون مملكتهم بـ(الأكدية) ـــ بمات آشور؛ أي أرض أشور ـــ وهي التي سيوسّعونها لتصير إمبراطورية كبيرة، وستظلّ أملاكهم تُعرف ببلاد آشور حتى بعد زوالهم بألف عام لدى الفرس واليونان. سيُشتق منها اسم سوريا اليوم، بينما ظلّت بلاد الرافدين تُعرف بعدهم باسم آشورستان، حتى ثبّت العرب اسم العراق الحالي على البلاد بعد الفتح. لكن كما قال سمير أمين، إنّ الوريث الأهم لهذه التجارب القديمة، ليس أقطارنا بالضرورة، إنما الإسلام كحضارة، وقبلها الكيانات الكبرى التي ورثتهم من فرس وترك وعرب كما يرى كلّ من إيكارت فرام وماريو ليفراني وهما من علماء الآشوريات. لكن، ما الذي دفع الآشوريين إلى تأسيس مثل هذا الكيان الجامع المعروف بـ«الإمبراطورية»؟ ووفق أي فلسفة سياسية أو عقيدة، أدار الآشوريون أملاكهم ورعاياهم؟ هل سعوا لاستغلالهم فقط؟ أم «لإعادة تحضيرهم» أيضاً؟ سبق لنا الحديث عن صرامة الآشوريين وقسوتهم، لذا قرّرنا أن نضع القارئ في سياق هذه التجربة التي هي ـــ بمعنى ما ـــ تجربتنا «الوحدوية الأولى»، فمن سيدقّق في تفاصيل السجلات الآشورية سيجد أنّ كلّ سكان المنطقة قد ساهموا فيها، كما كان الأمر في كلّ الكيانات الإمبراطورية عبر التاريخ، إلّا أنّ هذا ليس ما سنعرضه هنا، إنما سأركز على ثلاث مسائل تَميّز بها الآشوريون، بغية شرحها ووضع القرّاء في سياقها ما أمكن. الأولى، هي مسألة العنف وما يسمّيه الآشوريون بـ«الإحياء»، أي تخريب مناطق بغية إعمارها. المسألة الثانية، هي التنمية أو تطوير المنطقة عبر التهجير وإعادة التوطين (هندسة اجتماعية). أمّا ثالثاً، فتخطيط المدن العملاقة (ميغا سيتيز) كسوق ومراكز صناعية، ولصهر أبناء الإمبراطورية بهوية آشورية جديدة.
غني عن القول هنا، إنّ الملوك الآشوريين ما نهضوا بهذه المشاريع، إلا لخدمة مصالحهم أساساً، وبقدر ما أفادت الملايين من الناس، فقد أضرّت الملايين منهم وهشمت حياتهم بالوقت ذاته، ولعلّ ذلك هو حال كلّ التجارب السياسية الجذرية في التاريخ.

نوايا الملوك وخطط الآلهة
الآن، بالرغم من وجود العشرات من الشواهد النصّية والفنية التي توضح نيات الملوك الآشوريين، لشنّ الحروب وإخضاع السكان، لتطوير الزراعة هنا والحرف والرعي هناك، لفرض الضرائب باسم الإله آشور، إلّا أنه ليس لدينا بيان صريح لتنمية المنطقة.
لكن لدينا الخلفية العقائدية الرافدينية للآشوريين التي تُفسّر أساطيرها العالم على أنّه مكان للفوضى، وأنّ على الملك أن يحارب هذه الفوضى ويقيم نواميس النظام، باسم الإله آشور (كما فعلت الأرباب في الأساطير بعد قتلها الغيلان والوحوش). مهمّة الملك الرافديني فعلياً أن يكمل دور الإله، بأن يضمن أنّ كل إنسان يساهم بالعمل في مجتمعه، ويدفع الضرائب (التي هي بالأصل أضاحٍ للآلهة).
إذاً، الإنسان وفق هذه المعتقدات عبدٌ للعمل على الأرض وهي أمانته في الحياة، لكن كيف تحدّد دوره؟ أيضاً بالعودة إلى الأساطير، حدّد دوره إثر ثورة قامت بها صغار الآلهة التي سئمت الفلاحة والرعي والصناعة على الأرض خدمة للأنوناكي (كبار الآلهة) فثارت. حسم الصراع بخلق عبدٍ يحمل أمانة العمل على الأرض وكان الإنسان، فإن تهرّب منها أو خان حقّ عقابه.
بما أنّ تراث المنطقة واحد، فهل أنّ معنى هذه الآية الغامضة (بالنسبة لي)، هو أمانة عمارة الأرض كما في أساطير الرافدين، إذ تقول:
«إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولا» سورة الأحزاب 72، القرآن

نهاية حضارة البرونز
«أعدت أهالي آشور المرهقين لمدنهم التي هجروها لديار أخرى بفعل المجاعة، بنيت القصور بكل مقاطعة، وربطت المحراث (بالدواب) مراكماً حنطة أكثر من أي وقت مضى»
الملك آشور دان (934 ق.م ـــ 912 ق.م)
قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام، سيواجه الآشوريون وعلى مدى ثلاثة قرون (934 ق.م ـــ 609 ق.م) مهمّة مستحيلة، وهي إعادة سكّان المنطقة إلى النشاط الزراعي، وتنظيم التجارة، عقب كارثة انهيار الحضارة الكبير حوالى سنة 1177 ق.م. تُعرف هذه الكارثة لدى الأركيولوجيين بأزمة نهاية العصر البرونزي، حيث تعرّضت المنطقة إلى الجفاف والمجاعة وغزوات شعوب البحر. ما أدى إلى انهيار الدول الكبرى التي كانت تتقاسم العالم القديم.
سيخرج الآشوريون وحدهم أقل تضرراً من غيرهم، لكنّهم سيخسرون مقاطعاتهم الغربية على الفرات، وسيواجهون واقعاً صعباً. خطوط التجارة يتنافس عليها «ملوك طوائف»، وتهدّدها شعوب رعوية جديدة، وتراجُع الزراعة أو هجرها حرم المنطقة من محاصيل تجارية وأساسية كثيرة. وممّا يعني أنهم سيبقون شبه بدو مقاتلين ويهدّدون آشور يوماً، لذا كان يجب إخضاع غالبية هؤلاء وإعادتهم إلى الزراعة. في حين من استعصى تركيعه، لشدّة «وحشيته» فيُعرض عليه الالتحاق بجيش آشور.
لكنّ ذلك يتطلّب تطوير نظرية هيمنة عدوانية وفوقية، ما يميّز الآشوريين هنا (كما المصريين) عمّا حولهم، أنّهم دون غيرهم من أمم المنطقة أمروا بالحرب من خلال عقيدتهم. إذ يخاطب الإله آشور «مبعوثه» أي الملك، بعبارة «ماتا رُبوشو» (mata ruppushu) أي «وسّع أرضك» (Frahm: 2017, p537). وفق هذه الفلسفة، طبّق الآشوريون سياستهم تجاه العالم. فهم أولاً صنّفوا كل جيرانهم إمّا معاهدين أو أعداء، وعليه يجب معاملتهم كلّ وفق ما يستحق.
الحرب وسيلة لإنهاء الشرذمة السياسية في المنطقة التي تعيث فساداً في التجارة وتولّد العداوات، وتُغضب الإله آشور. هنا، سيعلي الآشوريون بصلافة مبدأ «با اشتين شكانو»، ويعني «ليَكن الجميع فماً واحداً»، والمقصود به أن يخضع الجميع لسلطة آمر واحد، أي كيان واحد. في حين عُيّر هؤلاء الخصوم بشرذمتهم، ولأنهم لا يجمعهم أمر، يلوذون بكثرتهم، تباهى الآشوريون بأننا نعتصم بقوة آشور وحده (Frahm: 2017, p539 & 541). هل ورث المسلمون هذا الخطاب؟ ربما. حرب كهذه ستواجه عقبات، مثل أنّ العشائر الآرامية والعربية وهم كثر سترفض الخضوع، وستخوض ضدك حرب غوار تستنزفك وهو ما حصل، أو أنّ أمماً حرة كمصر لم تعرف الخضوع لبلاد أخرى من قبل، لن ترضخ بسهولة.
لكن سياسة «الإحياء» هذه لم تطبّق مع كل الممالك، رغم إيمان الآشوريين بأنّ «الصراع» هو أصل هذا العالم، فهم في النهاية، أمة تجارية تسعى للكسب أصلاً وليس الخراب. المدن التي كانت تتعرّض للتدمير كانت تلك التي تقاوم أو تشكل خطراً وجودياً، أو تقف عقبة بوجه التجارة، أو تتمرّد أكثر من مرة بعد أخذ العهود منها (كما حصل مع بابل وهو مبدأ قديم لدى تلك الشعوب). حيث كانوا يدمّرون المدينة ويهجرون عادة «نخبتها»، ويأتون لها بمهاجرين جدد، فهم بذلك «يؤهّلونها» لتعيش حياة جديدة منتجة ضمن الاقتصاد الإمبراطوري الجديد، وليصيروا آشوريين ما أن ينتظموا بدفع الضرائب.

«أمامي مدن، وخلفي تلال»
الملك الآشوري أسرحدون واصف تقدّم جيشه، محوّلاً مدن أعدائه إلى ركام (680 ق.م ـــ 669 ق.م)
(Frahm (ed): 2017,p540)
يقول عالم الآشوريات النمساوي روبرت رولنجر، إنّ البروباغندا الآشورية كانت تعتمد على مبدأ «الخاتو»، وهي تعني إثارة الهلع في صفوف العدو قبل الوصول إليه، لكن «الخاتو» لا تحيط بالملك كالهالة إلّا إذا كان شرعياً ذا مهمّة ربانية باعتباره ممثل الآلهة وفق تقاليدهم (Rollinger & Svard (ed): 2016).
لعلّ تقليد «خاتو تسرّب إلى تراثنا، إذ يرد قول نُسب للنبي محمد إذ يصف نفسه «أني قد نصرت بالرعب مسيرة شهر». كثير ما كان «الخاتو»، وهو مسألة أساسية في تقارير المعارك الآشورية ذات الأهداف الدعائية يأتي بنفس الصيغة، أن العدو على بعد رحلة أيام أو أشهر لكن الرعب تمكّن منه بسبب هيبة الملك.
إذاً، حين كتب الآشوريون تقاريرهم فهم كتبوها وفق مبدأ «الخاتو»، حيث أعداء آشور ينال منهم الخوف ويتعذّبون ويسحقون (وقد يكون ذلك حقيقة). وفق هذه التقارير، سيشنّ الآشوريون حرباً طويلة، وسيدمجون بلاد الرافدين ومصر وبلاد الشام وعيلام (الأهواز) وجبال زاغروس وأضنة في كيان واحد. وحدها بلاد الشام ستُشنّ عليها 67 حملة عسكرية لإخضاع إماراتها العاصية، وآرامييها وأعرابها اللقاحيين. بابل ستُستباح وتُحرق مرّتين خلال قرن لكثرة تمرّدها، عيلام الإيرانية ستسوّى مدنها بالأرض ولن تقوم لها قائمة من بعد، لتآمرها على وحدة الإمبراطورية. يُعتقد أيضاً بأنّ الرعب من الآشوريين دفع الفريجيين في الأناضول إلى تأسيس مدينة كاملة تحت الأرض تتسع لـ20 ألف إنسان (مدينة ديرينكويو)، على الأغلب ليتجنّبوا السبي.
فتح مصر، وتحوّلها إلى مملكة تابعة (شبه ولاية)، كان حدثاً هائلاً بالنسبة إلى سكان غرب آسيا يشبه فتح الأندلس بالنسبة إلى العرب، وستكون تلك أول مرة، تدار المنطقة وفق خطط نخبة إدارية واحدة، ويسبى جزء من أهل منف (منفيس). بهذه الأحداث الجسام، تكون المنطقة قد ولجت عصر الإمبراطوريات الطويل، الذي لم ينتهِ إلا قبل مئة عام فقط بسقوط السلطنة العثمانية (Frahm (ed): 2017, p273).
حرص الآشوريون على نشر مشاهد عنفهم في أرجاء الإمبراطورية، من ضفاف النيل إلى قمم زاغروس والتي كانت كفيلة بأن تئد مؤامرات التمرّد قبل حصولها كما يرد في بعض تقاريرهم. حتى إن الملك سرغون الثاني كان يستضيف سفراء وأمراء الولايات والأمم في قاعة عرش له مزيّنة بمشهد سلخ ملك حموي متمرّد، نكث عهده مع أسلاف سرغون (Collins & Manning: 2016, p50).
يبدو أنّهم ساروا وفق مبدأ أن تهابك النُخب خيرٌ من أن يحبوك، وقتل واحد يُعلّم ألفاً. لكن مع كلّ ما تقدم، ترى كارين رادنر أنّ هذا العنف رغم «صراحته الفجة» لم يكن عادة إلّا ضمن خطة شاملة، ولم يكن سوى الخيار الأخير. لأنّ الحملات العسكرية مكلفة للمال والأنفس، خطرة، والإنسان هو أثمن عنصر ضمن خطة الآشوريين.
سيّس الآشوريون عملية بناء المدن لربما سبقهم المصريون إلى ذلك فهم حوّلوا العواصم إلى مراكز صهرٍ اجتماعي وثقافي وسياسي


لنأخذ أمثلة على عنفهم، بابل كانت مقدّسة مدلّلة لدى الآشوريين، لأنّها كانت أرض عقائدهم وأدبهم ولغتهم. لكن نخبتها كانت أكثر رعاياهم تمرّداً، وأشهر «مآثرهم» مثلاً، أنّهم أثناء حملة الملك سنحاريب الآشوري (705 ق.م ـــ 681 ق.م) على عيلام، ثاروا وخلعوا ابنه الذي كان واليهم، وسلّموه للعيلاميين، ولم يسمع منذ يومها له خبر. كان انتقام سنحاريب منهم فظيعاً، إذ دمّر مدينتهم وسبى إلههم مردوخ إلى نينوى، وهجّر إليها نخبتهم (قرابة ربع مليون إنسان) (Frahm (ed): 2017, p217).
لنأخذ أسطورة تهجير أسباط بني إسرائيل الضائعة في التوراة، والتي ترد في التوارة، أصل هذه الحكاية، أنّ السامرة في فلسطين انتفضت، وذبح متمردوها كل من وقعت عليه أيديهم من مهاجرين آشوريين هناك. ليتورّطوا بعدها في تمرّد أوسع شمل كل بلاد الشام أثناء حملة سرغون الثاني على إيران.
سيكون الرد ماحقاً مرة أخرى، إذ تقرّر أن يهجّر آلاف من سكان السامرة إلى ميديا (جبال زاغروس الإيرانية)، والخابور (شمال شرق سوريا اليوم)، بينما أرسلت نخبتهم إلى المركز أي المثلث الآشوري (آشور، نينوى، أربيلا) (Frahm (ed): 2017, p 181) (محاضرات رادنر جامعة ميونخ).

حلول الإله آشور لأهل الأرض
«لإعادة توطين المناطق المهجورة، لإصلاح الأراضي البور، لزراعة البساتين، لرفع المحاصيل على سفوح منحدرة بشدة لم يزهر عليا من قبل نبت، ولغرس النبت في القفار التي لم تعرف محراثاً عند ملوك سابقين، ولتخصيب البذور ولتصدح أغاني العمل، سأدع ينابيع السهل تجري، وأدع الماء الوفير يصعد عالياً».
الملك سرغون الثاني
(Frahm (ed): 2017, p539)
خطط الآشوريون أن تكون كلّ ولاية في كيانهم مكتفية ذاتياً ما أمكن، فكما قلنا سيلجأ الآشوريون إلى سياسة تهجير وتوطين النخب ذات الخبرات بكل ولاية، لتعود منتجة، خاضعة، متكاملة، يسند بعضها بعضاً. ذلك أنّه إن ضربتها المجاعة مرة آخرى، تقوم السلطة المركزية بنقل الغذاء والموارد الفائضة من إقليم إلى آخر، كما يقول عالم الآشوريات ستيفن جاكوب (Frahm (ed): 2017, p150).
قضت خطة تنمية الأقاليم الآشورية أيضاً بأن تكتسب كل ولاية آشورية تقنيات الري الصناعي وتربية النحل والزراعة بأشكالها ومعالجة الكتان وإنتاج زيت الزيتون وصناعة النبيذ. حقيقة أنّ الآشوريين هم أوّل من «دمقرط» إنتاج وشرب النبيذ في المنطقة، معتمدين على تقنيات خصومهم الأورارتيين (بلادهم جورجيا وأرمينيا الآن) جاعلين هذا الشراب، ليس فقط رخيصاً ومتاحاً للجميع بل جزءاً من تقاليد هوية «المواطنة» الآشورية (Frahm (ed): 2017, p210) (كارين رادنر، محاضرات جامعة ميونخ، 2019).
لدينا إقليمان آشوريان، تأسّست فيهما مشاريع اقتصادية ضخمة وبشكل ناجح، إذ تمكّن البحث الأركيولوجي المكثّف من دراستهما، الأولى في الخابور في سوريا حيث حفرت شبكة قنوات ري كثيفة لري المناطق وللنقل النهري، والثانية في فلسطين، في عقرون تحديداً إذ أُنشئت فيها صناعة زيت زيتون ضخمة ستحيي مرة أخرى صناعة زيت الزيتون بكميات تجارية هائلة (Frahm (ed): 2017, p210).
كذلك، قضت الخطة بإنزال الناس من الجبال الوعرة أو جلبهم من البوادي إلى السهول الخصبة، ليدمجوا في الدورة الزراعية، ويمكن فرض الضرائب عليهم. على أن تدرس بعناية حاجة كل إقليم للخبرات المطلوبة، ويتمّ إثرها وضع خطط النقل والتوطين.
أفضل من درس سياسية الترانسفير أو التهجير الآشورية، هو عالم الآشوريات «بوستناي أوديد»، وذلك عام 1979، وظلّت دراسته معتمدة منذ ذلك الوقت رغم بعض المآخذ عليها (Oded: 1979). يقدّر أوديد أنّ حوالى 4.4 ملايين إنسان (مع هامش خطأ 900 ألف) تم تهجيرهم وإعادة توطينهم خلال 3 قرون تقريباً، أي منذ 934 قبل الميلاد إلى 631 ق.م. الـ4.4 ملايين إنسان مهجّر (وهو رقم تقريبي) تعني بأرقام اليوم بالنسبة إلى الشرق الأوسط حوالى 44 مليون إنسان، وطبعاً هذا رقم هائل جداً (كارين رادنر، محاضرات جامعة ميونخ، 2019) (Frahm (ed): 2017, p210).
لنأخذ مثالاً على ذلك، نقل في إحدى عمليات التهجير قوم من أهل ميديا في شمال غرب إيران إلى آشور، بينما نقل آشوريون إلى حماة، ونقل حمويون إلى السامرة (مملكة إسرائيل)، ونقل سامريون إلى ميديا، كل ذلك استغرق ست سنوات، ما بين من 722 ق.م إلى 716 ق.م. الآن لنحلّل ما جرى، الميديون كانوا «برابرة» لذا جيء بهم إلى المثلث الآشوري ليتعلّموا قوانين البلاد وفنون الإنتاج (محاضرة جامعة شيكاغو ربيع 2019، Radner) (كارين رادنر، محاضرات جامعة ميونخ، 2019).
الآشوريون المبعَدون إلى حماة، كانوا بالأساس من المشاركين في مؤامرة انقلاب قصر في العاصمة، فبدل إعدامهم تقرّر تهجيرهم إلى حماة، وإعطاؤهم فرصة لإثبات ولائهم للملك، وبذلك تفيد حماة خبرات إدارية وإنتاجية متفوّقة. الحمويون المهجّرون نُقلوا إلى السامرة، لأنّهم سيكونون أكثر طاعة هناك في بيئة جديدة، وسينخرطون في العملية الإنتاجية، أما السامريون المرحّلون إلى ميديا (تحدثنا عنهم)، فقد تقرّر نقلهم إلى ميديا كعقوبة واستثمار في وطنهم الجديد. عادة ما يندمج كل مهجّر بشكل ما في اقتصاد الإمبراطورية، وقد يصبح أداة في أجهزتها الإدارية، خاصة أنه في بيئة غريبة تماماً عنه، فيضطر للتمسّك بالعلاقة مع المركز، فينشأ أولاده «آشوريين» (محاضرات جامعة ميونخ) (Frahm (ed): 2017, p209).
هنا، تقول كارين رادنر إن البشر كانوا أثمن سلعة بالنسبة إلى الآشوريين، والسلطة هي من يقرّر أين يسكن الفرد والجماعات، وكانت السلطة تنقل المهجّرين في ظروف صحية وإنسانية جيدة. فمثلاً، تشير رادنر إلى أن الجداريات التي وصلتنا عن تهجير المصريين حرصت على إظهارهم يهاجرون مع أسرهم وحيواناتهم «بسلام وطمأنينة» (Frahm (ed): 2017, p211).
لدينا الكثير من الأدلّة النصية والشواهد الأثرية الأخرى على ذلك. مثل رسالة بعث بها موظف آشوري للملك تغلاث بلاصر الثالث (745 ق.م ـــ 727 ق.م)، يتحدّث فيها عن ظروف تهجير مجموعة من الآراميين. تقول الرسالة إنه سيحضّرهم للرحلة وسيزوّدهم بقطع قماش من خيش وصنادل وحقائب جلدية وزيت، وإنه كان سيزوّدهم بحمير وعربات لو توفّرت لديه (Frahm (ed): 2017, p211).
كما حصل مع المهجّرين المصريين، حرص الآشوريون على تهجير الناس مع أسرِهم ليشكّلوا مجتمعات مستقرّة في أوطانهم الجديدة، وإن كان هؤلاء من العزاب، فإنهم كانوا يُزوّجون على نفقة الدولة الآشورية من سكان أوطانهم الجديدة (Frahm (ed): 2017, p210-211).
ما أن يصل المهجّرون، تُوزّع عليهم أراضٍ أو بيوت ليستقرّوا، والقانون كان يقضي وقتها بأنّ الأرض لمن يزرعها كما تقول رادنر. يضيف أوديد هنا أنّ الدولة الآشورية كانت تحرص على أن يختلط المهجّرون بالأهالي ويحترموا جوارهم ليندمجوا، ويكتسبوا الهوية الآشورية (Frahm (ed): 2017, p211).
لم يكن الآشوريون يهجِّرون أياً كان، بل فضّلوا دائماً النخب، من النبلاء، وأهل الصنائع والحرف، والعلماء، والمزارعين المتخصّصين. تنقل لنا التوراة صورة لبرنامج التهجير والتوطين الآشوري والذي كان خياراً جذاباً آنذاك، وذلك حين خاطب الملك سنحاريب أهل أورشليم المحاصرة، قائلاً:
«اعْقِدُوا مَعِي صُلْحاً، وَاخْرُجُوا إِلَيَّ، وَكُلُوا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ جَفْنَتِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِينَتِهِ، وَاشْرَبُوا كُلُّ وَاحِدٍ مَاءَ بِئْرِهِ 32 حَتَّى آتِيَ وَآخُذَكُمْ إِلَى أَرْضٍ كَأَرْضِكُمْ، أَرْض حِنْطَةٍ وَخَمْرٍ، أَرْض خُبْزٍ وَكُرُومٍ، أَرْض زَيْتُونٍ وَعَسَل وَاحْيَوْا وَلاَ تَمُوتُوا».
سيغيّر الآشوريون شكل منطقتنا، إذ خلطوا الأقوام بعضها ببعض بشكل غير مسبوق، وأخذو الأفضل والأكثر عملية من كل إقليم. أبجدية ولغة آرامية شامية، بأساطير وقوانين رافدينية، وعلوم مصرية وبابلبة وتكتيكات عسكرية أورارتية.

المدائن الآشورية
سيّس الآشوريون عملية بناء المدن، لربما سبقهم المصريون إلى ذلك، فهم حوّلوا العواصم إلى مراكز صهرٍ اجتماعي وثقافي وسياسي، إلى خلق الهوية الإمبراطورية. لنأخذ مسألة تحولّهم من عاصمتهم الدينية القديمة آشور (الشرقاط) إلى كالخو (وهي موقع النمرود الآن)، في عصر الملك آشورناصربال (883 ق.م ـــ 859 ق.م).
تحوُّل الملك من آشور إلى كالخو حرّره من نفوذ الأرستقراطية الآشورية القديمة ومجالس الشيوخ «الديموقراطية». النقاشات «الديموقراطية» في مجالس المدن الرافدينية، كانت أصلاً نقاشات أوليغارشية، لا تمثّل عامّة الناس، مثلها مثل مؤامرات النخبة الآشورية وتمرّدات الأقاليم، فكلّ تلك لم تكن ثورات بالمعنى الراديكالي الذي نظنّه، تنافس بين النخب.
تشييد كالخو يعدّ الخطوة التي فتحت المجال لكل الكفاءات من كل الولايات والجماعات للمساهمة في بناء الإمبراطورية، وخلق المواطن الجديد. المشرف على بناء العاصمة الجديدة ورفدها بالسكان، كان موظّفاً رسمياً ذا صلاحيات واسعة وتجربة طويلة، وهو نركال ابيل كُؤوما (Nergal-apil-Kum’a)، نركال هذا كان خصياً، وينتمي إلى طبقة واسعة من الموظفين المحترفين، ولاؤها المطلق للملك. طبقة الخصيان هذه كانت تشرف على العمران، وتقود الجيوش، وتشرف على ميزانية الدولة وهم أسلاف المماليك والانكشارية كطبقة محترفة ومنضبطة ومنفصلة عن الشعب والنخبة القديمة.
كان هناك مؤسسة ما تدرّب هؤلاء الخصيان، وكان يؤتى بهم من كلّ أرجاء الإمبراطورية فضلاً عن الأُسر الآشورية العريقة بعد أن يكون الخصي قد قطعت صلته بأسرته وصار خادم الملك حصراً. ميزة الخصيان بالنسبة إلى الآشوريين أنهم عقيمون، فلا يؤسّسون سلالات منافسة ثرية وفاسدة.
كانت الأوامر المُعطاة لنركال ابيل كُؤوما أن يختار سكنة المدينة من مؤيدي الملك وذوي الكفاءة، فجاء بعدد كبير من السكان من أرجاء الإمبراطورية (Collins & Manning: 2016, p4). في حين لم يسمح نركال ابيل كُؤوما لأي من سكان آشور بالهجرة إلى المدينة، إلّا إن كان موالياً للملك ونجيباً بصنعة أو علم لا يستغنى عنه. منع معارضي الملك من أبناء النخبة من الاستيطان، إلا بعد مرور فترة من الزمن، تكون فيها هوية مدينة كالخو قد تكوّنت، فإن هاجر إليها هؤلاء، كانوا فيها أقلية وغرباء بين أهلها (Collins & Manning: 2016, p44).
تهدف هذه السياسة أيضاً إلى حماية الملك من ضغوط أجنحة السلالة الملكية الآشورية العريقة وسلالات أخرى منافسة. السلالة الملكية الآشورية كانت تُعرف ببيت أداسي، جد الأسرة الأكبر، أداسي كان مغامراً آشورياً انتزع العرش في سنوات الفوضى والهيمنة البابلية عليهم، حوالى 1720 ق.م، فتمكّن من طرد البابليين، واكتسب شرعية حكمت بها سلالته القوية المعمرة لأكثر من ألف عام، أي حتى 609 ق.م، وهي لربما تكون بذلك أطول سلالة حكمت في منطقتنا (Frahm (ed): 2017, p6) (Roux: 1993) (Veenhof: 2008, p24).
سيقرب الآشوريون كل من له خبرة ومهارة، بغض النظر عن أصله، فآل أداسي مثلاً أخذوا يصاهرون النخب الفينيقية، وتلك الآرامية الشامية، ولربما العبرية أيضاً، حسب ستيفاني دالي، ليكون الكثير من الملوك الآشوريين ذوي أمهات شاميات. كما سيشتكي العلماء الآشوريون من تفضيل العلماء المصريين والبابليين عليهم، في الحظوة والعطاء لغزارة علومهم (Dalley: 2013) (Frahm (ed): 2017, p170 & p223).

مات آشور
ترى رادنر أنه بالرغم من عمليات التهجير والعمليات العسكرية، إلّا أن ظروف السكان الاقتصادية تحسّنت بشكل عام. فتوفّر الأمن والموارد المالية الهائلة المتأتية من الضرائب، سمح بتشكيل جيش نظامي يعتمد على رواتب الدولة، الأمر الذي حرّر الفلاحين من الخدمة العسكرية. لربما لم يكن هذا التحوّل ابتكاراً آشورياً، لكنّه خلق تقسيماً اجتماعياً سيسود في المنطقة كلّها قروناً عديدة بين طبقة مقاتلين محترفة، وطبقة فلاحين منتجة لا شأن لها بالحرب، وهي التي سيواجهها الفاتحون العرب لاحقاً، ويعرّفونها بفلاحي السواد النبط.
سيكون صعباً، بدون إمبراطورية، تجميع المنطقة وخلق هذا الفائض المالي الضخم، للاستثمار في العلوم (وهو ما تحقّق)، وتشييد الحواضر، والتوسّع الزراعي، وتنفيد مشاريع الري المكلفة. وبدون هذا السوق الضخم، لن تكون هناك قيمة لتسيير الرحلات الاستكشافية التجارية براً وبحراً، ولكان من الصعب لجم حركة البدو وتنظيم هجرتهم الموسمية كما فعل الآشوريون، كما أنه أيضاً كان من الصعب التصدّي للغزوات الرعوية المدمّرة، القادمة من سهوب آسيا كالإسكيثيين وقتها، أو تلك البحرية من شعوب البحر والقراصنة الأيونيين.
يمكننا أن ننعت ملوك الآشوريين بالطغيان والإجرام، وسنكون محقّين، وهو ما فعلته التوراة، التي كُتبت جزئياً كتراثٍ ديني لأنين المغلوبين وصوت المستضعفين في حينها أو لاحقاً، من هذه السياسات الجذرية لملوك بلاد الرافدين بشكل خاص. لكن علينا أن نتذكر أنّ كلّ الكيانات الكبرى والأمم الناجحة حولنا، تأسست على العنف والصرامة، بما فيها الاتحاد الأوروبي (الذي هو حصيلة حروب عالمية وحشية ومظلّة حماية أميركية) وروسيا وأميركا وحتى الصين.
لربما من الأفضل أن لا نصدر أحكاماً قيمية كهذه على كيانات وتجارب تاريخية قديمة، فنحن لا نعلم سياق ما حصل إلّا ضمن الخطاب العقائدي الآشوري المتغطرس، كما أننا لا نعلم ما سيُقال عنا وعن عصرنا يوماً ما بعد آلاف السنين، إن تحوّلنا إلى مادة آركيولوجية صمّاء، حيث سينقلب الحقُّ باطلاً، والمعتدي ضحيةً.
المؤكد بالنسبة لي وثلة من صحبي، أني إن عشت في تلك العهود فسأعتصم بقمم الجبال أو أرحل إلى دلمون أو بعيداً إلى قرطاج، حتى لا أُساق إلى الخضوع والسخرة والعمل المضني، فأنا لست على ملة آشور، ولم أعاهد رباً ولا ملكاً على شيء.
وها أنتم اليوم حفظكم الله ورعاكم من نير آشور جديدة، تعيشون بإمارات طوائف حرّة خربة، لا تنتج ولا يعرف أغلب أبنائها ثقافة العمل، وتمتد يد الأمم عليكم، أغلب مثقفيكم فاسد، يبتزّكم كل وغد، ولا يحكمكم إلا نذل. ألم يقل فينا مظفّر النواب «اللهم ابتدئ التخريبَ الآنْ | فخرابٌ بالحقِّ بناءٌ بالحقِّ»؟، هذه صلاة آشور.

* كاتب عراقي