حقاً كيف يمكن أن يُناقش؟ بل كيف يمكن أن يصل الأمر إلى حدّ إنكار كلّ هذه الوقائع التي لا يشكّك أحد في وقوعها؟ ثم يتجاهل كل ما يُصرّح به ويُعلنه نتنياهو حتّى في خطاباته الرسمية في الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة؟
هذا بالتأكيد يدخل في العجب العجاب.
في الحقيقة ثمة عدد من المحللين السياسيين، يفترض أنهم ذوو وزن، سبقوا ماجد الكيالي في عام 2009 باتهام حزب الله وحماس بأنهما أصبحا يحميان الحدود مع الكيان الصهيوني وانتهت مقاومتهما، وذلك، بسبب ما انتهت إليه حربا تموز/يوليو 2006 في لبنان و2008/2009 في قطاع غزة من وقف لإطلاق النار.
هذا رأي من لا معرفة له بحقيقة بديهية في «علم الحرب»، وفي التاريخ المعاصر على الأقل، وهي أن الحرب بين عدوَّين لا تقتصر على الاشتباك بالنيران والمعارك كما هو الحال في الحرب الحامية، وإنما تمتدّ، وبالقوة نفسها، عندما ينتقلان إلى الهدنة، وأحياناً حتى إلى شبه صلح، تجعل كلّاً منهما يستعد للحرب القادمة. أي يأخذ بتطوير قدراته العسكرية سواء أكان بزيادة التسلح كماً ونوعاً، أم بالتدريب وإعداد القوات، أم بالتحصين أو حفر الخنادق والأنفاق. وهذا من الحرب ومن حالات الحرب.
ولهذا لا يمكن اعتبار سيادة هدنة وتوقف الاشتباك بالنيران، مهما طال أمدهما، انصرافاً عن الحرب أو المقاومة. بل قد يكون ذلك انتقالاً بالمقاومة كما هو الحال مع حزب الله وحماس (وحركة الجهاد في قطاع غزة) إلى مستوى أعلى من المقاومة السابقة التي اتّسمت بحرب «عصابات» أو ما يسمى تكتيك «اضرب واهرب»، وانتقلت إلى الإعداد لحرب مواقع ومواجهة أرقى مستوى.
لا يمكن اعتبار سيادة هدنة وتوقف الاشتباك بالنيران، مهما طال أمدهما، انصرافاً عن الحرب أو المقاومة
ولهذا من الحماقة أو الغفلة بالنسبة إلى أية قيادة حين ترى، عدوها يتسلح ويطوّر سلاحه ويزيد من قواته ويرفع من مستوى تدريبها، ويُحصّن جبهته، بأنها أصبحت آمنة، أو يمكن أن تطمئن إلى سلم أو أمن في مستقبل آت. وهو ما أقلق قيادة الجيش الصهيوني، وأقلق نتنياهو أشد القلق، وما زال يقلقهم وهم يرون عدوهم (حزب الله أو حماس والجهاد) يتسلّح ويطوّر سلاحه وعديده وقدراته العسكرية. وهذا ما حدث فعلاً، ولا يشكّ فيه إلّا ماجد الكيالي ومن يفكر على طريقته، فيعتبرونه «انصرافاً عن المقاومة». ويا لهذا «الانصراف عن المقاومة» حين أصبحت عشرات الآلاف من الصواريخ، بل أكثر، وفقاً لتقديرات العدو الصهيوني، موجّهة إلى أهم مرافقه وبناه التحتية. ولم يعد بالإمكان أو أصبح شديد الحذر من الدخول في اشتباك صفري على الأرض. فكيف يكون ما قبل 2000 مقاومة، ولا يكون مقاومة ما حدث كل ساعة ويوم في فترات الهدنة أو التهدئة من إعداد عسكري مقاوم. بل على مستوى أعلى من المقاومة.
وبالمناسبة ما حدث من سباق تسلّح، وغيره من أشكال الإعداد للحرب والسعي لامتلاك التفوّق العسكري، ما بين المعسكرين اللذين قادهما الاتحاد السوفياتي وأميركا كان حرباً أسموها «باردة» بالرغم من دوام الهدنة (عدم الاشتباك بالنيران) حوالى 45 عاماً.
من هنا يتبيّن مستوى الحكم (الاتهام) الذي يوجّه إلى حزب الله بالانصراف عن المقاومة عندما غاب الاشتباك بالنيران. وحلّ محله الاشتباك الأخطر. وهو سباق التسلح والإعداد لحرب أكبر وأطول وأخطر، وبموازين قوى عسكرية مختلفة.
وأخيراً يا ليت دونالد ترامب ونتنياهو يقتنعان بالنقطتين السابقتين التي أقام عليهما ماجد الكيالي نظرته للمواجهة بين إيران والكيان الصهيوني، أو بين حزب الله والمقاومة فينامان على فراش من حرير، بأن حزب الله انصرف عن المقاومة، وإيران وصواريخها ليسا في مواجهة الكيان الصهيوني. فعندئذ يهدأ التوتر في الخليج وتبتعد مخاطر الحرب، لأن أميركا لا تحارب من أجل السعودية أو الإمارات وإنما من أجل الكيان الصهيوني ومن أجله فقط حتى قبل مصالحها المباشرة.
* كاتب ومفكر فلسطيني