بالأمس كان الذي تنزلق عباءته عن كتفه أمام الناس خارجاً عن حرمة الحوزة العلمية، لا سيّما في النجف الأشرف. واليوم ها نحن نشاهد في العراق من يلبس من علماء الدين الشيعة، لباساً عسكريّاً، لا يشير بأي نحو إلى كونه رجل دين إلّا عمّته التي على رأسه.
فما الذي حصل؟ هل هناك انحرافات في المسلكية الدينية بدأت تخترق أوساط رجال الدين الشيعة في العالم العربي؟ أم أن هناك تغيّراً طرأ على المزاج العام والعرف كما التقاليد في أوساط الشيعة؟ أم أن في الأمر مؤشرات لثقافة جديدة في تحديد دور ووظيفة رجل الدين؟
أظن قويّاً أن لا شيء مما سبق هو الاحتمال الراجح. إن تراكماً تأسيسيّاً بدأ يلوح في الأفق منذ نجاح الثورة الإسلامية في إيران، شاشات التلفزة بدأت تنقل صور علماء دين يخطبون بالناس في الشارع يحرّضونهم على الاحتجاج والمعارضة والانقلاب على النظام الشاهنشاهي. ثم رجال دين يمتدون من منصّات الحكم السياسي والإداري والقضائي في إيران، إلى ساحات المعارك والنزال والشهادة... بحيث صاروا يسمّون عصرهم بسمتهم. وتهتز المعاهد الشرعية والحوزات العلمية، فالقاعات لم تعد تتسع لطلاب العلوم الدينية الجُدُد. وما بين الحوزة والشارع العام تقلصت مساحات الافتراق والابتعاد. صارت الحوزة ابنة بيئتها في الوقت الذي تسعى فيه لرسم هوية هذه البيئة من جديد، اقتربت الجامعة والسوق من المساجد والحسينيات، وبالتالي من الحوزات وعلماء الدين، وبالتالي لم يعد الزي يمثل قضية انفصام بين الناس والفرد المعمَّم.
وكل هذا تؤسس له تغيّرات الواقع والوقائع من الأحداث، كما تؤسس له مفاهيم وكلمات وخطابات الإمام الخميني – قده – الذي ما فتئ يكرّر أن النبي (ص)، والأمير (ع) لم يدخلا حرباً بثوب من العُرف المؤسساتي للمعاهد الدينية، بل دخلاها بلامة الحرب.
وهذا ما ينبغي أن يحرّض أهل الحمية أن يتأسوا بالنبي والأمير وآلهما. فينهجان نهجهما وأن يُعمِل كل معمّم مجاهد فأس النقد لينفض عن الأمة وثقافتها وأعرافها أصنام القداسة المزيفة.
لقد سعى بعض المتحذلقين للقول: إن هناك فارقاً منهجيّاً في السلوك بين حوزة قم، وحوزة النجف. وأعتقد أن هؤلاء فاتهم أن معاناة الإمام الخميني – قده – كانت قبل أي شيء من قداسات مزيفة وأعراف بالية في حوزة قم نفسها. وأن تقاليد ومراسم الفصل بين الحوزة والناس كانت متوفرة، وإن بنسب متفاوتة، في كل من قم والنجف وغيرهما... فالمسألة لا تعود إلى الجغرافيا. إن المسألة ترجع فيما ترجع إلى أمرين اثنين:
الأول: الذاكرة المتخمة بالابتلاءات، وإقصاء الظلمة الذي حوَّل جماعة إيمانية بأكملها إلى هامش في مسير الحياة، بحيث صار التشرنق على الذات وسيلة تحصن لفظ الذات والهوية أحياناً.
الثاني: سيادة ثقافة سلبية تجاه قيم تأسيسية في بناء رؤية الجماعة الإيمانية لمسألتي التقوى والزهد، بحيث إن وسيلة نيل التقوى والزهد صارت بالابتعاد عن الدنيا والناس.
فلمّا حضرت المرجعية الدينية برؤيتها الدينية التجديدية، كان الحدث الذي راح يؤسِّس لنحو جديد من السلوك العلمائي في التعاطي مع الشأن العام وفي النظرة للناس. ويكفينا أن نذكر بهذا الشأن، شهادة المرجع والمفكّر الإسلامي الاستثنائي السيد محمد باقر الصدر (قده)، وقيادة المرجع الولي والفقيه الأوحدي الإمام الخميني (قده). فإذا كانت إيران وقم تمثّلان التأسيس لتماهي الحوزة العلمية مع قضايا الناس، وإذا كان لبنان استمراراً لهذا الحراك، فإن التحول أو مشاهد التحول في العراق والنجف سيمثّل اكتمالات التجديد الديني المسلكي والرؤيوي في الدور العملي لوظيفة علماء الدين والحوزات العلمية. وهنا يصبح للفتوى صياغتها التجديدية وأثرها التجديدي الفاعل في الحياة اليومية وبناءات الحراك المجتمعي والجهادي – التحرّري، والسياسي – التنموي في حياة الأمّة.
فلو أردنا القول هنيئاً للعراق بتحرير الموصل، فإن من الأولى القول قبلاً هنيئاً للعراق فهمه الجديد للمرجعية والحوزة وعلماء الدين. هنيئاً للعراق بعمّته المجاهدة المقاتلة.

* رئيس معهد المعارف الحكميّة
للدراسات الدينيّة والفلسفيّة