شكلت الثورة الإيرانية 1979 حركة عفوية لجماهير المدن أكثر منها انتفاضة مخططة يقودها حزب سياسي منظم. فقد ابتدأت في أواخر عام 1977 باحتجاج عدد من أعضاء الإنتلجنسيا الإيرانية – خاصة المحامين والقضاة والكتاب وأساتذة الجامعات والناشرين والصحافيين والطلبة الجامعيين – ضد فقدان الحرية السياسية وانتهاك حقوق الأفراد (الإنسان). وطالب هؤلاء الشاه باحترام قوانين دستور عام 1905 - 1909.
تصاعدت الأحداث بشكل درامي في أوائل 1978، عندما نزل رجال الدين الشيعة والبورجوازية التجارية الصغيرة – خاصة أصحاب الحوانيت وصغار التجار، والحرفيين التقليديين (وهو ما شكل طبقة البازار الإيرانية والتي سوف تلعب أدواراً قيادية في الثورة)- إلى الشارع، ونظموا إضرابات شاملة في البازار مطالبين بإلغاء تحكّم الحكومة بالأسعار، وسيطرتها على النقابات والمعاهد الدينية. كما طالبوا بالعودة الفورية إلى آية الله الخميني، أحد رجال الدين البارزين المنفي منذ 1963 بسبب إدانته لنظام الشاه.
لقد عملت تحديثات الشاه الأنانية والاحتكارية على تهميش طبقة البازار السالفة الذكر، وهي الطبقة المكونة من فئات متنوعة ومتفاوتة، إلا أن ما أعطاها ذلك التماسك الاجتماعي والسياسي هو رجال الدين الشيعة الذين عملوا كمثقفين عضويين لها، وهذا ما عبّر عنه آية الله الخميني أفضل تعبير، خاصة التعبير الإيديولوجي والسياسي عن الفئات المتوسطة والصغيرة منها.
تصاعدت الثورة في أواخر 1978 عندما أضرب الموظفون الحكوميون، وموظفو البنوك، والمدرسون، وموظفو الجمارك، بالإضافة إلى قطاعات هامة جداً من البروليتاريا الصناعية، خاصة عمال النفط والغزل والنسيج والبناء، فأوقفوا بذلك حركة الاقتصاد كلية. وقد احتج هؤلاء المضربون ليس على التضخم اللولبي والبطالة المتصاعدة والإلغاء الأخير للإعانات السنوية فحسب، بل وعلى رفض النظام السماح بعودة الخميني. كما رفضوا قانون الأحكام العرفية، وطالبوا بتطبيق القوانين الدستورية والسماح للمستخدمين والأجراء بالمشاركة في تشغيل المصانع والمكاتب الحكومية، ومعاقبة المسؤولين عن المجازر الوحشية التي اقترفت بحق المتظاهرين المسالمين خلال الأشهر السابقة. ومع الوقت انهار نظام الشاه في شهر شباط 1979
بالرغم من أن القوى الاجتماعية لا القوى السياسية هي التي صنعت الثورة الإيرانية، إلا أن الأشهر الثلاثة التي أعقبت سقوط الشاه قد شهدت الظهور السريع للعديد من التنظيمات السياسية.

لقد فعل التحوّل الطبقي «للبازار» فعله خلال ثلاثين عاماً من الحكم

لم تعد الانقسامات في إيران مجرد مواجهة بين الشاه والشعب، بل أصبحت ساحة معقدة مؤلفة من الكثير من القوى السياسية المنفصلة والمتنافسة غالباً، لكل منها أيديولوجيته وقاعدته الاجتماعية ورؤيته الخاصة للمستقبل. وقد تجمعت هذه القوى السياسية في مراكز قوة ثلاثة هي: 1) الوزارة التي تقود بيروقراطية الدولة، 2) اللجان التي تسيطر على الميليشيا الدينية، 3) مجالس العمال التي أنشئت في المصانع والمكاتب الحكومية قبل سنة من انهيار نظام الشاه.
لقد تمت تصفية مركز القوة الثالث عقب تسلّم الخميني السلطة عبر حلّ اللجان العمالية وعبر التصفية السياسية للقوى اليسارية وخاصة حزب تودة الشيوعي والذي تمت محاكمة أعضائه على شاشات التلفزيون، ومجاهدي خلق وفدائيي خلق (فدائيي الشعب).
وبقي الصراع الكامن بين مركزي القوة الباقيين، وقد جمعت الفريقين الحرب العراقية ــ الإيرانية التي امتدت عشر سنوات حتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وهي الفترة التي ترأّس فيها مير حسين موسوي رئاسة الوزراء (في أكتوبر/ تشرين الأول 1981 أصبح موسوي رئيساً للوزراء ليظل في هذا المنصب حتى إلغائه إثر تحوير دستوري عام 1988، ليكون بذلك رئيس وزراء إيران طيلة فترة الحرب العراقية الإيرانية».
مع انتهاء الحرب وتفرّغ النظام الإيراني لقضايا التحديث الصناعي والذي تقوده طبقة البازار عبر مثقفيها رجال الدين الشيعة وعبر ما يسمى نظام «ولاية الفقيه» ممثلاً بالمرشد الأعلى للثورة، وعبر نظام حكم غنيّ بالمؤسسات والتي منها: «مجلس الشورى (البرلمان )»، «مجلس صيانة الدستور»، «مجلس خبراء القيادة» الذي ينظر كل عام في كفاءة المرشد الأعلى ويتابع نشاطاته وانتخاب مرشد في حالة الغياب، و«مجمع تشخيص مصلحة النظام» وهو هيئة استشارية للمرشد.
لقد عملت السنوات الثلاثون فعلها في الطبقة الجديدة الحاكمة حيث استفاد البعض من أركان النظام من العقود النفطية ومن عقود تطوير الصناعة وشراء امتيازات التجميع الصناعي بحيث بدأت تتشكل فئة جديدة صاحبة امتيازات طبقية واجتماعية ضمن بيروقراطية الدولة يمثلها بشكل عام الإصلاحيون وبشكل شخصي الشيخ الراحل هاشمي رفسنجاني: يسمى في إيران «الرجل القوي» و«القائد الظل». لم ينتخبه الإيرانيون عام 2005 عندما كان منافساً للرئيس أحمدي نجاد، لكنه انتخب في رئاسة «مجلس خبراء القيادة». شغل كل المناصب السيادية الإيرانية: ثماني سنوات في رئاسة مجلس الشورى «البرلمان» وثماني أخرى في رئاسة الجمهورية، وفي نهاية حياته كان في رئاسة أعلى هيئة استشارية للمرشد؛ «مجمع تشخيص مصلحة النظام» حيث ينظر في الخلافات الحاصلة بين «مجلس الشورى» و«مجلس صيانة الدستور» في شأن القوانين الصادرة من مجلس الشورى، إضافة إلى مهمته في وضع استراتيجية البلد للسنوات الخمس المقبلة في المجالات المختلفة.
اتهم رفسنجاني بأنه هو الذي دفع موسوي وكروبي ورضائي إلى الترشح للانتخابات من أجل إسقاط أحمدي نجاد. تصاعدت هذه التهم عندما اعتقلت ابنته فائزة ومعها أربع نساء من عائلة رفسنجاني شاركن في تظاهرة احتجاجية موالية لموسوي بعد إعلان نتائج الانتخابات. وهو متهم من قبل خصومه بأن لديه طموحاً للاستيلاء على الحكم بعد تربعه على أموال الإيرانيين من خلال عائلته التي امتلكت القدرة والثروة في إيران. صارت مصطلحات «النفاق»، و«الوصولية»، و«الاستغلال»، و«حب الجاه والسلطان» تطلق على رفسنجاني من دون خوف.
لقد فعل التحوّل الطبقي «للبازار» فعله خلال ثلاثين عاماً من الحكم والتحديث القومي حيث أفرز طبقة ثرية ونافذة في أجهزة الدولة ومؤسسات الحكم المختلفة، وجاء الضغط الإمبريالي الأميركي الخارجي ليعمق الانقسام ويعطي آمالاً كبيرة للتيار «الإصلاحي» كي يعيد توجيه النظام نحو «مصالحة» مع الغرب الإمبريالي ونحو تقليص الدور الإقليمي لإيران، مترافقاً مع «تفكيك» البرنامج النووي. إنّ التيار «الإصلاحي» الإيراني يخطط للقيام بـ«ثورة برتقالية» تقود إيران إلى تسوية مع الغرب وتعايش مع إسرائيل وانكفاء في الأدوار الإقليمية وتراجعاً في التحديث الصناعي والعسكري ولبرلة أكثر للنظام. وهذا ما جمع العديد من معارضي النظام الإيراني حول تيار موسوي.
لقد حاول الكثير من المحللين والكتاب تفسير التطورات الإيرانية الأخيرة بالاستناد إلى الأيديولوجية تارة وإلى الدين تارة أخرى، وقد نسي هؤلاء قول ماركس من أنه ليس للدين تاريخ وليس للأيديولوجيا تاريخ، فالتاريخ تصنعه الطبقات المتصارعة، وعلينا أن نفسّر «ولاية الفقيه» بالصراع الاجتماعي والطبقي الإيراني وليس العكس.
ولكن السخرية والطرافة لأولئك الذين يمجدون «ولاية العاهل الجاهل»، وينتقدون بلؤم جاهل «ولاية الفقيه». وليس هناك من سبب سوى أن الجاهل حليف مخلص من حلفاء الإمبريالية الأميركية، والفقيه «العالم» حليف المقاومة العربية في فلسطين ولبنان، وفي خصومة مع إسرائيل والإمبريالية الأميركية!
* كاتب سوري