ظهرَ في بيروت في أواخر التسعينيات وأوائل الألفيّة الجديدة شخص أميركي اسمه فرانكلين لامب. كانت كتاباتُه في البداية تقترب من الحياديّة، وإن افتقرت إلى الجدّية، لكنها زادت في اندفاعها السياسي في العقد الأخير. بكلامٍ آخر، أصبح فرانكلين لامب ممانعاً، يزايدُ في الممانعة على عاصم قانصوه. مات لامب قبل أيّام، ونعاه (فقط) موقع «كونتر بنش» اليساري الأميركي، حيث كان لامب يكتب في السنوات الأخيرة. لكن من هو فرانكلين لامب؟ لا أعلم، ولا أحد يعلم. المعروف هو أنه قدّمَ في بيروت سيرة ذاتيّة محشوّة (على ما يقول الأميركيّون). وبناءً عليها، فُتحت له الأبواب وقدّمت له الجامعة الأميركيّة في بيروت مكتباً خاصّاً به. لكن قبل عشر سنوات أو اكثر، اكتشفت الجامعة أن سيرة لامب كاذبة، وأن ما أورده فيها غير موثوق ومُختلق وطلبت منه (حسب مصادري في الجامعة) ترك المكتب ومغادرة الجامعة وعدم استعمال أي صفة له فيها. لكن الجامعة فعلت ذلك من دون إعلان، لسبب ما. بقي لامب في بيروت وكتب الكثير من دون معلومات أو تحليل، وإن كانت تحليلاته تنزع نحو نظريّات المؤامرة غير الموثّقة (وهي غير نظريّة المؤامرة الموثّقة) وكان يربط ما لا يُربَط في تحليلاته على طريقة تحليلات حسن صبرا أو جريدة «السياسة» الكويتيّة أو موقع «ديلي بيست» الأميركي (الذي استشهد به أخيراً وليد جنبلاط لتدعيم نظريّته عن تفجير السويداء) أو... تحليلات فارس سعيد الذي أفتى قبل سنتين بأن تفجير جدار مصرف «بلوم» سيكون له تداعيات لا تقلّ عن تداعيات اغتيال الحريري. وكتبتُ على مدوّنتي عن لامب كثيراً، مُشكِّكاً بما يكتب ومشتبهاً في أسباب ما يضمّن مقالاته (وكان يرسل لي مقالاته ردّاً على استفساري عنه كي يقول إنه سياسيّاً مؤيّدٌ للمقاومة ورافض للاحتلال الإسرائيلي، لكنّني لم أردّ عليه لأنني لم أثق به ــــ أرجو ألا أكون قد ظلمته). كان مثلاً يبتكر ويختلق أخباراً وينسبها إلى مصادر في الكونغرس أو في هذا الجهاز المخابراتي أو ذاك. هو مثلاً، زعم مرّة أن تقريراً رسميّاً في الكونغرس وصف دولة العدوّ بدولة «الأبرثيد»، وهذا مناقض للعقل لأنه لو حدث ذلك لقامت القيامة في أرجاء الكونغرس وتعرّض أكثر من مسؤول للطرد الفوري، ولأمرت قيادة الحزبين بإجراء تحقيق. هذا بديهي لمن يعرف أساسيّات السياسة في واشنطن.
وأكثر ما كان يزعجني في مقالات لامب منذ حرب تمّوز أنه لم ينفكّ عن الجزم بأن إسرائيل ستغزو لبنان في الصيف المقبل، وكان يُحدِّد الشهر. وكنتُ على مرّ السنوات أكسبُ عدداً من الرهانات مع خبراء أميركيّين ــــ ليس معه ــــ على أن العدوّ لن يغزو لبنان لا بسبب وداعته أو بسبب دموع وآلام فؤاد السنيورة، بل لأن المقاومة أذلّت العدوّ على أرض المعركة بطريقة لم يألفها، وهو بات يتجنّب تكرار الإذلال لأن ذلك يقضي على قوّته في الحرب النفسيّة ضد العرب ــــ وهذا مخزون استراتيجي له. وتكرار التحذيرات والتنبؤات حول عدوان إسرائيلي قادم يدخل أيضاً في نطاق الحرب النفسيّة. وجالَ لامب في منطقة الشرق الأوسط وزار ليبيا وسوريا. ولم يكن في كتاباته أي جديد أو معلومة غير مختلقة للفت الأنظار، أو للتعويض عن خلوّ المضمون.
في سيرة لامب، التي تسبّبت في فتح الأبواب أمامه، الكثير. هو زعمَ أنه كان خبيراً في لجنة العدل في الكونغرس الأميركي، وأن ذلك أتى مترافقاً مع شغله منصب أستاذ القانون الدولي في كليّة الحقوق في جامعة «نورثوسترن» في أوريغون. لكن هناك كليّة حقوق في جامعة «لويس وكلارك» في أوريغون وهي تُعرف باسم «نورث وسترن»، فلماذا لم يقل لامب إنه كان أستاذاً فيها، وهذا هو المُتعارف عليه عند الذين يعلّمون في كليّة حقوق جامعة «لويس وكلارك»؟ (وهناك جامعة «نورثوسترن» في ولاية ألينوي). وأي تفتيش عن رابط بين اسم فرانكلين لامب وكليّة الحقوق في لويس وكلارك لا يأتي بثمار. قد يكون هذا الزعم هو الذي أدّى بالجامعة الأميركيّة في بيروت الى أن تفتح له أبوابها (لا أدري إذا كان علّم صفوفاً فيها). هل لهذا السبب أصبح لامب لفترة أستاذاً في كليّة الحقوق في جامعة دمشق (أو هو يذكر ذلك في عدد من سيره الذاتيّة ويمكن التحقّق من ذلك).
يرد اسم لامب أوّل ما يرد في صحافة أميركا (على ندرة ما يرد هذا الاسم) في آذار من عام ١٩٨٠ عندما وصفته جريدة «نيويورك تايمز» في حمأة مؤتمر الحزب الديموقراطي بأنه «من موظّفي حملة إدوار كنيدي الانتخابيّة». لم تمرّ ساعات، قبل أن يعلن مسؤول في حملة كنيدي أن لا علاقة للرجل بالحملة، وأن لا صفة له ولا دور في تصنيع سياسات بعكس ما زعم.
لكن فبركات لامب في السنوات الأخيرة أصبحت أكثر صفاقةً وغرابةً. في عام ٢٠١٢، كتب أن كل أجهزة الاستخبارات الأميركيّة (هو ذكر أنها ستة عشر، فيما هي سبعة عشر) عملت معاً على إصدار «ورقة» خلُصت إلى أن وجود إسرائيل بحد ذاته هو ضد المصلحة الأميركيّة. وتناقلت الصحافة العربيّة (وخصوصاً الممانعة والإسلاميّة) تلك الخبريّة التي نسبها لامب إلى مصادره الخاصّة. والخبر ينضح بالكذب ويتناقض مع طبيعة عمل الحكومة الأميركيّة ومع ممنوعاتها. لا يمكن منذ عام ١٩٤٨ أن يجرؤ مسؤول حكومي أو جهاز حكومي على أن يكتب ضد وجود دولة العدوّ بحد ذاته. هذا من المستحيلات. ومقالته تلك نشرها موقع «فورين بوليسي جورنال» (والاسم مُصاغ كي يُقرأ على أنه موقع «فورين بوليسي» المعروف وهو ليس كذلك. وموقع «فورين بوليسي جورنال» معروف بنشره للأعاجيب والأغاريب).
سيرة لامب الحقيقيّة غير معروفة. هو يقول إن زوجته قُتلت في حادث تفجير السفارة الأميركيّة في بيروت في عام ١٩٨٣. لكن لو كان ذلك صحيحاً، هل يمكن ألا يكون يكنّ ضغينة للذين يتصنّع التعاطف معهم؟ قد يكون صادقاً في عواطفه، لكن تناقضاته وأكاذيبه تجعل من إمكانيّة التصديق صعبة جدّاً. والغريب في لامب أن كل مقالة له تحمل صفة مختلفة: هو يوماً رئيس لجمعيّة تخليد ضحايا صبرا وشاتيلا، وهو يوماً مدير لجمعية «أميركيّون قلقون على السلام في الشرق الأوسط»، وفي يوم آخر هو رئيس جمعيّة لمساعدة اللاجئين السوريّين، وغيرها من جمعيّات لا وجود لها إلا في مزاعم لامب. كنتُ قد أرسلتُ في حينه لعدد من الصحافيّين في لبنان لتحرّي خلفيّة لامب واستفساره، لكن أحداً لم يفعل.
وهذا النوع من المقالات هو الذي جعل إعلام الممانعة يجعل منه صديقاً وضيفاً مقرّباً، وقد نشرت مواقع لحزب الله مقالاته، وتُرجمت إلى العربيّة كما أنه ظهر ضيفاً على «المنار» وعلى غيرها.
ربّما كان لامب صادقاً في عواطفه، بالرغم من أكاذيبه المفضوحة. لكن ربماً أيضاً لم يكن صادقاً في عواطفه، وربما كان غرضه غير مُعلَن. مَن يدري؟ لكن لو كان صادقاً، لماذا اختلقَ سيرة ذاتيّة منذ ١٩٨٠؟
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)