تكاد مخرجات تجارب مكافحة الفساد العالمثالثية، كل صفحة منها، تجزم بأن من يريد أن يزيل الفساد من الوجود قد ينجح في التخفيف منه إذا ما توافرت مجموعة من الظروف الداخلية والخارجية على السواء. لكن ماذا بشأن من يعلن أن هدفه هو «التخفيف» من الفساد فيما لا يتوافر له ظروف محلية أو إقليمية مواتية؟ هكذا صارح السيد حسن نصر الله مناصريه قبل أيام في خطابه لمناسبة الذكرى الـ12 لـ«الانتصار الإلهي» في آب 2006.في الحقيقة، إذا استثنينا الأشرار «جداً»، فإن الجميع يريدون مكافحة الفساد. الجميع يريدون معالجة النفايات وبناء نظام قضائي عادل والتأكّد من احترام المتعهدين معايير السلامة والكفاءة. حتى الفاسدون يريدون ذلك على نحو ما، فهؤلاء استثمروا كثيراً وعميقاً في النظام إلى حدّ أن سقوطه المحتمل سيشكل ضربة قاسية لتموضعهم الدقيق والخبيث على مفاصله الأكثر جودة فيما يتعلق بالعائدات العينية لممارساتهم. والغضب الشعبي الناتج عن حرق النفايات وارتشاء القضاة وغيرها يساعد في تآكل بنية النظام الذي يخدم مصالح الفاسدين في النهاية.
في هذا السياق، من المفيد الإضاءة على إسهام المافيا الإيطالية الفعالة قبل نحو ثمانين عاماً في مكافحة سرقة البنوك وبعض الأعمال الإجرامية التي يضطلع بها «صغار المجرمين». رؤية المافيا تتلخص في أن ارتكابات بعض العناصر الإجرامية تشكل إحراجاً لهم وتساعد على حشد الرأي العام الأميركي ضدهم (وبالمناسبة، في هذا السياق كانت ظروف ولادة FBI) وتخرّب عليهم «الانسياب الطبيعي» ليوميات المواطن الأميركي وعاداته، هذا الانسياب الذي على قسماته جرى تعيير آلة إجرامهم الكبيرة (الكازينوات، بيوت الدعارة…). الخلاصة هنا بسيطة ومباشرة وأبعد ما تكون عن التعقيد: لا بد من الاعتراف بأن النجاح الموضعي في حل أزمة الكهرباء مثلاً أمر يصبّ في مصلحة مجمل القوى السياسية الفاسدة في لبنان. وللعلم، الفاسدون أيضاً يريدون أن يأكلوا العنب ولا يتلذذون بسادية مازوشية في قتل الناطور على الأغلب (هذا مع استعارة التشبيه الذي أتى على ذكره السيد نصر الله في خطابه). الفاسد يريد فحسب أن يبيع المازوت للمولدات على سبيل المثال، ويحدث أن منطق الامور يؤدي إلى رداءة التغذية الكهربائية كنتيجة مباشرة لغرام الفاسد ببيع المازوت بـ«المفرق». تالياً، لنتصور أن لجنة مكافحة الفساد في حزب الله تمكنت بطريقة إبداعية من اجتراح حل تم بموجبه القضاء على رداءة التغذية الكهربائية من دون التعرض لناطور المازوت، ماذا سيكون عليه موقف النواطير؟ من المرجّح أن أحداً لن يفوقهم غبطة وسعادة.
المقاومة لا تستطيع، تعريفاً، أن تحارب إسرائيل والفساد في الآن عينه، ولا ينبغي لها ذلك


باختصار: مشكلتنا هي مع النواطير الذين لن يكفوا عن ابتكار الطرق لنهبنا، لطالما كانت كذلك. والعنب الذي تنجح في الحصول عليه عندما تغافل الناطور هو خمر يذهب بعقلك بعيداً عن مرادك الحقيقي. لنكفّ عن الأوهام، لنكفّ عن العنب، يجب التعرّض للنواطير، لا مندوحة عن ذلك. في الحقيقة، إن ما سبق من مقالتي هو تمرين ذهني، لزوم ما لا يلزم، كما يقال. المسألة في مكان آخر تماماً. إنها الأولويات، منطقها الذي تحكمه ندرة الموارد وازدحام المآرب. المقاومة لا تستطيع، تعريفاً، أن تحارب إسرائيل والفساد في الآن عينه، ولا ينبغي لها ذلك. نحن لا نعيش في الفراغ السياسي الداخلي والإقليمي والدولي. هناك أهداف كبرى تستلزم تحشيداً وتركيزاً للمصادر من أجل تعزيز فرص نجاح الاضطلاع بها، ولا يوجد في إقليمنا ما هو أشد ندرة من برغي صغير قد يصلح لشد أزر آلة تريد مراكمة أسباب القوة للمقاومة. أما وقد قيل هذا، فكيف سيقنعنا حزب الله بجدوى معركته لمحاربة الفساد؟ هل يوجد عاقل يجادل في نسبة استحصالها على موارده إذا ما قورنت مع استحقاقات المقاومة العملاقة؟ والأحزاب السياسية اللبنانية، الفاسدة بمعظمها، تجيد بمهارة لعبة مقايضة الصمت المتبادلة: صمتها عنه (مقاومته) وصمته عنها (صفقاتها).
هذه معضلة عارضة عن معضلة أصيلة هي ازدواجية هوية حزب الله بين المقاومة والسياسة. والطريقة التي يجري التصدي بها لهذه المعضلة، من خلال تتبع خطابات وأداء قيادات الحزب، لا تشي إلا بمقاربات هزيلة وعابرة لا ترتقي إلى جذرية الموقف وخطورته. وللأمانة، لا ينبغي مطالبة حزب الله بجرم لم يرتكبه، بل يحاول التصدي له بطريقة تفتقر إلى الجدية أو الحنكة، كما يقول البعض. لكن، في المقابل، من المنطقي مساءلة الحزب عن نوع الدوائر العبثية التي سبح وسيسبح، على الأرجح، في حلقاتها نوّابه الـ13 الذين شكلوا ويشكلون عملياً «تنفيساً» آمناً للاحتقان الذي يولده اعتمال الفساد واستشراسه في النهب، ذلك الاحتقان الذي كان من المفترض أن يشكل موادّ أوّليّة للغضب والهبّة، ومن يدري، للثورة!
* كاتب لبناني