التمايز الذي يبديه الاتحاد الأوروبي تجاه السياسة الأميركية الخاصة بفرض العقوبات على كلّ من روسيا وإيران ليس متعلّقاً فقط بهذين الملفّين، بل بمجمل التصوُّر الجيوسياسي الذي يتبنّاه الغرب، ولا يجد حاملاً موضوعياً له غير دول أوروبا الغربية وكندا والولايات المتحدة. هذه هي الكتلة الصلبة للمشروع الغربي، وقد حافظت على تماسكها طيلة سنوات الحرب الباردة، وحين انهار المعسكر الاشتراكي استغلّت الفرصة لتضمّ إليها كتلة أكبر من الدول تشمل معظم بلدان البلطيق، بالإضافة إلى أجزاء من الكتلة الروسية الصلبة سابقاً (جورجيا وغرب أوكرانيا). التوسّع بهذا الشكل لم يترافق مع توافق كامل على رؤية واحدة أو مشتركة للتحدّيات التي تواجه الغرب في هذه المرحلة من توسّعه. صحيح أن العداء لروسيا ظلّ هو القاسم المشترك الأكبر بين هذه الدول، لكن طريقة مواجهته باتت تخضع لاجتهادات مختلفة، وخصوصاً من جانب دول أوروبا الغربية التي لا تشاطر دول البلطيق مخاوفها الأمنية بخصوص الرغبة الروسية في معاودة ابتلاعها وضمّها إلى نطاقها الحيوي.
مرحلة الاحتواء
في هذه المرحلة كانت الإدارة الأميركية تحثّ باستمرار قيادة حلف الـ«ناتو» على تذليل الخلاف بين دوله لجهة الموقف من روسيا، إلى أن حصلت المواجهة الفعلية الأولى مع موسكو بعد نهاية الحرب الباردة. حين حصل التدخل الروسي في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا لمنع جورجيا من ضمِّهما عسكرياً على اعتبار أنهما «جمهوريتان مستقلتان»، وجدت دول البلطيق الفرصة ملائمةً لدفع سياسة المجابهة مع روسيا خطوة إلى الأمام. تحت ضغط هذا التدخل، وفي ظلّ الحملة المحمومة على موسكو في الغرب، وجدت دول أوروبا الغربية نفسها مضطرة إلى الاصطفاف مع دول البلطيق والولايات المتحدة - وبحدّة شديدة - ضد روسيا. صحيح أن الموقف لم يتطوّر إلى انتهاج سياسة عدائية بالكامل ضد موسكو عبر فرض عقوبات عليها، لكن المواجهة حينها أنهت جزئياً التمايز الحاصل داخل المعسكر الغربي لمصلحة اصطفاف تقوده الولايات المتحدة تحت ضغط الدول الأكثر هامشية في التحالف، والأكثر تطرفاً في العداء لروسيا.
في هذه الفترة، وقبل اندلاع الصراع في جورجيا، كانت إدارة باراك أوباما تدير مواجهة مضبوطة مع موسكو، وتحاول بدلاً من مجابهتها تطوير سياسة الاحتواء، بحيث تبقي الصراع منضبطاً، ولا تدفع ببوتين إلى الردّ على التوسع المطّرد لحلف الـ«ناتو» شرقاً ببناء تحالفات واسعة النطاق ضمن أوراسيا. حصول ذلك لاحقاً لم يكن بسبب المواجهة في جورجيا فحسب، بل أيضاً بسبب عدم وضوح الرؤية لدى المعسكر الغربي حول الشكل الأمثل للمواجهة مع روسيا. الأطراف الهامشية داخله كانت تريد للمواجهة أن تتّسع، بحيث لا يُسمح للروس بتطوير سياسة دفاعية واضحة عند حدودهم الغربية، بينما الكتلة الصلبة المتمثّلة في أوروبا الغربية لا تريد الذهاب أبعد من سياسة الردع التقليدية لروسيا تحت قيادة الولايات المتحدة، وفي ظلّ رغبة واضحة لدى الأكثرية داخل التحالف في تغليب سياسة الاحتواء والردع الجزئي على المواجهة المتدحرجة والمفتوحة.

البحث عن شركاء جدد
في المرحلة التي أعقبت المواجهة في جورجيا، وفي ظلّ عدم قدرة دول أوروبا الغربية على مجابهة الميل المتزايد لتسعير الخلاف مع موسكو، بدأت روسيا في البحث عن سبل للمواجهة، بحيث لا تكون عسكرية فقط، وتستطيع في الوقت نفسه تقديم مخارج لموسكو تغنيها عن الانسداد الحاصل في علاقتها بالغرب. ثمّة خيار كان على الطاولة دائماً، ولكن تفعيله كان مشروطاً بانسداد الأفق أمام انضمام روسيا إلى النظام الدولي بشكله الأوسع. حصول المواجهة في جورجيا، وتطوّرها لاحقاً إلى سياسة منهجية عقب الأزمة الأوكرانية، أكّدا للروس استحالة القبول بهم كشركاء في السياسة الدولية. ومن هنا أتى الخيار ليس بالقطيعة مع الغرب والنظام الدولي الذي يديره، بل بتنويع الخيارات بحيث لا تنحصر فقط في الشراكة معه على خلفية الانتهاء من إرث الحرب الباردة.
انتقل الخلاف إلى قلب أوروبا نفسها بعد اتضاح الأثر الكبير لسياسة العقوبات


والحال أن بوتين كان حتى وقوع المواجهة في جورجيا لا يزال يعوّل على انخراط روسيا في هذا النظام، وكان المدخل إلى ذلك هو التعاون مع الولايات المتحدة في نطاق المعاهدات الخاصة بمنع الانتشار النووي، والحدّ من تطوير الأسلحة الهجومية والاستراتيجية. لم يكن النظام في روسيا حينها يملك تصوّراً واضحاً عن شكل انخراطه في السياسة الدولية، وكان لا يزال يبحث عن أفق ممكن للعلاقة مع أطرافها خارج نطاق البناء الاشتراكي الذي انهار ولم يعد باستطاعته -أقلّه حينها - تقديم أجوبة عن تحدّيات الواقع وتطوّراته. الأفق الوحيد الذي كان متاحاً وقتها هو بناء شراكة مع الغرب على أساس ندّي، وفي ظلّ حاجة الطرفين إلى التخلّص من إرث الحرب الباردة سواءً في نطاقها العسكري الخاص بسباق التسلح، أو في نطاقها الأيديولوجي المتصل بالصراع بين الرأسمالية والاشتراكية. عدم حصول التعاون بالشكل المطلوب أو كما كان يأمل الروس، أفضى إلى صدامات عديدة، ودفع بروسيا إلى تفعيل الخيارات التي كانت تنتظر على الرفّ، ريثما تتضح الوجهة الخاصة بالتعاون مع الغرب.

معاودة التمايز أوروبياً
حينما بدأت روسيا في تفعيل شراكتها ضمن منظومات مثل الـ«بريكس»، ومنظمة شانغهاي للتعاون، والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، كانت سياسة العقوبات التي فُرضَت عليها غربياً إثر اندلاع الأزمة في أوكرانيا قد بدأت تؤتي ثمارها. الوصول إلى أسواق المال الدولية أصبح أكثر صعوبة مع شمول العقوبات مجموعات اقتصادية كبرى داخل روسيا، ومع هذه الاستحالة كان مُتوقّعاً أن تتباطأ حركة الرساميل، وأن يقلّ معدل الاستثمار، وبالتالي أن يصبح النمو أقلّ، وتزداد البطالة داخل البلاد. لكن الخسارة الناجمة عن اندماج البلاد الجزئي في الأسواق الدولية تم التعويض عنها بازدياد معدّلات التبادل مع الدول الشريكة لروسيا في إطار المنظومة الدولية البديلة، فتَعَمّقت الشراكة مع الصين، وانضمّت دول جديدة إلى إطار «شنغهاي» بصفة مراقبين، وبدأت المشروعات الكبرى التي أنشأتها الحكومة الروسية لنقل الغاز تجد طريقها إلى النور. هذا أمّن للاقتصاد الروسي قدراً من الاستقرار، وساعده على الخروج من أزمة ارتباط عملته الوطنية بالسوق الدولية. ومع بداية تفكير روسيا بالاستعاضة عن الدولار بالروبل في التعاملات البينية مع الدول الشريكة في إطارَي «شنغهاي» و«بريكس»، أو حتى مع تركيا، يكون الاقتصاد قد دخل فعلياً مرحلة فكّ الارتباط مع الأسواق الغربية اقتصادياً.
عدم حصول انهيار في الاقتصاد إثر سياسة العقوبات أعاد إلى الواجهة التناقضات داخل المعسكر الغربي حول الوجهة الأفضل للتعامل مع روسيا في هذه المرحلة. لم يعد الأمر مقتصراً على التمايز بين غرب أوروبا وشرقها جيوسياسياً، بل انتقل الخلاف إلى قلب أوروبا نفسها بعد اتضاح الأثر الكبير الذي تركته سياسة العقوبات على اقتصادات هذه الدول. الطبقات المتضرِّرة من هذه السياسة عزفت عن التصويت للأحزاب التي تعتبر أنها مسؤولة عن الانهيارات الحاصلة في قطاعات الزراعة والتصدير، واختارت أن توصل إلى السلطة بدلاً منها قوى تعارض هذه السياسة وتطالب باستئناف العلاقات الطبيعية مع روسيا. تسبّب ذلك بمشاكل للحكومات التي تقود السياسة الاقتصادية في أوروبا، وبدأت دول مثل ألمانيا بالتفكير في التراجع عن سياسة العقوبات، أو بعدم ربطها بالأزمة الأوكرانية كما تفعل دائماً. تفضيل المصلحة الاقتصادية على الموقف الجيوسياسي مرتبط أيضاً بالتقاطعات مع روسيا على خلفية الشراكة معها في مشاريع تعتبر حيوية جداً للاقتصادات الأوروبية، ويمكن بسببها الدفع بالتمايز عن السياسة الغربية التقليدية إلى أقصاه.

خاتمة
ثمة عوامل أخرى تدفع بهذا التمايز قدماً، منها حصول تضارب مع إدارة ترامب حول عدد كبير من الملفات، ووصول القادة الأوروبيين إلى قناعة باستحالة الاعتماد على الولايات المتحدة، ليس فقط في تحقيق أمن القارة الأوروبية ضمن نطاق الشراكة الأطلسية، بل أيضاً في الحفاظ على ازدهار أوروبا اقتصادياً في إطار نمط تبادل تجاري مستقر ومُتَّفق عليه دولياً. كل هذا أفضى إلى حصول تقاطعات مع قوى - مثل روسيا وإيران - لا يمكن القبول بها كشريك في الغرب، ولكنها في ظل أزمة هذا الأخير، وتخبّطه في تحديد سبل مواجهة خصومه، يمكن أن تلعب دوراً في الحفاظ على استقراره الاقتصادي. وفي هذا السياق تحديداً، يأتي الاقتراح الألماني على لسان وزير الخارجية هايكو ماس، بإنشاء منظومة دفع مستقلّة تكون بديلاً من القنوات الأميركية بالنسبة إلى الشركات الأوروبية التي قرّرت البقاء في إيران والحفاظ على تعاملاتها التجارية هناك. ليس ثمة شراكة بالمعنى الفعلي هنا، ولكنها حاجة ماسّة بالنسبة إلى أوروبا في ظلّ افتقار الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً إلى سياسة واضحة تجاه الخصوم والحلفاء على حدّ سواء.