ثمة قنابل وقذائف وغارات سعودية لا يُسمع لها ضجيج في أروقة الإعلام الأميركي وبيوت التفكير Think Tanks ومراكز الأبحاث والدراسات التي تعمل تحت مظلة تثقيف المجتمع المدني وتنويره بشكل عام، وتقديم النصيحة لصناع القرار بشكل خاص.
لطالما تمّ تصنيف هذا الصمم الانتقائي على أنه سوء لاستخدام القوة الأميركية التي تهيمن على الخطاب السياسي بعدما نصبت نفسها حارسة الديموقراطية وحقوق الإنسان حول العالم. من يملك القوة يملك الخطاب، ومن يملك الخطاب تدور معه الديموقراطية وحقوق الإنسان كيفما دار.
الواقع أن ما نؤوّله صمماً انتقائياً هو من الوظائف الطبيعية للأذن الأميركية. فالفكر الأميركي عندما أنجز فلسفته «البراغماتية» أعاد تعريف الحقيقة على أنها الفكرة التي تملك أثراً عملياً نافعاً. ففي كتابه «البراغماتية»، يرى وليام جيمس أنّ الحقيقة والواقعية هي شيء يخلقه الإنسان لإيجاد توافق ناجع بينه وبين العالم. وصِدقُ الفكرةِ وصِحّتُها، هو النفع الذي يتحقق من خلال التجربة العملية. وعليه، فإنّ «البراغماتية تصرف النظر عن الأشياء الأولى والمبادئ، والمقولات، والضرورات المفترضة وتتجه إلى الأشياء الأخيرة، والآثار والنتائج والوقائع». على هذا الأساس، يتمّ بناء كل ما يتعلق بالحقيقة في السياسة الأميركية. إنها ليست أمراً آخر سوى النافع والمفيد. فنكتشف عندها مثلاً، أنّ مسألة إبادة الشعوب الأخرى ليس انحرافاً عن الحضارة الأميركية، بل هو في صميمها (الهنود الحمر، القنبلة الذرية، فييتنام، الشعب الفلسطيني والشعب اليمني).
إلى ذلك، ماذا يعني الإجماع في واشنطن لمصلحة الوهابيين المستبدين المخالفين للقيم الأميركية؟ ماذا يعني التزام الخبراء العلميين بالدفاع عنهم؟ وكيف نؤوّل معارضةً خجولة من قبل هؤلاء بخصوص الحرب على اليمن، في حين استمرّ الغضب أياماً على خلفية انتقاد أوباما لسلوك المملكة السعودية مع النساء ودعمها الحركات الأصولية، ودعوته لها لأن تتعلم تشارُك الشرق الأوسط من إيران.
تعليقات أوباما المكتومة تمّت إدانتها من قِبل «العلميين» بتعابير مثل: «يلعب لعبة تحميل المسؤولية»، «خيانة فهم مفجع لما تعنيه أن تكون في الموقع رقم واحد»، «علامة على أنه هاوٍ مهمل وأحمق»، «وضع الحلفاء جانباً»، «تعجرف مغرور»، «يلوم الآخرين لفشله»، «يمكن مقارنته بدونالد ترامب»...
تحت عنوان «كيف أسرت العربية السعودية واشنطن» أعدّ محرر الشؤون الخارجية لموقع فوكس VOX ماكس فيشر تقريراً طويلاً (2016) أورد فيه آراء مجموعة من الموظفين الحكوميين في السياسة الخارجية وبعض الخبراء والباحثين. اللافت في هذا التقرير أن الجميع تحدثوا كمصدر مجهول. ثمة إجماع على أنّ «العربية السعودية ودولاً عربية غنية بالنفط اشترت الإخلاص والتأثير».
قد يبدو هذا جواباً منطقياً يفسّر التزام هؤلاء بالدفاع عما يبدو لنا نقيضاً لجوهر قناعاتهم، ويفسَّر على أنه انحراف وأنانية وسوء تصرّف أن يبيع الباحث رأيه العلمي. غير أن بعض الموظفين الحكوميين يرون أن المال الذي يُصرف لهم «يقوي معايير وعادات هي في الأصل موجودة سابقاً ويُحبّذ إجماعاً لدور السعودية». إذاً، المال يلعب دوراً معمِّقاً للتحيّز الذي سينشأ حتى في غياب ذلك المال؛ كل ما في الأمر أن ثمة رقابة ذاتية ستنشأ لدى الكاتب، وسيفكّر مرتين قبل أن يناقش موضوعاً عن الديموقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة الخليجية لا يشغل باله أصلاً؛ «فالإساءات موجودة في كل مكان، وهناك ملايين الأشياء الأخرى التي يمكنني أن أكتب عنها، لماذا أخسر بعض المال!». يقول مفكّر مموَّل من قبل الخليج.
التحيز، يُطلق عليه في الأوساط العلمية اسم التحيُّز البحثي أو التحيُّز المختبري، وهو العملية التي يؤثر بها القائم بالبحث على النتائج من أجل الحصول على نتيجة مُعينة. يؤكد الدكتور عبد الوهاب المسيري في موسوعته «اليهود واليهودية والصهيونية»، أن التحيّز سببه المنطلق المفاهيمي أو النموذج المعرفي الذي يتم الانطلاق منه وعلى أساسه توضع الأمور في سياقها. الواقع أن التحالف الأميركي السعودي هو حاجة استراتيجية للأميركيين في الشرق الأوسط، وبالتالي فإن أميركا هي المحتاجة إلى الحفاظ على الوكلاء المطيعين في المنطقة. ثمة تحيّز «براغماتي» راسخ لمصلحة السعوديين كشريك دائم لأميركا، لا تحتاج معه الدول الخليجية إلى الهبات «لتطوير التحليل الاستراتيجي» لمصلحتهم.
من هنا، يتضح أن الاستثمار الأميركي لدول الخليج لا يقتصر على الهيمنة وأسواق النفط والسلاح، ثمة استثمار للغباء الخليجي أيضاً، تستفيد منه بيوت التفكير السيئة السمعة هذه. فالمجامع الفكرية في واشنطن «قطاع يحتله العرب» على حد تعبير المصادر المجهولة في التقرير، في إشارة ضمنية إلى أنّه ساحة مزايدات بين دول الخليج؛ بدأ عام 2013 مع القطريين بمبلغ 8.14 ملايين دولار، وتبعته استثمارات إماراتية وسعودية كحركة مزايدة عام 2014، في الوقت الذي كانت فيه الأزمة المالية محسوسة في المجامع الفكرية، كما في الجامعات بسبب الأزمة التي بدأت عام 2008.
ومع أنّ التقرير يرى أنّ بإمكان المال الخليجي أن يشتري سلوكيات أي مجمع فكري ويؤثر بها على السياسة الخارجية، فإنه أيضاً يمكن لأي دبلوماسية خارجية، مهما كانت خبرتها متواضعة ومداركها متخلّفة، أن تدرك حجم الاستفادة الأميركية من العربية السعودية. والتي جعلت التحيّز البحثي نصب أعين «العلميين» البراغماتيين دونما حاجة إلى الإقناع، إلا أن البراغماتية نفسها تقول: الحق والصحيح أن أبتزّ المغفلين، فكيف إذا جاءني المغفل لينفق ماله طواعية على ابتزازي له.
قد يبدو ترامب أحمق بسبب التعليقات الصريحة والمباشرة، والحق أن خلف «حُمْقه» هذا سياسةٌ اعتمدها كل أسلافه ولكن بالمواربة. فـ«أتعاب الدفاع» التي عبّر عنها لم يكن من سبقه زاهداً فيها، وقد كانت تُدفع طواعية، إلا أن ترامب «التاجر» رأى أن باستطاعته أن يربح المزيد، فالسعودية لم تُظهر يوماً أي سلوكٍ يشي بعدم استعدادها لدفع المزيد.
يُتوقع في القمة المرتقبة لدى زيارة ترامب للسعودية، أن يحصّل ترامب «أتعاب الدفاع» عن المملكة على شكل 40 مليار دولار من الاستثمار في البنية التحتية في الولايات المتحدة، وعلى الأغلب 100 إلى 300 مليار دولار من مشتريات الأسلحة. وحبة مسك بأن يتسلّم ترامب زعامة الإسلام بشكل مباشر. أما بخصوص إعلان تطبيع العلاقات مع اسرائيل، فسيَسْفَحُها آل سعود على شرف الضيف الكبير، وسيخطو ترامب من فوقها إكراماً للعادات والتقاليد الوهابية.
* صحافية لبنانية