إيمانويل تود، المؤرخ والمفكّر الفرنسي، ليس بالظاهرة العجيبة في العالم المتقدم، وخصوصاً في الغرب. فحين كان في الخامسة والعشرين، قبل واحد وأربعين سنة، استطاع أن يتنبأ بتوقيت انهيار الاتحاد السوفياتي. ولم يكن التنبؤ كتنبؤات الشاب اللطيف نديم قطيش وأترابه بالنسبة إلى موضوع عودة الرئيس سعد الحريري، في ما معناه: «يومين بالكتير... جمعتين»، بل إن العالم الألمعي تود قد حدد مجالاً زمنياً أدناه كان أربع عشرة سنة، وقد اعتمد في نبوءته على بحث دقيق يدرس العلاقات وقرائنها ما بين الشرائح العمرية في الاتحاد السوفياتي، ونسب إنجابهم وتكاثرهم وكيفية تأثير هذه الشرائح وقياس رضاها العام في السياسات آنذاك، وتخمين نقاط التحول الجذرية على طول المسار الزمني المفترض، وماهيتها.
ما قيل أعلاه بكل بساطة، يا أيها الملأ، الذي آمل أن يكون كثيراً مباركاً، هو ما يجري في الشقيقة السعودية التي شقوتنا معها قديمة وممتدة من أيام سيدنا آدم وسيدنا هابيل وسيدنا قابيل! حتى لا يزعل قطيش وأترابه الكرام. بينما ينهمك سموّاتهم طوال العمر الحازمون الحاسمون في دراسة الإعلام العظيم على الساحة اللبنانية واستخلاص النتائج من "جهابذة" العقل البشري، تعكف الدوائر العلمية المؤسساتية في الغرب، الضاربة في العراقة والقدم والأبحاث، على مراقبة الحقائق والأرقام في الواقع. ليس واقعهم هم. يا شباب... بل واقع المملكة!
على سبيل المثال لعمل تلك الدوائر، تدرس ما يأتي: تبلغ نسبة المواطنين في المملكة الذين ممن هم دون سن الثلاثين 70%؟ كم موظفاً بينهم؟ من منهم قادر على تملك منزل كما فعل أبوه؟ كم منهم يتعامل مع الإنترنت و«السوشال ميديا»؟ ما هو مستوى المغردين في «السوشال ميديا» وعددهم وعدد تغريداتهم وأين انصبت عناوين هذه التغريدات؟ ما هي اهتمامات هذه الفئات بالنسبة إلى العناوين؟ ما هو تقييم مستوى رضاهم عن الوضع المعيشي؟ طبعاً أضف إلى ذلك الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية.
تحلل مثلاً ماذا يعني أنك ترصد ميزانية لصفقات وُقّعت، وتضع التزامات بقيمة 430 مليار دولار على مدى عشر سنوات، أضف إليها حصيلة عجز سنوي في الميزانية يناهز 80 ملياراً. كذلك أضف ديوناً دولية بـ200 مليار مقابل احتياطي نقدي يقارب 550 ملياراً! أنا أنتمي إلى عالم المال والأسهم. لو كانت الحكومات شركات، فهذه شركة متعثرة. نحن هنا نتكلم مع انعدام الأمل بحدوث شيء من النمو أو الازدهار!
القصة ليست في ما قيل سابقاً، بل في ما سوف يلي: لقد حسم هؤلاء وحزموا (عرفتم من هؤلاء؟) بأن دوام الحال، وخصوصاً في المملكة، من المحال. وعلى قولة السياسيين اللبنانيين المفضلة: يبنى على الشيء مقتضاه. وقد قضى هؤلاء الأمر وانتهوا: هندسة التفجير السعودي.

عملية ابتزاز لبنان بهذه الطريقة، تمثِّل خطأً إجرائياً وتكتيكاً فادحاً

بناء عليه، نستطيع أن نفهم الأمور التقنية التفصيلية في المشهد. فاستغناء صاحب القرار في المملكة عن أجهزته التقليدية والأقربين من الأسرة الحاكمة يهون في ظل استفحال الشركات الأمنية والاستراتيجية والعملاتية كـ«بلاك ووتر» و«ماكينزي» وشركات أخرى أمنية، إذ يسوق لها بحماسة معلنة وصريحة حاكم دولة شقيقة أخرى. لهذا الحاكم صفة الفأر الأول لأحدث نمط من التجارب الاستخباراتية الحديثة لتلك الدوائر الغربية (هؤلاء). كما ينشط في تلك المشاريع الإجرامية جيرارد كوشنير وأضرابه برحلاتهم المكوكية لتنفيذ تلك المشاريع والمبادرات وتقريشها. وهم سلالة مدرسة شيكاغو، ميلتون فريدمان وزمرته، الآباء المؤسسون لحزب المحافظين الجدد.
لا أعتقد أن أحداً في الأسرتين «الكريمتين» (آل سعود وآل نهيان)، ما عدا الوليد بن طلال، ربما لفضوليته التطفلية وغير العلمية، قد درس ميلتون فريدمان وأسطورته وتجاربه في جنوب أميركا وغيرها. الرجاء من القارئ لو يقرأ نبذة عن ميلتون فريدمان وكيف يقرن اسمه في العالم بوحشية رأس المال الدولي وما ساهم في هذا العالم منفرداً من مآسٍ وخصوصاً في تجربته المخبرية في شعب دولة شيلي إبّان حكم الديكتاتور بينيشيه.
أيضاً من جانب أساسي من المشهد: لماذا، يا ترى، تُسترضى إيران وتُحلحل قضيتها النووية ويستأنف نشاطها الاقتصادي؟ ملفات العراق وأفغانستان وسوريا والمقاومة كانت وما زالت على نفس نسقها؟ لم يأخذ الأميركي أي شيء في المقابل. ولكن الإشارة هنا تقول إن الفرضيات تأخذ ربما عقداً ونصف العقد، أقله، كما في حالة الفرنسي تود مع الاتحاد السوفياتي. إيران قوية وستكون لاعبة وحاضرة على المسرح المعد. لذلك، كان لا بد من التدرب وتعوّد التنسيق وعقد الصفقات معها ومع محورها. والشاهد لهذا القول: حرارة أجسام زعماء العالم. لم تبرد من على المقاعد في فييتنام بعد.
للأسف، إنهم يديرون انفجاراً صار ملحاً اليوم في المملكة السعودية. الآن موقف قطر، أو من هو على شاكلتها، تكتيكي، وفق وتيرة سير الأزمات واقتناص الفرص التي سوف تتوالى على المسرح المعد. هذا أمر تفصيلي بالنسبة إلى الصورة الكلية. لن تعدم أي من تلك الدول، العدة والعديد والعداء لشقيقتها الكبرى. وما دورها (قطر وغيرها) في المشاهد الإقليمية بخافٍ ولا مستتر، بل صفيق ولا يفوقه صفاقة إلا ما جرى في المقابلة المتلفزة مع ذاك الشيخ السافل الذي «شوفته تصيب أي إنسان شريف بالغثيان»، وهو يشرح «هوشته». (بالمناسبة لم أستطع أن أكمل دقيقة مشاهدة من تلك المقابلة اشمئزازاً من نطقاته).
ما أود أن أختم به أن مقالتي مختصرة. وهي من وحي مقولة، سيئة الذكر، كونداليزا رايس، التي بشرت بولادة شرق أوسط جديد من رحم الفوضى الخلاقة، والمدارة باحترافية عالية وماكرة من هؤلاء.
بمناسبة الحديث عن الأناكوندا ليزا، يقول الدكتور الأميركي، فلنكنشتاين، الذي نجا والداه من المحرقة النازية بسبب انتمائهما إلى الطائفة اليهودية، أن مشاهدة مجزرة قانا من كونداليزا رايس، وإجابتها الشهيرة والموجودة أعلاه، تبلغك بمدى الوحشية القاطنة في ذهنية كونداليزا وعقمها وحقدها الأعمى على لب الرحمة الإنساني، وهو دور الأمومة والإنجاب، إذ شبهت ما يحدث من قتل للأبرياء والأطفال بآلام المخاض لامرأة تضع مولودها! آسف، ختامها لم يكن مسكاً... أعرف.
* كاتب كويتي