لا أزال أعالج الكتاب الصادر حديثاً للمؤرّخ الإسرائيلي، غي لارون، «حرب الأيّام الستّة: تمزيق الشرق الأوسط»، الصادر عن دار نشر جامعة ييل (بالمناسبة، بسبب القحط المالي لدور النشر الجامعيّة، فإن الكثير منها يلجأ للنشر التجاري، أي لنشر كتب لا توافق المعايير الأكاديميّة التي كانت تلك الدور تحرص عليها.
وبعض دور النشر الجامعيّة، مثل «أوكسفورد»، تميّز في نشرها بين ما يصدر عن نيويورك وما يصدر عن بريطانيا).
والكتاب (الذي أجزم أنه سيُترجم إلى العربيّة وسيلقى الإطناب على أنه آخر ما يصدر عن التأريخ الرصين والمرجعي) يلتزم بذمّ جمال عبد الناصر وتشويه مساره ودوره وشخصه، على طريقة الإعلام السعودي. فلارون يصرّ على تصوير علاقة عبد الناصر بالإدارات الأميركيّة على أنها علاقات ذيليّة. لكنه يقع هنا في تناقض صارخ: هو من ناحية يجعله تابعاً ويقول إن «الجميع» في مصر أو العالم العربي (ص. ٥٦) كانوا في أوائل الخمسينيات يسخرون من عبد الناصر بسبب كونه أداة للأميركيّين ويعيّرونه بلقب «كولونيل جيمي» (لا يذكر المؤلّف هنا مصدراً). ومن ناحية ثانية، هو يستفيض في الحديث عن اجتماع دول الغرب في تآمر مستمرّ ضده — وفي دعم إسرائيل، ويروي عن مساعي متشعّبة سعت لضرب نظام حكمه. إذا كان عبد الناصر متعاوناً مع الحكم الأميركي كما يزعم، فلماذا كانت تعدّ المؤامرات والاغتيالات والحروب ضدّه؟ أكثر من ذلك، عمد الكاتب إلى تشويه خطب منشورة لجمال عبد الناصر (وسأعود إلى ذلك أدناه). لكن عبد الناصر رفض مبكراً توقيع معاهدة ولاء طلبت منه الإدارة الأميركيّة توقعيها. لكن انحياز المؤلّف السياسي يظهر عندما يشير إلى عبد الناصر دائماً كـ«ديكتاتور» بينما يشير إلى الملك الأردني والملك السعودي بألقابهم الرسميّة. وهذا النمط في اللغة يسري على المؤلّفين الإسرائيليّين والغربيّين بصرف النظر عن قاطع اليمين ـ اليسار (يمكن مثلاً مراجعة كتاب مؤرّخ جامعة أوكسفورد، آفي شلايم، الذي يُعد عميد المؤرّخين المُراجعين، عن الملك حسين، بعنوان «أسد الأردن»). والطريف أن لارون يستشهد بتقارير السفارة الأميركيّة لتقرير اتجاهات الرأي العام المصري أو العربي (أو حتى بكتب إسرائيليّة) (راجع حاشية رقم ١٥ في صفحة ٦١). وإذا لم يتوفّر تقرير من سفارات أميركيّة ضد عبد الناصر، فلارون يجد دوماً غرضه في الاستشهاد من جريدة «الحياة»، التي يعتبرها الممثّل الشرعي والوحيد للرأي العام العربي في الستينيات. (راجع حاشية رقم ١٦، في الصفحة السابقة نفسها).
لكن المؤرّخ ليس مذنباً فقط بالنسبة إلى نوع المصادر، لكنه مُذنب أيضاً من زاوية الأمانة العلميّة. فهو يشير إلى خطاب ألقاه جمال عبد الناصر في عيد العمّال في عام ١٩٦٥ (والنص الكامل منشور في جريدة «الأهرام»، في ٢ أيّار، ١٩٦٥). لكن المؤرّخ كالعادة لا يعتمد على نص الخطاب المنشور بالعربيّة، بل على تقرير السفارة الأميركيّة عنه، فيلخّص الخطاب للقارئ هكذا: «بنفاقٍ، ذمّ عبد الناصر الزيادة المضطردة في مرتبّات موظّفي القطاع العام، والتي كان هو مسؤولاً مباشرةً عنها. لا بل هو نصح المصريّين بأن ينجبوا أطفالاً أقلّ وأن يستهلكوا طعاماً أقل» (ص. ٦٣). أما الخطاب عينه فهو طويل ويختلف سياقه بالكامل عن الموجز الذي قدّمه لارون—والسياق هو حرب اقتصاديّة شنّتها دول الغرب ضد مصر. شرح عبد الناصر الوضع الاقتصادي قبل وبعد الثورة وعدّد الإنجازات والمصاعب والإصلاحات. كما تحدّث عن مشاركة العمّال في صنع القرار. أما عن زيادة المرتّبات فلم ينسبْها عبد الناصر، كما أشار لارون، إلى أجور العمّال، بل تحدّث عن شكوى من العمّال عن أجور «الفنيّين» في المصانع، وهو أشاد بهم وسوّغ مرتّباتهم وقال عنهم «من دون الناس الفنيّين لم نكن نستطيع بأي حال من الأحوال من احنا نعمل صناعة جديدة». يبدو أن كاتب التقرير للسفارة الأميركيّة لم يفهم كلام عبد الناصر في خطابه. أما عن أنه دعا الشعب المصري إلى إنجاب أطفال أقلّ، فهذا ما قاله بالحرف: «كل واحد فيكم بيطالبني أن انا أشغل له اخواته وأولاده ومش بس الأولاد، الأولاد والبنات واحنا بنرحب بهذا وبنعتبر أن ده عمل كبير جداً وواجب قيّم لنا، ولكن ازاي أنا حا اقدر اشغل ولادكم وبعدين الحمد الله كل واحد عنده عشرة اتناعشر عيّل أو ثمانية سبع عيال، طيب حاتقولوا لي شغلهم، أشغلهم إزاي؟ تقولوا لي وكلهم حا أوكلهم ازاي؟؟ لازم نشتغل، علشان نشغلهم ونوكلهم، طبعاً مش معنى هذا أن أنا باقول كل واحد لازم يجيب عشرة أنا بااقول اثنين ثلاثة أربعة كفاية والا مش حانقدر، مش حانقدر نوكلهم ومش حانقدر نشغلهم»، وتحديد النسل كان مشروع دول العالم الثالث وهو من صلب برامج الأمم المتحدة أيضاً، لكنه يصبح مذموماً في الحالة المصريّة.
أما قول الكاتب أن عبد الناصر طالب العمّال بالتقليل من الطعام، فهذا غير دقيق على الإطلاق. ومن المعلوم أن عبد الناصر كان شديد الحاسية نحو قوت العمّال، وقد روى عزيز صدقي، وزير الصناعة والثروة المعدنيّة في العهد الناصري، في برنامج «زيارة خاصّة» على «الجزيرة» قبل سنوات، كيف أن عبد الناصر قرّر زيادة الحدّ الأدنى للأجور إثر زيارة قام بها لافتتاح أحد المصانع، ولاحظ أن عامليْن كانا يقتاتان على البصل والخبز. صحيح أن عبد الناصر تحدّث عن الوضع الاقتصادي الصعب والحرب التي يشنّها الغرب ضد مصر، لكن ما قاله كان مختلفاً — في الكلام والسياق ــــ عما ورد في كتاب لارون. قال عبد الناصر بالحرف: «واللي بيقول علينا شروط لا نقبل هذه الشروط بعدين باقول إن احنا كشعب نحافظ على كرامته ويحافظ على أن يكون شعب مستقل... وزي ما قلت لكم قبل كده وكلكم وافقتم احنا مستعدّين اللي بياكل رغيف بياكل نص رغيف عشان نحافظ على شرفنا ونحافظ على كرامتنا... أو مستعدين إن احنا نتنازل عن كرامتنا ونقبل الشروط؟ أنا باقول إن مفيش واحد مصري مستعد يتنازل عن كرامته مفيش واحد مصري مستعد». واضح إن كلام عبد الناصر كان مجازياً في معرض التشديد على الكرامة الوطنيّة. هنا، يستدّل أن لارون مستعدّ أن يكذب، أو أن تقارير السفارة الأميركيّة من القاهرة كذبت، فقط من أجل تشويه صورة زعيم قضّ مضاجع كل حكّام الغرب وحكّام إسرائيل.

يتبيّن من رواية لارون الضلوع الإسرائيلي الاستخباراتي المباشر في الشأن العربي


لكن هناك في الكتاب ما هو ضروري أن يصل إلى القارئ العربي. لا يساورنكم (ويساورنكنّ) شكٌ أن حكومة الاحتلال الإسرائيلي كانت مصمّمة على احتلال الجولان وسيناء وكل فلسطين وجنوب لبنان منذ الخمسينيات، وأعدّت خططاً لذلك. ديفيد أليعازر («دادو»، هل أغلظ من الكنية التحبّبيّة لمجرمي الحرب الصهاينة؟) أعدّ خططاً للاستيلاء على الجولان منذ أن تسلّم منصب «القيادة الشماليّة» في عام ١٩٦٤ «وكان متشوّقاً لتنفيذ» الخطط تلك (ص. ١٥٠). وإيغال ألون نشر كتاباً في عام ١٩٥٨ دعا فيه إلى «إفناء» القوّات المصريّة في سيناء، ووضع الجيش الإسرائيلي خططاً بهذا الصدد منذ العام نفسه. أي أن الكلام العربي المبتذل عن أن العرب استدرجوا إسرائيل إلى الحرب فيما هي كانت متمنّعة يدخل في باب دعاية الـ«موساد» التي اعتنقها الإعلام اللبناني والأردني والخليجي بعد ١٩٦٧. وحلم الاستيلاء على الضفّة الغربيّة والقدس الشرقيّة لم يختفِ يوماً من المخيّلة العسكريّة الإسرائيليّة. وقائد القيادة الوسطى في جيش العدوّ، عوزي نركيس، أخبر زملاءه عشيّة الحرب «إنها فرصة عظيمة كي نفعل شيئاً مع الأردنيّين» (ص. ١٥٣)، وهذا يدحض أيضاً فكرة أن العدوّ ما كان سيمسّ القدس الشرقيّة والضفة الغربيّة لو أن الملك حسين تمنّع عن المشاركة (المتأخرة جدّاً للحرب، والتي كانت حسب الوثائق الإسرائيليّة بدافع الحفاظ على العرش فقط). أكثر من ذلك، نركيس هذا عبّر عن هدف آخر في الضفّة إذ قال: «يمكن لنا طرد كل العرب من الضفّة الغربيّة». (ص. ١٥٣).
وفي الوقت الذي أسبغت الدعاية الصهيونيّة أبشع الصفات والنعوت على الخطاب العربي عن إسرائيل، وفي الوقت الذي اختلقت فيه وزوّرت عبارات وجمل وأهداف لم ترد على ألسنة قائليها (أشهرها، طبعاً أن أحمد الشقيري أو جمال عبد الناصر هدّدوا بطرد اليهود إلى البحر)، كان الخطاب الصهيوني الرسمي والخاص حافل بالعنصريّة والتهديد بالإبادة والتدمير. كان أمر القيادة الرسمي لقائد القوّات الجويّة في حرب ١٩٦٧، ماتي هود، يقول بالحرف: «طرْ، حلّق نحو العدوّ، دمّرْه وبدّده في أنحاء الصحراء» (راجع النص في كتاب مايكل أورن، «ستة أيام من الحرب»، ص. ١٧٠). أما عازار وايزمن، صديق أنور السادات الحميم، فكان في محاضراته للضبّاط والجنود يشبّه إسرائيل بالامرأة الجميلة فيما كان يشبّه العرب بالمُغتصبين المُهدّدين. وكان وايزمن، مثل باقي قادة القوات الجويّة، يشكون من ضيق المجال الجوّي الإسرائيلي قبل الحرب. ومن أقوال وايزمن هذا: «إذا قُتِل عربي، فإن هذا أمرٌ جيّدٌ». (ص. ١٥٤).
والرواية العربيّة والإسرائيليّة عن قادة العدوّ، قبل وبعد ١٩٦٧، صوّرتهم كلّهم أبطالاً لا يُقهرون. ولم تهتزّ صورة ضبّاط وجنود العدوّ إلا في العقد الماضي، خصوصاً بعد حرب تمّوز وبعد المواجهات في غزة، والتي قلبت بصورة جذريّة لا عودة عنها، صورة الجندي الإسرائيلي في الانطباع العربي. وهذا يفسّر الإنفاق والضخ الدعائي الهائل، من إسرائيل مباشرة ومن حلفائها في الخليج وفي الغرب، لتغيير هذه الصورة وللتحريض الطائفي والسياسي الهائل ضد كل حركة مقاومة أذلّت العدوّ على أرض المعركة. لو أن الإعلام العربي لم يكن مرتهناً بالكامل لإرادة حلفاء إسرائيل العرب، لكان الشعب العربي قد أدرك كم أن النصر العسكري في حرب تمّوز كان تاريخيّاً بكل المعايير. خذوا (وخذن) مثلاً اسحق رابين. الروايات عن حرب حزيران تتحدّث دوماً عن الانهيار الفظيع الذي أصاب عبد الحكيم عامر، وكيف أن عبد الناصر (بعدما شاهد تشتّت ذهن عامر في عز الهزيمة) تسلّم زمام القيادة منه. لكن اسحق رابين هو الآخر انهار خلال حرب حزيران، لا بل إنه انهار في كل مراحل الإعداد للحرب. هذه الحقيقة عن رابين تغيب عن الروايات الغربيّة والعربيّة عن حرب حزيران، وعن قادة جيش العدوّ. ولارون كان على حق عندما حكمَ، بناء على الوثائق الإسرائيليّة والشهادات العسكريّة، بأن رابين «لم يكن صالحاً أبداً» (ص. ١٥٨) للقيادة في المعارك (هو قاد قوّات في معركة مرّة واحدة فقط، في حرب ١٩٤٨)، ومعظم مهامه كانت في مناصب إداريّة في الجيش.

لم ينحصر النشاط الموسادي في شبه
الجزيرة بالحرب اليمنيّة
فقط


والذي يتبيّن من رواية لارون هو الضلوع الإسرائيلي الاستخباراتي المباشر في الشأن العربي من قبل حكومة العدوّ. وليس من المبالغة القول إن العدوّ كان ضالعاً بصورة مباشرة في كل الصراعات الداخليّة والإقليميّة العربيّة منذ إنشاء الكيان. والعلاقة بين حرب اليمن وبين الهزيمة في عام ١٩٦٧ كانت مباشرة. طبعاً، هذا لا يعفي النظام الناصري من المسؤوليّة عن التورّط (غير الماهر والكفؤ) في حرب اليمن، وإن كان دعمه للجمهوريّة صائباً سياسيّاً. لكن حرب اليمن تحوّلت إلى مصيدة للجيش المصري وتورّط العدوّ الإسرائيلي فيها (كما هو الآن متورّط على الأرجح في الحرب اليمنيّة الحاليّة) في صف النظام السعودي. ولم تكن العلاقة بين العدوّ الإسرائيلي والطرف اليمني الإمامي تمرّ فقط عبر اتصالات مع النظام السعودي (وكنتُ قد كتبتُ عن ذلك من قبل)، بل كانت مباشرة أيضاً. ويصف الكتاب نشاط يعقوف هرتزوغ الذي كان يقوم بمهام سرّية (مثل تولّي العلاقات مع «الأردن والمسيحيّين الموارنة في لبنان والقبائل المتصارعة في اليمن»)، تحت غطاء منصب المدير العام لمكتب رئيس وزراء إسرائيل (ص. ١٦١). وعقد هرتزوغ هذا، مصطحباً رئيس الـ«موساد»، مئير أميت، اجتماعات سريّة عدة مع ممثّلين عن الإمام في اليمن (بما فيهم الأمير عبد الرحمن يحيى) في لندن وباريس وتل أبيب في عام ١٩٦٣. وتضمّنت طلبات الطرف اليمني الإمامي المال (خصوصاً النقود الذهبيّة) والعمل اللوبي في واشنطن بالنيابة عنهم بالإضافة إلى ضرب مصر، وكل ذلك مقابل وعد بتوقيع اتفاقيّة سلام مع إسرائيل (بعد انتصارهم) (ص. ١٦١-١٦٢). وكان مكتب التمثيل الإمامي في باريس مموّلاً من قبل حكومة إسرائيل. وبهذا تشكّل مثلّث التحالف السعودي ـ البريطاني ـ الإسرائيلي لدعم النظام الملكي في الحرب اليمنيّة. أي أن الحرب الكونيّة التي واجهت جمال عبد الناصر لم تكن من نسيج خيال هيكل أو أحمد سعيد. ولم ينحصر النشاط الموسادي في شبه الجزيرة بالحرب اليمنيّة فقط، فقد كان طار هرتزوغ في عام ١٩٦٧ إلى واشنطن لتسويق مشروع حلف يتكوّن من إيران وإسرائيل والسعوديّة والأردن وإثيوبيا وكينيا لدعم «اتحاد الجنوب العربي». وقد موّلت الحكومة الأميركيّة النشاط الموسادي في أفريقيا وفي الجنوب العربي. وكان لنظام الشاه دور محوريّ في الحرب الإسرائيليّة ضد النظام المصري (وتلقّت قوّات إيرانيّة التدريب على يد إسرائيليين). وتشاركت الحكومتان في إشعال نار الحرب الكرديّة في العراق لإشغال القوّات العراقيّة كي لا تدعم القوّات الأردنيّة أو لا تهدد إيران. (وكانت للـ«موساد» محطة ثابتة على أرض العراق، ص. ١٦٥). وتُجمع المراجع الإسرائيليّة على أن الرصد الإسرائيلي (والأميركي) جزم بأن النظام المصري والسوري لم يكونا يعدّان لحرب، وأن كل الاستعدادات — لا بل التسليح — في الجانبيْن كانت دفاعيّة، وليست هجوميّة كما في دولة الاحتلال. وفي علاقاته مع الأميركيّين، كما في علاقاته مع ممثّلي التنظيمات الفلسطينيّة، كان عبد الناصر صريحاً في أنه ليس مستعدّاً (بعد) لخوض حرب مع العدوّ، وأن ذلك يتطلّب تحضير سنوات. وعبد الناصر وعد ووفى (في مفاوضاته مع الأميركيّين) بـ«تبريد» ساحة الصراع العربي ــ الإسرائيلي (ص. ١٦٩). لكن وصف لارون لموقف عبد الناصر إزاء الإدارة الأميركيّة كان مزيّفاً وجهد كي يصوّر موقفه على أنه موقف التابع الذليل. لكن كتاب وارن باس، «ادعم أي صديق: شرق أوسط كنيدي وصناعة التحالف الأميركي ـ الإسرائيلي» كان أكثر صدقاً وأمانةً ونزاهة في قراءة الوثائق الأميركيّة من لارون. كان باس صريحاً في أن الإدارة الأميركيّة كانت تتعامل بحذر شديد مع عبد الناصر لعلمها بكبريائه ولرفضه أي نوع من الإملاءات. وفي المرّة الوحيدة التي حاول فيها السفير الأميركي أن يربط بين المعونات الغذائيّة الأميركيّة وبين السياسة المصريّة، ثار عبد الناصر بوجهه (وعلى أثر ذلك، طلبت وزارة الخارجيّة من السفير عدم إثارة الأمر مرّة أخرى). ولارون يقع في تناقض في تصويره لعبد الناصر إذ إنه في مقطع في الكتاب يورد مقطعاً من خطاب لعبد الناصر ينتقد فيه السفير الأميركي بالاسم لمجرّد أنه قال إن السياسة المصريّة هي «غير مقبولة». (ص. ١٨٢). وفي نفس الخطاب في عام ١٩٦٤ دعا عبد الناصر المعترضين الغربيّين إلى شرب مياه المتوسّط.
ومن الجليّ مِن مراجعة الوثائق التي اعتمد عليها كتاب لارون أن الجدال حول إذا ما كانت الحكومة الأميركيّة متورّطة في قرار الحرب ضد الدول العربيّة، أو حول ما إذا كان ضوؤها أخضر أم أصفر، يجب أن يتوقّف. فإنه من الأكيد، مما يتوفّر اليوم من معلومات حول مضمون الاتصالات والاجتماعات بين الحكومتيْن، الإسرائيليّة والأميركيّة، أن الحكومة الأميركيّة لم تكن فقط موافقة على الحرب الإسرائيليّة ضد مصر، بل هي حثّت الحكومة الإسرائيليّة كي تشمل الحرب سوريا. وفي شهر آذار ١٩٦٧، جال وفد من المسؤولين الأميركيّين على مواقف في الجبهة الشماليّة لفلسطين المحتلّة، وقدّم ياريف ورابين موجزاً عن هجومات حركة «فتح» وأوضحا أن إسرائيل تحضّر «للرد سريعاً». ويقول لارون إن أحداً من الوفد الأميركي لم يعترض. على العكس، فإن مسؤولاً رفيعاً في وزارة الدفاع الأميركيّة، تاوسند هوبس، قال لمضيفيه: «إن السوريّين هم أولاد عاهرات. لماذا لم تضربوهم على الرأس عندما كان ذلك الأمر الأكثر طبيعيّة؟» (ص. ١٩٥) والسفير الإسرائيلي في واشنطن عرف كيف يُسوّق الضربة الإسرائيليّة ضد سوريا: اكتفى بأن وصف سوريا للمسؤول في وزارة الخارجيّة، يوجين روستو، بأنها «كوبا الشرق الأوسط». لكن الحكومة الإسرائيليّة كانت قد عوّلت على إنقاذ أميركا لها في إدارة جون كنيدي عندما قدّم الأخير في ديسمبر ١٩٦٢ تعهّداً إلى غولدا مائير مفاده أن «الحكومة الأميركيّة ستتدخّل لدعم إسرائيل في حال تعرّضها لاجتياح» (ص. ٢٠٤). (لم تكن صيغة التعهّد مرضيّة لإيشكول بما فيه الكفاية).
والذي ساعد الحكومة الإسرائيليّة في بناء قوتّها العسكريّة والتحضير لحروب مستقبليّة ضد العرب، هو اضمحلال الاهتمام الأميركي بما كان يشغل بال جون كنيدي (على الأقل لفترة من الزمن) بالنسبة إلى القوة الإسرائيليّة النوويّة. إدارة جونسون كانت تقبل بزيارات شكليّة مُخادِعة عمدت فيها الحكومة الإسرائيليّة إلى إخفاء حقيقة برنامجها النووي عن حليفها الأهم. يروي لارون كيف أن الزيارات الأميركيّة الشكليّة كانت تُدبَّر قبل أشهر وتجرى في أيام السبت فقط (يمكن مقارنة ذلك بزيارات المراقبة والتحقّق التي فرضتها الحكومة الأميركيّة على المنشآت النوويّة الإيرانيّة). وكانت الحكومة الإسرائيليّة تستعمل الفترة الزمنيّة الطويلة (بين إعلان نيّة الزيارة وموعدها) من أجل بناء مصاعد وأروقة مزيّفة (لإخفاء «الأقسام الحسّاسة» لمجمّع ديمونا عن المُفتّشين). وكانت الحكومة الإسرائيليّة تقدّم للمفتّشين تقارير بالعبريّة عالمة بجهلهم لها ( ص. ١٩٩). ولم تقدّم المخابرات الأميركيّة ما بحوزتها من معلومات عن المجمّع للمفتّشين.
...يتبع
*كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)