خلال معظم فترات القرن العشرين، شكّل الحراك الشعبي والعمل السرّي وحرب العصابات وحرب الشعب سلاح القوى المناهضة للإمبريالية والأنظمة والحكّام التابعين لها، أو إحدى أدوات حركات التحرر القومي ضد الاستعمار، وكان دَيدن الإمبريالية خلال تلك الفترة هو دعم أنظمة ديكتاتورية أو احتلالات لتثبيت وجودها في مواجهة الكتلة الاشتراكية وحركات التحرر القومي.لكن تحوّلاً كبيراً طرأ على طبيعة الحراك الشعبي، ومن ثم العمل السرّي وحرب العصابات وحرب الشعب، مع نزول كتلٍ جماهيرية ضخمة للشارع لإسقاط دول المنظومة الاشتراكية في بداية تسعينيات القرن العشرين، ومن ثم درج مصطلح «الثورات الملوّنة» لوصف الحراكات الجماهيرية التي تستهدف الدول والحكّام الخارجين عن طوع منظومة الهيمنة الإمبريالية، كما حدث في يوغوسلافيا السابقة تمهيداً لتفكيكها رسمياً، وكما حدث في أوكرانيا وجورجيا وقرغيزيا لاحقاً لتأسيس أنظمة موالية للإمبريالية الأميركية، وكما حدث لاحقاً في ليبيا وسورية قبل ثماني سنوات، وهو الحراك الذي سرعان ما ينحل إلى حربٍ أهلية ومشاريع انفصالية أو مشاريع إضعاف وتفكيك.
المعركة مع الإمبريالية والرجعية العربية باتت على الشعب العربي، على وعيه وعلى اتجاه حراكه السياسي، وليست معركة مع الشعب


باختصار، لم تعد «الجماهير»، كمفهوم مشحونٍ سياسياً يختلف عن مفهوم «الشعب» الأكثر حياديةً، الحصن المنيع لحركات التحرر والقوى التقدمية، ولم تعد بوصلة الجماهير تشير دائماً بالاتجاه الصحيح، وتبيّن منذ بدايات ما يسمى «الربيع العربي» تحديداً أن الإمبريالية تمكّنت بجدارة من اختراق وعي قطاعات من الجماهير المتحرّكة المسيّسة، وتبيّن أن بعضاً من «الشارع العربي» بات مغيّب الوعي تحرّكه (أو لا تحرّكه) قوى وشخصيات غيبية ظلامية قادمة من جحور ما قبل التاريخ، وأن القنوات الفضائية المدارة بمعظمها من جهات إمبريالية أو رجعية عربية باتت تفعل فعلها في عقول وقلوب المواطنين العرب الذين لم يعودوا اجتماعياً كتلاً شبه متماسكة قادمة حديثاً من الريف والبادية كما كانت عليه الحال في الخمسينيات والستينيات. كما تبيّن أن شبكات التواصل الاجتماعي المسيطر عليها إمبريالياً باتت أهم أداة تعبئة وتنظيم وتحريض لا يملك حتى من يدركون ذلك، ويتعرّضون للعقوبة والحظر والتهميش من إداراتها المتحيزة، أن يتخلوا عنها إن هم أرادوا البقاء على صلة بما يجري في «الواقع» من حولهم.
وقد تميّز «الحراك الربيعي»، و«الثورات الملوّنة» من قبله، في أنه يهمّش قضية التخلّص من التبعية، وضرورة تحقيق التنمية المستقلة عن منظومة الهيمنة الإمبريالية والمؤسسات الاقتصادية الدولية، وأنه لا يناهض العدو الصهيوني، بل يتعاون معه علناً أحياناً (هنري برنار ليفي نموذجاً، والدعم الصهيوني المباشر لـ«ثوار جنوب سورية»..)، وأنه لا يطرح مطالب تتعلّق بالعدالة الاجتماعية ولا ينطلق من مشروع وطني أو قومي أو يساري، بل تتميز هذه الحراكات بأنها تركز بشكل شبه حصري، مع بعض الرتوش هنا أو هناك، على مسائل ذات طابع «دستوري» أو قضايا «تداول السلطة» أو «محاربة الفساد» أو «الحريات» أو «الديموقراطية» في عملية نسخ ولصق فوري لبرنامج «الإصلاح الأميركي» في الوطن العربي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وغزو العراق وتدميره.
كما تتميز الحراكات «الربيعية العربية» بأنها تتلقّى دعماً إعلامياً وسياسياً ومالياً واستخبارتياً (وعسكرياً مباشراً أحياناً) من قِبل الدول الغربية من جهة، أو من الأنظمة الخليجية العربية التي لا تخجل من كونها أكثر تخلّفاً وديكتاتوريةً بما لا يقاس من أي نظام عربي ترميه بالديكتاتورية!
وتتميز الحراكات «الربيعية العربية» بتساهلها الشديد مع التدخل الأجنبي، حين لا تدعو له صراحة عسكرياً أو بالدعوة لمطالب مثل «انتخابات بإشراف دولي» وما شابه، كما تتميز بتركيزها الشديد على تفاصيل الشأن المحلي سياسي الطابع من دون ربطه بالشأن الاقتصادي (إلا من بوابة الفساد) ومن دون ربطه بالشأن القومي العربي أو بالتناقض الرئيسي مع الإمبريالية والعدو الصهيوني.
هنا وجد بعض ثوريي القرن العشرين المخلصين والصادقين أنفسهم ينجرفون مع «الحراك الشعبي»، لأنه حراكٌ شعبي، ولأنهم تعلموا من ماوتسي تونغ أن «الشعب دائماً على حق»، على الرغم من أن برنامج الحراك وقيادته (حين تكون واضحة) هو برنامج ثورة مضادة سرعان ما ينحل إلى مطالب طائفية وعِرقية وجهوية تصب مباشرةً في جيب مشروع التفكيك في الوطن العربي.

وجد بعض ثوريي القرن العشرين أنفسهم ينجرفون مع «الحراك الشعبي»، لأنه حراكٌ شعبي، ولأنهم تعلموا من ماوتسي تونغ أن «الشعب دائماً على حق»


ووجد قسمٌ آخر من الثوريين المخلصين والصادقين أنفسهم، ممن شعروا بخللٍ كبيرٍ في توجّهات الحراك الشعبي ومآله، يعيشون حالة رهيبة من الإحباط والغربة، وراح بعضهم يهاجم «الشعب» ويترحّم على روحه، من دون أن يدركوا أن الشعب هو كل ما تملكه الطليعة الثورية، وأن الطليعة المنفصلة عن الشعب سرعان ما ينتهي أمرها سياسياً، وأن تمكّن الإمبريالية من التلاعب بقطاعات كبيرة من الشعب من خلال «حروب الجيل الرابع» (انظر مجلة «طلقة تنوير» العدد 32) لا يعني فقدان الأمل منه، بعد أن انخرط في أطر وحراكات مضادة لمصلحته في النهاية، بل تعني تطوير أدواتنا، وممارسة العمل التثقيفي والجماهيري الدؤوب والصبور للاشتباك فكرياً وسياسياً مع الشعب، والأهم من ذلك هو عدم تضليل أنفسنا بالاعتقاد أن انخراطنا في حراكات مشبوهة ومخترقة «يهدف لإعادتها إلى جادة مناهضة الإمبريالية والصهيونية» لأن القوى والشبكات والآليات التي أنتجت هذه الردّة لا تمكن محاربتها بوسائلنا القديمة، بل تتطلب منا أن نتعلم دروسنا جيداً وأن نطور وسائل جديدة لمواجهتها.
باختصار، المعركة مع الإمبريالية والرجعية العربية باتت على الشعب العربي، على وعيه وعلى اتجاه حراكه السياسي، وليست معركة مع الشعب، ولا هي معركة نقوم بها بعيداً عن الشعب، ونقطة البدء في مثل هذه المعركة هي العودة إلى البديهيات التي حاولت ترسيخ بعضها في سلسلة مقالات منذ بداية عام 2011، وهي لا تزال موجودة على موقع «الصوت العربي الحر» وغيره، وهي تركّز على فكرة أن محاربة الفساد والاستبداد، عندما تصبح مطية للتدخل الإمبريالي وتدمير الدول، وعندما تستند لحراكات مدعومة إمبريالياً وصهيونياً، وعندما تكون مقدمة للفتن الدموية والحروب الأهلية ومشاريع الانفصال، لا تعود مشروعاً إصلاحياً على الإطلاق، بل تصبح يافطة الثورة المضادة التي يجب أن نحاربها بلا هوادة.
من البديهي طبعاً أن مبدأ محاربة الفساد والاستبداد ليس هو المرفوض، ومن البديهي أن من حق الناس أن يحتجوا على المظالم التي يتعرضون لها، وهذا أمر طبيعي ولا يستطيع أحد أن يمنعهم منه، لكن الموقف من مثل هذه الاحتجاجات يفترض أن يحتكم بالحد الأدنى لشرطين أساسيين: 1) أن لا يكون مثل ذلك الحراك مرتبطاً بأجندات وقوى خارجية، 2) أن يكون محكوماً بسقف استقلال الوطن وبالتالي أن يكون مناهضاً للإمبريالية والصهيونية.
وما عدا ذلك، فإن من يطرح مشروع تغيير أي نظام يجب أن يثبت أنه أفضل منه بالمقاييس الوطنية والقومية أولاً، وبمقاييس النزاهة واتساع الصدر ثانياً، وإلا فكفوا عن تدمير البلاد...

* كاتب وأستاذ جامعي عربي