لماذا يقوم وزير ما بزيارة شاملة لمنطقة لبنانية؟ ماذا يريد من زيارته؟ كيف يستقبل مواطنو هذه المنطقة الوزير الزائر؟ ماذا يتوقّعون منه؟ حاولنا الإجابة عن هذه الأسئلة برصدنا للزيارة التي قام بها وزير البيئة فادي جريصاتي إلى محافظة عكار في 29 و30 آذار الماضي. فما كانت النتيجة؟أمضى وزير البيئة فادي جريصاتي يومين سياحيين في محافظة عكار. لم يلازمه في سياحته البيئية خبراء الوزارة ومستشارو الوزير بملفاتهم (هذا إن كان هناك خبراء وملفات)، بل لازمه عكارياً الوزير السابق يعقوب الصراف والنائب أسعد درغام، والقائد العوني جيمي جبور (لزوم التسويق للتيار العوني، كغيره من مروّجي أحزاب السلطة باستغلال عملهم الرسمي، خلافاً للقوانين).

مسار ومحطات هذه الزيارة البيئية
البداية من «عيون السمك»، يبدي الوزير إعجابه بعكار. «عكار حلوة»، يقول، كأنه «أليس في بلاد العجائب»! أول مكسب عكاري. المكسب الثاني: النفايات والتلوث «مسألة وطنية»، يعني: مثلكم مثل غيركم. المكسب الثالث: «الدولة غائبة من خمسين سنة عن عكار»! كيف الدولة غائبة من خمسين سنة؟ منذ التسعينيات والدولة موجودة. وتيار الوزير موجود بالدولة منذ 2005. وسلفه الوزير الخطيب، منذ عامين كان في عكار. مع ذلك يبشّرنا: المستقبل أفضل.
في العبدة: وعود أخرى. في السمونية، تكرار معزوفة غياب الدولة من خمسين سنة، تنصّل الوزير من مسؤوليته (أو مسؤولية وزارته) في معالجة تلوث المياه: «الصرف الصحي ليس من مسؤوليات وزارة البيئة بل تابع لوزارة الطاقة». بشارة ثانية بلسان الوزير: تبرئة البلديات من مسؤولياتها البيئية. بشارة ثالثة: انتظروا «سيدر». هناك مشاريع ملحوظة في إطار «سيدر»... ما هي؟ العلم عند الله وعند الوزير!
في رحبة، الوزير يندّد بالمجازر البيئية ويضمّ صوته إلى أصوات المجتمع المدني العكاري (احتجاج مَن على مَن؟)، ثم يكرّر معزوفة غياب الدولة، بيد أنه يبشّر: «لكنها ترجع إليها الآن»! يستنجد برجال الدين وبالنواب ليفكّروا في السياحة الدينية! «لقية» تنموية عثر عليها الوزير: «هناك 80 مليون سائح ديني في العالم كل سنة»! لا ينسى مواجهة الكسارات والمقالع مهدداً: «مقابل كل قطع شجرة يجب أن يكون هناك قطع يد»(!؟).
في عكار العتيقة، توجّه الوزير بتحية إلى الدفاع المدني وأشاد بالحركة الكشفية، وأخبر الحضور عن تجربته الكشفية. وقال: «وضعت خطة في الوزارة مع فريق العمل، سيتم تقديمها خلال شهرين إلى الحكومة اللبنانية، عكار هي جزء أساسي منها»، معوّلاً على «سيدر» في إنجازها... ما عناصر الخطة وموقع عكار فيها؟ ليس من ضرورة لعرض ذلك على العكاريين واستمزاج آرائهم، ولكنه دعا رجال الأعمال إلى «الاستثمار في النفايات، وإنشاء معامل التدوير». خلاصة الجولة، لا شيء ما خلا سياحة سياسية عونية بامتياز: نحن هنا.

المجتمع العكاري والسياحة البيئية لجريصاتي
لزوم الضيافة العكارية كان على أتمه، من مستلزمات آليات الاستجداء والتبعية: حماسة الاستقبالات من قبل فعاليات كل منطقة كانت فيها محطة في مسار السياحة الطيارة. البلديات والمخاتير و«الوجوه» وكل الباحثين عن حصة كبيرة أو صغيرة في ما يمكن أن يُرمى من فتات الريع من قبل وزارة البيئة أو التيار العوني.
في مؤلف «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» يصف عبد الرحمن الكواكبي من يسمّيهم «المتمجّدين» الذين يتجسدون في زمننا ببعض رؤساء البلديات واتحاداتها والمخاتير ومسؤولي أحزاب السلطة والمتمولين أو العاملين في مكاتب كبار الرأسماليين النيوليبراليين. في عكار اليوم، يقول: «المتمجِّدون يريدون أن يخدعوا العامة، (...)، بأنهم كبار العقول كبار النفوس أحرار في شؤونهم... (بينما هم يعملون) على تغليط أفكار الناس في حقِّ المستبدِّ وإبعادهم عن اعتقاد أنَّ من شأنه الظلم... المستبد يتّخذ المتمجّدين سماسرة لتغرير الأمة باسم حبّ الوطن أو تحصيل منافع عامة».
وأخطر المتمجّدين هم الذين لا يفوّتون فرصة للظهور والكلام و«الاسترزاق»، نقصد ما قامت به رموز مِن مَن يُحسب في كشكول المجتمع المدني: تقديم شروحات عن الوضع البيئي والتلوث وأضراره، ومذكرات مكتوبة وتقارير، ومرافقة الوزير إلى المحميات والأحراج و... فكأن الوزير لا يعرف الوضع العكاري، «دعونا نساعده ليعرف كيف يشتغل»! هو يريد التعرف على «وجع الناس»! كأن هذا «الوجع» سرّ غير معروف؟
أليس من الغريب فعلاً أن يشارك في وقفة احتجاج نظّمتها مجموعة «عكار معاً للتغيير» تزامناً مع زيارة جريصاتي معظم المسؤولين الذين استقبلوه بحفاوة؟ حتى إن الوزير جريصاتي نفسه وقف إلى جانب منظّمي الوقفة «محتجّاً»، قبل أن يعمل على استقبالهم. كيف تُوفِّق هذه المجموعة بين شعارات رُفعت في وقفة الاحتجاج (مثل: «حلوا عنّا أنتو ومحارقكم ومكبّاتكم وسياساتكم»، «السلطة السياسية، السلطة المحلية ــ بلديات، اتحادات بلديات ــ أنتم المسؤولون عن موتنا البطيء») ومشاركة الوزير والنائب والمحافظ ورؤساء البلديات في وقفة الاحتجاج نفسها؟ كيف تقبل هذه المجموعة بأن تتقدم بمشروع واقتراح لمن تحمّلهم مسؤولية التدهور البيئي والموت البطيء؟ وماذا تأمل منهم؟ هل تتوهّم وتعتقد بأنهم أقل علماً ومعرفة منها؟
لعل هناك تقليداً مترسّخاً في عكار مفاده أن تقوم جمعيات المجتمع المدني بأنشطتها (اعتصامات وتظاهرات واحتجاجات...) بمشاركة نواب أو وزراء تيار المستقبل. ولا ضير في أن تقوم الجمعيات نفسها أو بعضها أو غيرها بأنشطة بمشاركة نواب التيار العوني ومباركتهم. ولعلنا سنشهد مشاركة التيارين في أنشطة المجتمع المدني. ولربما كان من شأن الانتخابات النيابية الأخيرة، التي كشفت حقيقة المحالفة العونية ــ الحريرية انتخابياً (في الشمال)، أن توسع مجال هذه المحالفة لتلغي أي قدرة مستقلة على الاعتراض ومقاومة السلطة السياسية.

الخلف جريصاتي من سلفه الخطيب
نكتفي بالتذكير ببعض ما قاله وفعله وزير البيئة السابق العوني طارق الخطيب في زيارته لعكار في عام 2017: «جولتنا البيئية اليوم هي للاطلاع على الوضع البيئي العام في محافظة عكار وتحديد أسبابه وسبل معالجته...» و «زيارتنا اليوم ستكون عملية، وسنعمل ابتداءً من يوم غد على حلّ هذه المشاكل قدر الامكان، لتخليص عكار من المشاكل التي تعاني منها على الصعيد البيئي»، وإن وزارة البيئة «بتصرّفكم للعمل يداً بيد في هذا السبيل» (الوكالة الوطنية للإعلام بتاريخ 17/6/2017). أما مسار زيارة الخطيب فتشابهت الى حدّ كبير مع محطات زيارة جريصاتي الأخيرة، ووعود جولته تلخّصت بقوله: «قطار معالجة الملفات البيئية لن يتوقف»... ما فعله الوزير جريصاتي، سبق أن قام به سلفه العوني الوزير الخطيب. وعود جريصاتي هي هي تقريباً وعود الخطيب وفق آخر تحديث.
فأين ذاكرة ناشطي «المجتمع المدني»؟ ما قلناه أعلاه هو لتنشيط ذاكرة المعنيين من ناشطي «المجتمع المدني»، لا لتنشيط ذاكرة الطبقة السائدة وسياسييها. لا شك في أن هناك مصلحة مشتركة بين السياسيين من أهل السلطة، وكبار الموظفين المطيعين لمن عيّنهم في وظائفهم، وأبناء الطبقة المسيطرة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، تقضي بالعمل على حجب الحقائق وتضليل المواطنين، وبادّعاء حرصها على البيئة وصحة الناس ومصالحهم: «كانوا يخدعون الناس ويسرقون منهم الدعوات»، ولي الدين يكن. ومن المعروف أن ذاكرة العامة من الناس قصيرة نتيجة غرقها في همومها اليومية، فلا تربط بين ممارسة السياسي (أو الحزب) اليوم بممارسته، أو ممارسة سلفه، بالأمس. ولكن السؤال الفعلي والمُلحّ هو: لماذا نرى رموزاً كبيرة من المنظمات غير الحكومية، وشتّى منظمات المجتمع المدني فاقدة لذاكرتها، بل بالأصح قامعة لذاكرتها، أو مزوّرة لها، ومضللة للعامة؟ لا شك في أن لعملية الحجب الذاتي أو القمع الذاتي للذاكرة وظيفة عملية، فحواها تقديم أوراق اعتماد لبناء علاقة مع السلطة السياسية القائمة، وهي علاقة تبغي مهادنة لغرض ما. وفي كل الأحوال تعبّر هذه العملية عن استقالة من الدور المطلوب القيام به من جانب قوى الاعتراض والتغيير. قمع الذاكرة لا يقتصر هنا على إغفال زيارة طارق الخطيب، وزير البيئة العوني السابق لعكار وتكرار الوزير جريصاتي لمساره ومواقفه الخطيب، بل ينطوي على أمور كثيرة، من أهمها إغفال (عدم ذكر) قضية مكب سرار.

أين أصبح تطوير مكب سرار؟
تنصّل جريصاتي من مسؤولية وزارته في التلوث المائي. ولكنه لم يأتِ على ذكر حلّ مشكلة النفايات في عكار. كل ما قاله هو تهديده للبلديات من جهة ومنحها البراءة من جهة أخرى، وأحال كل النفايات على مكب سرار. وهو حتى اليوم مجرد مكب عشوائي ولكنه ضخم. لماذا لم يطرح الوزير جريصاتي مصير مشروع تحويل مكب سرار إلى مطمر صحي وبناء منشآت معالجة ودعم تشغيل المنشآت وصيانتها وتقديم الدعم في المجال القانوني وشراء المعدات وتنفيذ الأعمال خلال مدة أقصاها ثلاث سنوات، وذلك وفقاً للخطة التي وضعتها وزارة التنمية الإدارية، ووافق عليها مجلس الوزراء عام 2014، استناداً إلى البروتوكول الذي وقّعته الدولة اللبنانية مع الاتحاد الأوروبي عام 2016 لتطبيق خطة «سوام 1»؟الوزير جريصاتي طمس مسألة مكبّ سرار. ولكن لماذا لم يطرح مسألة النفايات ومكب سرار عباقرة المجتمع المدني (مجلس البيئة في عكار، «عكار لعيونك توحّدنا»، «تجمّع عكار الوطني»، «الحراك المدني العكاري» ...) ومنهم مجموعة «عكار معاً للتغيير» التي اكتفت بمذكرة مفصّلة حول مسألة المياه؟ الجواب هو لسبب بسيط: معظم هذه المنظمات غير جذري في حراكه، وغرضه أنما هو أن يخطب ودّ الطبقة السائدة، وأن يجد لقياداته مكاناً في الحصول على مغانم، (توظيفات وتنفيذ مشاريع...) ريع السلطة عبر أحزابها. وإن كنّا نميّز مجموعة «عكار معاً للتغيير»، فإننا لا نأخذ عليها عدم امتلاكها الوعي البيئي المطلوب فحسب، بل نأخذ عليها عدم امتلاكها الوعي السياسي الضروري، من جهة، والإرادة الجدية من جهة أخرى، لتتمكن من رسم سياسة نضالية بيئية سليمة، وتعيين أطر وكيفيات الشروع فيها عملياً وميدانياً. إنها الأزمة الذاتية لقوى التغيير.
في الخلاصة، لم يحصل الوزير جريصاتي من لقاءاته مع العكاريين على معطيات جديدة أو محددة حول المعطيات البيئية. ولم يقم بعرض مشاريع محددة على العكاريين، ولم يستمزج آراءهم في خطة الوزارة. ولا شك عندنا أنه لم يكن يبحث عن ذلك، أو أن ذلك كان في آخر اهتماماته. لماذا؟ لأنه يعتبر أنه يتعامل مع أتباع مقبوض عليهم، ولا رأي لهم. وفي المقابل، لم يكن لدى العكاريين مشروع لعرض واقعهم البيئي على الوزير، ولم تكن لديهم ملامح خطة بيئية يعملون على ترويجها، ويرغبون في عرضها على ضيفهم. لم يُحسن العكاريون حماية عائلاتهم وأبنائهم من المخاطر البيئية إذاً. لا شك في أن عكار تفتقد مؤسسة قادرة على حمل همومها البيئية وعرضها على الرأي العام العكاري (واللبناني)، بغية تشكيل قوة تستطيع فرض خطة بيئية على أصحاب القرار. وعكار شأنها في هذه الحال كشأن معظم باقي المناطق اللبنانية.
* كاتب لبناني