إنّ الحكومة بصفتها السلطة الإجرائية العليا في البلاد، لم يعد بإمكانها في هذا الظرف الحساس، التخلّي عن صلاحياتها التي يمارس الغير بعضها وأهمّها، ولا سيما حاكم البنك المركزي الذي يقبض، بحكم الفراغ من جهة والاستمرار من جهة أخرى، على مقاليد السلطة النقدية والمصرفية، حيث يفرض القيود والاقتطاعات على المواطنين ويتسبّب مع الإدارات الفاسدة وأركان النظام السياسي في إفقار الأكثرية الساحقة من الناس، وتمكين الأقلية في الوقت نفسه من التحكّم والتصرّف كما تشاء.
إنّ الحكومة بصفتها السلطة الإجرائية العليا في البلاد، لم يعد بإمكانها في هذا الظرف الحساس التخلّي عن صلاحياتها التي يمارس الغير بعضها وأهمّها
إن نزع هذه الصلاحيات من يد الحاكم، وإيداعها المجلس المركزي، باتا أمرين ضاغطين لوقف الفوضى النقدية من جهة، ولوقف التآكل في سمعة الحكومة ومكانتها من جهة أخرى. إلى ذلك يبقى أمران لا يستقيم الوضع بدونهما. أولاً: تعيين نواب الحاكم ومفوّض الحكومة لدى مصرف لبنان، كي يتمكّن المجلس المركزي من الانعقاد والمذاكرة وممارسة دوره، بحسب ما نص عليه قانون النقد والتسليف. علماً بأن وجود كل من مدير عام وزارة المالية ووزارة الاقتصاد في المجلس المركزي، يسمح بالربط التفاعلي الإيجابي بين السياسة النقدية والسياسة المالية، كما أن وجود مفوّض الحكومة يساهم ــــ إذا أراد ــــ في ضبط الوضع وإطلاع الحكومة على كل شاردة أو واردة.
ثانياً: إلزام الحاكم تقديم كل حسابات البنك المركزي للحكومة عبر وزير المال، خلال مهلة محددة لا تقبل المراجعة، علماً بأنّ الحاكم حتى الآن لم يتجاوب مع المطالب المتكرّرة التي وجهها إليه بهذا الشأن رئيس الحكومة نفسه، ما يشكل خللاً بالغاً في بنية الدولة لا يجوز السكوت عنه، مهما كان نفوذ القوى التي تحمي الحاكم، ومهما كان حجم المصالح المصرفية المشتركة التي تعتبر نفسها أكبر وأقوى من الدولة.
وهنا تبرز أهمية وضرورة متابعة كل القضايا المالية التي توجد ملفاتها لدى القضاء، وصولاً إلى تقديم المتهمين إلى المحاكمة. وإذا كان كثيرون يعتقدون بصعوبة تقديم المتهمين إلى المحاكمة نظراً إلى تعقيدات الوضع اللبناني، وتوغّل ذئاب الطائفية في ثناياه، فهم يدركون أيضاً أنّ الحكومة لم تأتِ لتوزيع الإعانات ومعالجة المرضى فحسب (على أهمية كل ذلك)، وإنما أتت لتعالج القضايا الكبرى التي تصغر أمامها كلّ تدخلات طائفية أو مراجعات تقليدية، وحيث على كلّ من يروم تعطيل عجلة العدالة أن يتحمّل أمام الملأ مسؤولية الانهيار وإدخال البلد في نفق لا مخرج منه.
وبعد ما جرى في مجلس النواب من إسقاط لمعظم المشاريع المالية الإصلاحية، أصبح من مصلحة الحكومة اليوم التوقّف لحظة لتقييم الوضع مجدداً، والكشف عن مكامن الخلل والتردّد في بنيتها ومواقفها ومبادراتها، وذلك لتصحيح ما يتوجّب تصحيحه، والانطلاق مجدّداً في تنفيذ البرنامج الإصلاحي الصعب الذي أتت من أجله، مؤكدة في كل خطوة من خطواتها على طمأنة الناس إلى أموالهم ومستقبلهم، بصرف النظر عن تهديدات الذين استباحوا أموال الدولة والشعب والذين لا يزالون يملكون الكثير من الوسائل والأقلام.
* وزير سابق