بُعيد إطلاق ما صار يعرف بمبادرة لافروف وكيري لعقد مؤتمر «جنيف 2» في شهر أيار من عام 2013، عرض مسؤولون روس رفيعو المستوى في وزارة الخارجية الروسية على وفد من هيئة التنسيق الوطنية، كان في زيارة لموسكو في تلك الأثناء، فتح مسار تفاوضي سري بين وفد من النظام ووفد من الهيئة، استعداداً للمؤتمر المذكور، وذلك من أجل استكشاف المسائل الأقل إشكالية التي يمكن الاتفاق عليها في الجلسات التفاوضية العلنية الأولى عندما ينعقد المؤتمر، وتقديمها كنوع من النجاح السريع للمفاوضات، وتأجيل تلك الأكثر تعقيداً، والتي تحتاج إلى مزيد من التفاوض لإنضاج الاتفاق عليها.
لكن وفد الهيئة رفض الفكرة من حيث المبدأ في تلك الأثناء. وقد تكرر عرض الجانب الروسي للتفاوض غير الرسمي السري أو العلني مع النظام أكثر من مرة، وشمل قوى معارضة أخرى أيضاً. وعشية انعقاد مؤتمر «جنيف 2» في 22/1/2014، زار نائب وزير خارجية الهند مقر هيئة التنسيق في دمشق، وعرض على الهيئة أيضاً فتح مسار تفاوضي سري أو علني مع النظام، لكن الهيئة رفضت من جديد العرض. وعلى هامش الجلسة الافتتاحية للمؤتمر المذكور، نسب إلى السيد جون كيري وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية أنه قال جواباً عن سؤال لأحد الصحافيين، إن هناك خطاً تفاوضياً موازياً للمفاوضات العلنية الجارية بين وفد النظام السوري ووفد المعارضة، وكان يقصد، ربما، خط مفاوضات بين روسيا وأميركا الدولتين الراعيتين لمؤتمر جنيف والنظام ودول أخرى معنية بالأزمة السورية.
بالطبع، كانت الهيئة تبرر رفضها التفاوض مع النظام خارج إطار مؤتمر جنيف بحجج سياسية كثيرة من قبيل عدم التشويش على المؤتمر الدولي، وأن النظام لا يمكن الوثوق به، فهو لا يلتزم بما يتم الاتفاق عليه إلا إذا كان دولياً. وهذا ما كانت الهيئة تأمل أن يصدر عن مجلس الأمن في صيغة قرار دولي ملزم يتبنى نتائج المفاوضات. لكن بعض هذه الأسباب كان يغلب عليها الطابع غير السياسي، من قبيل الخوف من أن يستخدم خصومها السياسيون في المعارضة السورية ذلك حججاً عليها لتأكيد ما كانوا يصفونها به بأنها صنيعة النظام، أو الوجه الآخر له. بل كانت تخشى الهيئة، وهي محقة في ذلك، من أن يستخدم النظام ذاته المفاوضات السرية معه لحرق الهيئة سياسياً أمام جمهورها، وخصوصاً أنه يعتقل اثنين من أبرز قادتها، فضلاً عن كثير من مناضليها.
إنّ المفاوضات الموازية، وخصوصاً السرية منها، معروفة في تاريخ العلاقات الدبلوماسية. وفي كثير من الأحيان، تكون هي المفاوضات الرئيسية التي تتقرر فيها نتائج التفاوض، والوصول إلى اتفاقات. وخير مثال قريب هو المفاوضات السرية التي جرت بين أميركا وإيران بشأن ملفها النووي.
لقد انعقد مؤتمر «جنيف 2» أخيراً، بعد طول تأخير ومماطلة من جميع الأطراف، وخصوصاً الأطراف الغربية الداعمة لجزء من المعارضة السورية ممثلة بائتلاف قوى الثورة والمعارضة. ومن المعلوم أن هذا الائتلاف تعرض لضغوط كبيرة ومتناقضة من أطراف دولية عديدة، بعضها يحضّه على عدم القبول بالحل السياسي التفاوضي أساساً، وبعضها الآخر كان يطلب منه تحت التهديد الموافقة على حضور مؤتمر «جنيف 2». ما تعرّض له الائتلاف من ضغوط كان طبيعياً لأنه من حيث الأساس تم تشكيله وتمويله وتأمين الغطاء الدولي له لكي يكون أداة محلية في خدمة سياسات دولية عبرت عن نفسها، بوضوح في أكثر مناسبة. ونتيجة لهذه التجاذبات الدولية التي تعرض لها الائتلاف، فقد وافقت الأقلية منه أخيراً (58 من أصل نحو 120 عضواً)، على المشاركة في جنيف، رامية في سلة المهملات كل مواقفها السياسية السابقة. باختصار، فإن وفد الائتلاف الذي يفاوض باسم المعارضة وفد النظام في جنيف، لا يتمتع بقاعدة تمثيلية واسعة، إذ رفضت أغلبية الائتلاف المشاركة في المؤتمر، كما تم تجاهل جميع قوى المعارضة الأخرى ممثلة بهيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديموقراطي، والهيئة الكردية العليا، والمنبر الديموقراطي، وتيار بناء الدولة، وغيرها كثير من تشكيلات المعارضة السورية في الداخل والخارج. عدا عن أن أعضاء الوفد جميعهم معارضون بالصدفة ولا ينتمي أحدهم إلى أي حزب سياسي، بل مجرد أشخاص يحمل بعضهم جنسيات أجنبية ويعيشون في الخارج منذ عقود من السنين. وإذا أخذنا بالحسبان أن تشكيلات المعارضة المسلحة قد رفضت بالأساس مسألة الحل السياسي بالنظر إلى تعارضه مع مشروعها الإسلاموي، فإن وفد المعارضة في مؤتمر جنيف يعدّ فاقداً لشرعية تمثيل المعارضة ولن يستطيع تنفيذ أي من التزاماته، ما سوف يحكم على المؤتمر بالفشل، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن تركيز وفد الائتلاف على مسألة تنحي الأسد، أو نقل كامل صلاحياته إلى الحكومة الانتقالية، بدلاً من التركيز على ضمان البديل الديموقراطي للنظام سوف يؤدي أيضاً إلى فشل المؤتمر. إضافة إلى كل ذلك، فإن النظام سوف يمتنع عن تقديم أية تنازلات جوهرية لوفد الائتلاف، إلا ما يكون قد اتفق عليه مع الدول الداعمة له في خط المفاوضات السري الموازي.
أمام هكذا احتمال، قد يكون من المناسب الدعوة إلى لقاء تشاوري تشارك فيه جميع قوى المعارضة التي استثنيت من المشاركة في مؤتمر جنيف للاتفاق على رؤية سياسية مشتركة للحل في سوريا، وأن تشكل وفداً تفاوضياً من شخصيات وطنية غير مرتهنة للخارج وتتمتع بالصدقية والقدرة على التفاوض، على أن يكون جاهزاً كبديل لوفد الائتلاف الذي يفاوض اليوم في جنيف في حال فشله. بل ليس نافلاً التفكير بجدية وجدوى فتح مسار تفاوضي مواز تحت رعاية دولية مناسبة، يبحث أولاً في مستقبل سوريا الديموقراطي والقضايا الإنسانية وتأمينها من خلال استصدار قرار ملزم من مجلس الأمن أو من الدول الراعية له. وفي هذا المجال ومن أجل حسم مستقبل الأسد ونظامه السياسي، لن يكون صعباً الاتفاق على شكل النظام السياسي في سوريا بأن يكون نظاماً جمهورياً برلمانياً، نظراً إلى أن رئيس النظام كان قد طرحه في رؤيته لحل الأزمة السورية، ويمكن أن يشكل ذلك اختباراً لصدقية النظام. بعد ذلك يمكن الانتقال إلى بحث قضية الجسم السياسي الانتقالي الذي سوف ينفذ ما يتم الاتفاق عليه. وفي مجمل الأحوال، ينبغي عدم الإصرار على طرح تنحّي الأسد المسبق لأنه مطلب غير واقعي، بل تحدّيه أمام صندوق الاقتراع في حال تزعم كتلة سياسية انتخابية.
إن أهمية استبدال وفد المعارضة المفاوض اليوم في جنيف بوفد غير مرتهن للخارج، يتمتع بقاعدة تمثيلية واسعة، سوف يرغم النظام على تقديم تنازلات جوهرية لن يقدمها لوفد الائتلاف في جنيف. وفي الحالة القصوى، وتجنباً لفشل مؤتمر جنيف، قد يكون المسار التفاوضي الموازي، في حال الإعداد له جيداً، خياراً ضرورياً.
* رئيس مكتب الإعلام في «هيئة التنسيق الوطنية» السورية