تستعجب كيف لا تبالي دول العالم الثالث بثرواتها البشرية، بل إنها تقلل شأنها وتتهمها بأنها سبب في التدهور الحالي أيضاً، وذلك في رؤية يغيب عنها المنطق كأننا أمام قضية لا يُراد لها أن تتناول في نقاط محددة مفهومة لتخرج عن نطاق هذا التغيب.للرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، خطاب تحدث فيه عن الأزمة السكانية وضرورة التزام العدد المتعارف عليه للأطفال، ثلاثة، في جمل مطاطية أقرب أن تكون خطاب نصح، وقد بدأ المسؤولون الترويج لتلك المقولات على أساس أنها أحد أسباب الكساد الاقتصادي وتردّي مستوى المعيشة للطبقات الفقيرة بسبب زيادة عدد الأطفال.
النظام الشيوعي والثورة الثقافية لا يزال تأثيرهما قوياً في الصين (أ ف ب )

لكن الأمور لم تنته عند ذلك التصريح، فخرجت الشائعات والأقاويل والتكهنات مفترضة اتجاهاً من الدولة سيعمل على تطبيق تلك السياسة، منها منع الطفل الرابع من الدعم التمويني المستحق من الدولة، قد يكون ذلك خياراً ذكياً بعض الشيء، لكن هل يمكن تطبيق تلك السياسة المفترضة على شعب لا يملك ثقافة الاكتفاء عن الإنجاب، أم ستكون مجرد حبر على ورق؟ ولماذا من منطلق آخر لا توظف تلك الزيادة؟
من الواضح أن العرب لا يعرفون عن الصين إلا تلك النكتة المتعلقة بكون الصينيين كلهم بيشبهون بعضهم بعضاً، لكن ما رأيكم باستعراض نكتة أكثر مأساوية بالنسبة إلى المعكسر الغربي في الوقت الحالي. «أهلاً بكم في جمهورية الصين الشعبية»، هو ذلك التعليق الذي يبدر عنك مزاحاً كلما وقفت في مكان مزدحم، لكن هذا الازدحام - الرمز ما هو إلا سلاح الصين المحوري في خطة الصعود على القمة التي تنفّذ حالياً.

ترس اقتصادي لا غنى عنه
بينما تمشي أوروبا في طريق ضبابي في ما يخص أزمة التعداد السكاني، ويزداد التفاوت بين شريحة من هم في سن العمل، ومن تخطوا تلك الشريحة لمصلحة الثانية، وتعاني الولايات المتحدة من مشكلات عنصرية وبطالة نظراً إلى تفاوت الأجور وزيادة قيمة أجر العامل، تتمتع الصين بأكبر قوة عاملة على وجه الكوكب في الوقت الحالي، وعمالة تدرج خبراتها بين الحرفة اليدوية والمعرفة التقنية بالصناعة. تلك القوة في السنوات الأخيرة عملت على جذب العديد من الشركات العالمية المتخصصة في كل المجالات بداية من الملابس الرياضية والملابس بوجه عام إلى الماكينات المختلفة والمعدات المنزلية حتى الأجهزة المحمولة. تلك القوة العمالية البشرية لا تستغل إلا عن طريق عقود تحتية فقط تتحكم في نسبة التوزيع داخل الصين لتحرك المؤشر بمزاجها ناحية الشركات المحلية، وبذلك تستفيد من قيمة العقود المبرمة في تطوير الصناعة المحلية وتضمن عدم تسرب المنتجات الأجنبية إلى السوق بنسب تضر بالاقتصاد القومي، ومقابل ذلك كل ما تقدمه هو عامل قد يكون أقل كفاءة لكنه أفضل سعراً وبكفاءة مرضية.
الأمر ليس اقتصادياً بحتاً، فبتلك العقود توثق الحكومة الصينية علاقاتها بالعديد ممن لهم نفوذ في تلك الشركات في صنع القرار الغربي، فتستطيع عن طريقها توجيه دفة الحديث في قضايا حقوق الإنسان في الصين أو مناقشة قيمة اليوان الحقيقية التي تطرح بنصفها أمام الدولار المتدهور حالياً نظراً إلى غياب استقرار قيمته، وتلك القضايا التي يحاول المعسكر الغربي استعمالها كأوراق ضغط قد لا يستطيع تحريكها فيما هو قادم من أعوام للمصالح الاقتصادية التي تتوغل رموز القطاع الرأسمالي الحر فيها مع الصين.
قد عبرت العديد من التقارير الصادرة عن «الإيكونوميست» و«هارفرد بيزنس ريفيو» بالأعداد الأخيرة عن قلقها من تزايد تلك الظاهرة، إما مباشرة أو باستعراضها أهم الصناعات التي حلت فيها الصين كوكيل رسمي، وأكدت أنه خلال السنوات المقبلة إن لم تستطع الحكومات الغربية وقف ذلك التمدد، فسيكون من الصعب التعامل مع الخسائر الاقتصادية الناجمة عن العامل الصيني، وأيضاً نبهت العديد من مكاتب الاستشارات الكبرى الأميركية والأوروبية إلى خطورة الوضع الحالي في ما يتعلق بقيمة صرف اليوان الصيني الذي يحافظ على وجوده بنصف قيمته مكبداً الدولار الأميركي خسائر باهظة، مشددين على أنه ما إن لم يستطع البنك الدولي الضغط على الصين لحل تلك الأزمة، فإن الدولار واليورو سيكونان خارج المنافسة مع حلول 2050. مؤشر «غولد مان ساكس» أيضاً أكد تلك المخاوف بعد وضع توقعات تؤكد أن الصين في طريقها للصعود إلى قمة الهرم الاقتصادي العالمي.
المؤشر المتعلق برضا الشعب الصيني عن سياسات الحكومة لا يزال مستقراً


نقطة أخرى تستفيد منها الصين حالياً في ما يخص التعداد السكاني هي عملية التجييش الثقافي الشاملة التي تهدف إلى نشر الثقافة الصينية والفكر الشيوعي المتعلق بالدولة الصينية وإظهار الصين كنموذج مثالي يستحق الاحتذاء، وأنه منافس للقوى الغربية، أو بمعنى آخر: «ماو تسي تونج يتسرب للخارج»، بدأ الأمر بالانتشار عن طريق مؤسسات الاستثمار الثقافي، والعنوان يدل إلى أن تلك المؤسسات ستعبر بالدرجة الأولى عن علاقة اقتصادية ينتج عنها مكسب استراتيجي مهم في ما يتعلق بالدول العربية ودول الشرق الأوسط، وهي تستثمر اليوم كثيراً في مؤسسات تحمل دعماً حكومياً رسمياً لترجمة الأعمال الصينية إلى مختلف اللغات خاصة العربية. قد يُرى ذلك على أنه أمر إيجابي ووردي، لكن بنظرة واحدة إلى العناوين التي تدعمها الحكومة، فستجدها كلها إلى كتاب ينتمون إلى الدولة، بعضهم يوجدون مع الوفود الصينية الرسمية في المحافل والفعاليات الثقافية المختلفة التي تشارك فيها الصين في الدول العربية، وأغلب الكتب تركز على تصدير النموذج الصيني الأمثل اقتصادياً وسياسياً، كما أن الكتب الأدبية تكون في مضمونها لكتاب يتناولون الحياة اليومية بصورة مبتعدة تماماً عن أي نقد للسلطة الحاكمة رغم تردي وضع الحريات في الصين، ووجود أدباء كبار ومسرحيين لا تصل أعمالهم عن طريق تلك المؤسسات الاستثمارية الثقافية إطلاقاً.
وبالطبع، للعامل البشري دور في نجاح تلك المنظومة الرأسمالية الثقافية وظهورها بقوة ومعها الحجة، فالتنوع البشري الصيني واختلاف البيئات والثقافات يجعل من السهل انتقاء نماذج مختلفة حتى في ما يتعلق بمجموعات الأقليات، ما يجعل المحتوى مشوقاً وينفي ظاهرياً شبهة الانتقائية لتيار محدد.
إن أهم المؤسسات التي يمكن ملاحظة نشاطها هي مؤسسة «بيت الحكمة» في مصر، التي تساهم في توثيق العلاقات الثقافية بين الصين وتهدف مباشرة إلى إقامة أواصر تعتمد على التبادل العلمي والثقافي الذي يجذب الجيل القادم إلى الصين، وإلى النموذج الصيني كبديل من الدول الغربية وثقافاتها.
لا داعي للحديث عن الصين عسكرياً، فقد تناولت العديد من المقالات هذا الأمر، لكن يتوجب التنبيه إلى أن الدول المحيطة بالصين، التي لا تنتمي إلى المعسكر الصيني سياسياً، دخلت بشكل ملحوظ مرحلة استنفار أمني غير مسبوق: فيتنام، كوريا الجنوبية وحتى أستراليا، التي أبرمت أخيراً صفقات عسكرية هي الأضخم في تاريخها لتأمين الحدود على هامش صعود الصين عسكرياً.

غضبة شعب
النظام الشيوعي والثورة الثقافية لا يزال تأثيرهما قوياً في الأغلبية بالصين، حتى تلك اللحظة، فالمؤشر الداخلي المتعلق برضا الشعب عن سياسات الحكومة لا يزال مستقراً ولم يشهد إلا انخفاضاً طفيفاً، بل إن قاعدة كبيرة من الرأي تقنع تماماً بضرورة المساندة تحت أي ظرف، فالرأي العام الصيني يظل في ظهر الحكومة. تلك المقدمة كانت ضرورية لتفسير ذلك السلوك القادر على ضرب الاقتصادات الغربية في مقتل، والذي أصبح يقام له ألف حساب أخيراً؛ سلوك السائح الصيني، تلك القوة التي لا يستهان بها في فرض الموقف، والدلائل على ذلك كثيرة، أهمها تاريخياً ما حدث بعد التجربة النووية للرئيس جاك شيراك بالمحيط الهادي، التي هبطت بعدها نسبة الزائرين إلى اللوفر هبوطاً حاداً لخسارة السياح الصينيين الذين اعترضوا على تلك التجربة. وفي حوادث أخرى، يلحظ دائماً انخفاض مبيعات «كارفور» مع كل توتر للعلاقات بين أي دولة غربية والصين، لذا تلك العوامل توضع في الاعتبار مع أي مفاوضات تقام بين الصين ودول المعسكر الغربي.
يستعمل أيضاً العامل البشري في توطيد علاقات بالدول المحيطة للصين عن طريق إقامة أواصر عائلية، وتساهم الدولة في سياسة تزويج للشباب الصينيين بالدول المحيطة فيعودون ومعهم روابط عائلية تساهم بربط المجتمعات ببعضها بعضاً. الصين الحالية تدرك أن المعادلة صعبة، فالذاكرة التاريخية لن تنسى حقبة الإمبراطورية الصينية التي هيمنت سياسياً واقتصادياً قبل القرن السادس عشر وانهزمت أمام الغرب بعد الثورة الصناعية لنفس العوامل التي كانت أساساً لهيمنتها وأهمها العامل البشري وسياسة التمدد. لذلك إن الصين الحديثة تبدو حذرة في ما يتعلق بذلك، وتطبق سياسة الطفل الواحد لضبط التعداد السكاني بما يمنع حدوث تضخم لكن بما لا يعرقل النمو الاقتصادي الداخلي، كما تقيم سياسات التوسع السياسي والاقتصادي في أفريقيا على أساس من الحذر والحيطة من دون الانجراف إلى توسع شاسع قد يؤدي إلى نتائج عكسية.
إن سلاح العولمة الذي كان يستعمله الغرب ينقلب عليه اليوم، فمع التغلل الصيني في علاقات مع شركات كبرى متعددة الجنسيات لها نفوذ سياسي، بحسابات المصالح، لن ترضى تلك الشركات بتضرر الصين، أو كما يصرح الخبراء الاقتصاديون حالياً: قد وقع الغرب في المصيدة حتى رأسه.
فهل لا نزال بعد ذلك، ومع استعراض كل تلك الدلائل، نظن أنها أزمة سكان، أم أزمة إدارة تبحث عن الانتفاع السريع دون خطط تنموية كبرى؟
إن كانت الذريعة أو الحجة رداً على ذلك الكلام بأن الصين دولة شيوعية ذات نظام واحد يسهل السيطرة على شعبه، فلننظر جميعاً إلى الوضع حالياً: إن كل وسائل الإعلام الخاصة والحكومية (في مصر) جميعها تتبع الدولة، والساحة السياسية لا يوجد فيها إلا طرف واحد هو المالك لكل المفاتيح. إذاً، هل يوجد حقاً ما هو عائق أمام التوظيف الأمثل للطاقة البشرية المتعطلة؟
* باحث مصري