لا يمكن فهم نجاح المندوب الإسرائيلي، داني دانون، في رئاسة اللجنة القانونية في الأمم المتحدة، بعدما صوّت لصالحه في الاقتراع السرّي 109 دول، في مقابل خسارة منافسيه من السويد واليونان وإيطاليا، إلّا كترحيب عالمي بالسياسة الإسرائيلية الراهنة. السياسة المستمرة في الإجرام الميداني اليومي بحق الشعب الفلسطيني، والموغلة في التطرف السياسي الرسمي، في ضوء رفض إسرائيل تنفيذ جميع القرارات الدولية الخاصة بالشعب الفلسطيني، والصادرة منذ خمسين عاماً. كذلك، جددت رفضها في الأمس القريب للمبادرة العربية للسلام، رغم التسريبات حول تعديلها، وعيّنت أفيغدور ليبرمان وزيراً للحرب، وهو أكثر سياسيي الكيان العبري تطرفاً، حتى تجاه الدول العربية المشاركة في التسوية السياسية (دعا الى قصف السد العالي لإغراق القاهرة بمياه نهر النيل).وتشير شخصية دانون، إلى مستوى الاختراق الإسرائيلي للدبلوماسية العالمية، فالحديث هنا عن شخصية تمارس الإرهاب، وتخترق القانون الدولي صباح مساء، خاصة أن دانون هذا من كبار المحرّضين على العنف ضد الفلسطينيين، ومن أبرز المنادين باستباحة غلاة المستوطنين لساحات المسجد الأقصى. كذلك، لعب دوراً عسكرياً في الحرب الأخيرة على غزة، كنائب لوزير الحرب، حيث حاول دفع القيادة السياسية في الكيان العبري لمواصلة الحرب دون توقف، عبر اجتاح بريّ متواصل مهما كلّف ذلك من ضحايا بشرية.
نجاح الكيان العبري غير المسبوق في الأمم المتحدة، بالتزامن مع محاولات السلطة الفلسطينية نيل اعتراف العالم بدولتها المستقلة بعد تجميد إسرائيلي للمفاوضات، يشير إلى طبيعة المزاج العالمي تجاه القضية الفلسطينية، وهو مزاج لا يأبه لقضايا الشعوب وعذاباتها، والأخطر أنه يشير الى طبيعة المزاج العربي الرسمي، إذ صوتت أربع دول عربية إقليمية لصالح دانون، بعد أن دفعت ليكون التصويت سرياً، بما يكشف عن طبيعة الشوط الذي قطعته هذه الدول وعلى رأسها السعودية ومصر في التماهي مع السياسة الإسرائيلية الراهنة، بغية التصدي لأزمتها بعدما آل إليه الربيع العربي من صراعات في أهم الدول العربية.
فتح نجاح الدبلوماسية العبرية شهية الكيان على كامل البحر الأحمر

ويأتي هذا النجاح الإسرائيلي في وقت تحرص فيه تركيا على استعادة دفء علاقاتها مع الكيان العبري، وفي وقت تراعي فيه روسيا الضرورات الإسرائيلية الميدانية في محيط الصراع المشتعل في سوريا، وإن اختلفت فيه مرامي كل طرف. الحرص التركي والروسي على إسرائيل رغم تناقضات المشهد السوري، يؤكد مدى نجاح الاستراتيجية الإسرائيلية، وطبيعة استثمارها لمآلات الربيع العربي وتداعياته.
لم يحلم قادة ومفكرو الكيان العبري يوماً، أن الإمعان في التطرف السياسي سيقود لنجاحات دبلوماسية مع غالبية أطراف المعمورة. تلك النجاحات تحمل استثماراً أمنياً وقانونياً، إذ فتح نجاح الدبلوماسية العبرية مع مصر والسعودية وغيرهما، شهية الكيان على كامل البحر الأحمر، وهو ما يفسّر طبيعة السياسة الإسرائيلية تجاه تنازل مصر للسعودية عن جزيرتي صنافر وتيران، والحضور الأمني الإسرائيلي في قلب الصراع اليمني، ضمن شركات أمنية عالمية.
كذلك، كشف النجاح الإسرائيلي مع روسيا وتركيا، الساحة السورية، بما ساعدها ويساعدها في اغتيال قيادات المقاومة اللبنانية، وأسّس لعلاقات فريدة من نوعها بين الكيان العبري والتنظيمات المسلحة في محيط الجولان، بحيث لم يعد مستهجناً أن تعالج المشافي الإسرائيلية مقاتلي «جبهة النصرة»، وليس فقط مقاتلي «الجيش الحرّ»، بما يحمله عمل (إنساني) كهذا من مضامين أمنية لها أبعاد استراتيجية عميقة في الوعي العربي ــ الإسلامي.
وسيشكّل هذا النجاح الإسرائيلي رادعاً للسلطة الفلسطينية، لتتوقف عن مطاردة الوهم في الساحة الدولية، وتُعاد مكبلّة بأطر تفاوضية لا ترقى بأيّ حال إلى المبادرة العربية للسلام، ولا حتى للمبادرة الفرنسية، إنما هو تفاوض فلسطيني ــ إسرائيلي من دون أي إسناد عربي ولو شكلي، ولا تدخل أوروبي ولو عرضي. بما يعني أن سقف هذا التفاوض لن يتجاوز ما يمثله وجود شخص على شاكلة ليبرمان وزيراً للحرب، في وقت تخضع فيه الضفة الغربية لاحتلال كامل، وترزح غزة تحت حصاره وتهديداته اليومية، وقد تراجع الحليف التركي عن مطلب رفع الحصار، نزولاً عند حاجات تركيا الخاصة في علاقاتها الثنائية مع شريكها في الناتو، كما رفعت أميركا يد الحماية عن السلطة لتأخذ إسرائيل كامل حريتها في معالجة الوضع الفلسطيني، ضمن رؤية حزب الليكود المحددة في سياقات اقتصادية ــ أمنية ليس لها أفق سياسي.
ولعل رمزية النجاح وما يمكن أن يقود إليه، إضافة إلى طبيعة البيئة السياسية التي سمحت به، سيؤدي بما يحمله من تحديات إلى تجاوز مجرد إعلان الأسف أو الرفض الرسمي، فلا ممثل اليمن الذي تحدّث عن المجموعة العربية مؤهل لأدنى تأثير، وهو عاجز عن بسط سلطته في عدن، ولا ممثل دولة استهلاكية مثل الكويت الذي تحدث عن المجموعة الإسلامية قادر على التصدي لهذا الصلف الإسرائيلي، والتواطؤ العالمي. إن طبيعة التحدي الراهن يجب أن تدفع جميع القوى السياسية الفاعلة والمتضررة في المنطقة من اختراقات إسرائيلية كهذه، إلى إعادة النظر في مشاريعها السياسية، خاصة تلك القوى التي تستشعر حقيقة الخطر الإسرائيلي الذي يتجاوز الأبعاد المحلية والإقليمية، إلى ما هو عالمي. وهو اليوم ينطلق في جرائمه من على منصة دولية قانونية، فالقانون بين يديه ليحارب الإرهاب، الذي تم حصره أممياً في العرب والمسلمين، وهو ليس الإرهاب الإسلامي الأصولي بالتأكيد (إلّا ما استهدف منه العمق الأميركي ــ الأوروبي)، فهو بالنسبة للكيان العبري، إرهاب حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي، إرهاب كل دولة أو تنظيم يرفض الاعتراف بإسرائيل وشرعيتها، ويعتبر محاربتها أولوية. وكثر الحديث في الآونة عن غزة وضرورة إخضاعها، كما كثر عن لبنان. وما الحديث عن حرب قادمة لا محالة، سيكون فيها لبنان بأكمله ضاحية جنوبية، إلّا تعبير عن بعض هذا القادم، وهو خطر قادم يعلِن بكل وقاحة أنه لن يفرق بين مسلم ومسيحي، ولا بين سني وشيعي، ولا بين محارب ومسالم، وقديماً قال الصهاينة وما يزالون: العربيّ الجيّد هو العربيّ الميت لا غير.

* باحث وكاتب فلسطيني