ثلاثة من القيادات التحررية العربية، يجبرونك على الاستماع إليهم، لأنهم مُحرّضون جماهيريون من طراز رفيع. جذّابون مضموناً فيما يقولونه في خطاباتهم، وشكل تناولها، وصولاً إلى طلعة كل منهم، وهي بهيّةٌ حتماً. يستقطبونك بسحرهم الكاريزمي. في أيام المرحوم عبدالناصر، لم يفتني، كما عشرات الملايين من أمتنا، خطاباً واحداً. الدكتور جورج حبش، قائد عظيم، يأسرك ببساطته، وبتحويله لأعقد النظريات إلى كلمات بسيطة في استعراضه للموقف السياسي، الذي يتناوله. حسن نصرالله ثالثهم، وقد استمعت لتوّي إلى خطابه الرزين، المعبّر في يوم القدس. في الحديث عن التحديات، يظلُّ مبتسماً بلا تكلّف أو اصطناع. الأهم، أن القاسم المشترك بينهم، هو قراءتهم العميقة لطبيعة العدو الصهيوني، جوهر مشروعه، متغيراته، تطورات مكامن قوته، ونقاط ضعفه وثغراته. نعم، لطالما ادّعيت وما أزال، أن الكثيرين من القيادات العربية، والمثقفين العرب، لا يدركون حقيقة العدو الصهيوني، وإلا لما توهموا إمكانية قيام السلام معه. نعم، لا حل إلا باجتثاث هذا النبت الشيطاني من جذوره، ووضع السماد الحارق مكان هذه الجذور، حتى لا يبقى شيء في الأرض منها.نقول حول حزب الله: إنه لو لم يكن موجوداً ، لكان على الأمة العربية برمتها، ولبنان تحديداً، إنشاء هذا الحزب، الذي لا يزال يتعرض لحملة شرسة واتهامات تحريضية تجعل منه حزباً "شيطانياً" ليس إلاّ! الفارق كبير بين نقد موضوعي يوجّه إلى الحزب حول بعض مواقفه السياسية، وبطريقة بعيدة عن الإساءة والتجريح، وبين السباب والشتيمة، واتهامه بـ"التنسيق مع أعداء الأمة العربية"، وكأنه "محتل للعديد من عواصمها"، وكأنه يقف حجر عثرة في تقرير تحرير فلسطين، أو "يمارس بلطجةً على الآخرين!". ما يجري هو شتم من أجل الشتم، وبعيد كل البعد عن الحقيقة والموضوعية، ويتم بطريقة تنم عن الحقد أكثر منها انتقاداً لموقف.
ومستفيداً من أخطاء حركة المقاومة الفلسطينية، انطلق الحزب متبنياً مقاومة العدو الصهيوني، والرد على اعتداءاته، ومساعدة المقاومة الفلسطينية، وتبني استراتيجية تصب في مجرى تحرير فلسطين، دون ظهور مقاتل واحد له أو موقع في كل الجنوب اللبناني. نقول: إن حزب الله هو إضافة نوعية استراتيجية لمشروع المقاومة العربية الحديث، للأسباب التالية :
-أولاً، كسره لمبدأ صهيوني استراتيجي قديم «في نقل المعركة إلى أرض العدو".
-ثانياً، وصوله إلى حالة توازن في الردع مع العدو الصهيوني، والذي لولا خشيته من صواريخ المقاومة، لقام بحرث لبنان من شماله إلى جنوبه، ولجعل منه مزرعة، ولاستمر الجيب الانعزالي، في جنوب لبنان، والتي خططت إسرائيل لإقامته بُعيد إنشائها، في استراتيجيتها الدفاعية عما تسميه حدودها. إنها المرة الأولى التي تصل فيها حركة مقاومة عربية إلى مرحلة توازن الردع (أو الرعب) مع الكيان الصهيوني.
-ثالثاً، تحديد استراتيجية واضحة في رؤية المشروع الصهيوني، في فلسطين والمنطقة، باعتبار أن لا سلام مع الكيان، وأن الحل الاستراتيجي يتمثل في تدمير مشروعه الصهيوني، واجتثاثه من عموم الأرض العربية. وبذلك خرج الحزب من نطاقه اللبناني، إلى إطاره العربي الواسع، وبذلك فإن هوية المقاومة الوطنية اللبنانية هي لبنانية الوجه عربية المضمون إنسانية المحتوى.
استطاع حزب الله إعادة موقف الإسلام من الأعداء

لقد حدد الحزب، أيضاً، استراتيجيته الواضحة بالنسبة لأهمية إفشال المشاريع الأميركية - الإسرائيلية - الغربية، وأهمية التصدي لها مع كل الأحزاب القومية والوطنية العربية، والوطنية الإسلامية. لم يتراجع الحزب عن أيٍّ من مبادئه الاستراتيجية، بل مع مرور الزمن يعزز هذه المبادئ، بالمزيد من الحقائق واسعة الأفق، التي تُقيّم المشروع الصهيوني، ليس باعتباره خطراً على الفلسطينيين فحسب، وإنما على الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، وعلى الإنسانية جمعاء.
-رابعاً، استطاعته، وبوضوح شديد، المزاوجة بين توجهه الديني (باعتباره حزباً إسلامياً، ليس لطائفة أو مذهب إسلامي دون آخر، وإنما لاعتبارات جغرفية- ديموغرافية بحتة، استقطب الإخوة الشيعة، فأصبحت غالبية أعضائه منهم)، وبين العروبة. فهو يصرّ على إيضاح وجهه الثاني، والتأكيد عليه في كل مناسبة، الأمر الذي يشكل نواة جاذبة لكل القوى الوطنية، والقومية العربية، والوطنية الإسلامية، في نضال جَمعْي مشترك، لإفشال المشروع الصهيوني في المنطقة، والتصدي لكافة المشاريع الأخرى أميركية، كانت أو غربية.
-خامساً، استطاع الحزب أن يعيد إلى الأذهان حقيقة موقف الدين الإسلامي من الأعداء، قتالهم والاستعداد لهم "وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل"، وليس الدين الذي يحوّره البعض، بقصد استغلاله، لأهداف سياسية كما يشاء، كما سوّغ العديد من الفقهاء للرئيس المصري، أنور للسادات، عقده للصلح مع الكيان الصهيوني، في اتفاقية العار في كمب ديفيد. بهذا شكّل الحزب خطاً دينياً، وطنياً، قومياً يجمع بين اتجاهات دينية عديدة، متواجده في هذه المرحلة: الأصولية المتطرفة كـ"داعش" وغيرها، إذ دخل في الحرب ضدهم دفاعاً عن الأمة العربية، في وقتٍ يمتلك الجهوزية الكاملة لمجابهة العدو الصهيوني. كذلك، في الرد على الاتجاهات الدينية، التي ترى تحرير العالم العربي، وإقامة الخلافة الإسلامية، قبل قتال اسرائيل. فالاتجاه الديني المتصالح مع الوجود الإسرائيلي، والقابل له، لا يعتبر قضية فلسطين بنداً مركزياً استراتيجياً في منطلقاته الأيديولوجية.
-سادساً، زاوج الحزب بين الاعتقاد النظري، والتجربة العملية. فلم يبق قتال العدو الصهيوني: قضية نظرية، فكم وقف الحزب في سنوات عمره القليلة، وخاض معارك قتالية ضد القوات الإسرائيلية الغازية. كما يعلن استعداده الكامل للمزيد من قتال الإسرائيليين، إذا ما قاموا بالاعتداء على لبنان.
-سابعاً، ساهم الحزب، وبفاعلية كبيرة، وما زال، في مساندة الفصائل المقاتلة الفلسطينية، بكل أشكال الدعم.
-ثامناً، مارس الحزب الصدق التام في أدبياته، فلم يسبق له وأن أطعم نفسه بطولات لم يمارسها، ولم يخلف ما كان يوعد به.
بالنسبة للموقف من الصراع في سوريا، موقف الحزب، وما يزال، دفاعاً عن حليفه الاستراتيجي في مثلث الممانعة والمقاومة، بعد ان اتضحت حقيقة المؤامرة الدولية، الكونية ضد سوريا. لم يدخل الحزب المعركة القائمة بين النظام والقوى التكفيرية السلفية، إلا بعد مرور سنتين من القتال، وبعد اتضاح تدخل العديد من الجنسيات، من خلال المسلحين، ضد النظام السوري. الحزب يمارس قناعاته على هذا الصعيد، وينفذها بالإعلان عنها. وبوضوح تام، لم يفعل ذلك سرّاً، أو من تحت الطاولة.
* كاتب فلسطيني