«العمل غير المدفوع، هو الذي يمثل نصيب الرأسمالي، أو بالاصح، نصيب طبقة الرأسماليين» فريديريك انغلز
عندما تنظر إلى واقعنا العربي من خارج الحياة اليومية وضغطها، تكون الصورة أوضح. ولكن أكثر ألماً، بحيث لا يمكن أن ترى إلا مشهداً قاتماً مليئاً بالموت والتراجع. وكأن العرب يمشون عكس مسار تطور البشرية. من يعتقد أن واقعنا صعب بسبب الحروب المنتشرة، والحركات الفاشية الإرهابية، والأنظمة المتخلفة فقط، يكون مخطئاً. فالأرقام التي تُنشر عن واقعنا العربي، في كل مجالاته كارثية، ولا يمكن اعتبار كل ما يحصل اليوم، من فتن وحروب، إلا نتيجة للتراجع المدوّي على المستويات الفكرية، والثقافية، والعلمية العربية.
لقد كُتب وقيل الكثير عن «مجتمع الاستهلاك» إلا أنّنا صغنا له مفاهيم جديدة. فنحن غير مستعدين لانتاج أي شيء، بل نبتكر أساليب جديدة «لمضيعة الوقت». في المقابل، نحن نستهلك أي منتج يعرض علينا، إذا كان مصدره الغرب. فحروبنا تُعد في مراكز دراسات غربية، وتستهلك في بلادنا بأفضل الطرق الممكنة، كما أننا لا نأخذ من الإبتكارات العلمية، إلا ما هو استهلاكي، دون النظر في ماهيتها. وكيف يمكننا الاستفادة من باقي جوانبها أو تطويرها.
واحد من هذه الابتكارات هو مواقع التواصل الاجتماعي. تقدم لنا الرأسمالية كل شيء على أنه سلعة. وفي مقدمة ذلك العلم، وما ينتج عنه. فبدل أن يكون الإنتاج العلمي في خدمة تسهيل حياة البشر، يصبح في خدمة مراكمة ثروات الرأسماليين.

مواقع التواصل كمنتج

في العالم العديد من مواقع التواصل الاجتماعي، أهمّها، انتشاراً، موقع «فيسبوك»، حيث وصل عدد المشتركين فيه، في الربع الأول من عام 2016 إلى 1.65 مليار مشترك. إلا أن «فيسبوك» ليس الأفضل من حيث المضمون. على سبيل المثال، ينتشر في الصين نوعان من مواقع التواصل بشكل أساسي («ويتشات» و«كيوكيو»)، حيث يمكنك عبر هذين الموقعين القيام بالعديد من الأمور غير الكلام. أما في بلادنا فتشير الدراسات إلى أن 91.28% من الناشطين على مواقع التواصل يستخدمون «فيسبوك» (لا بدّ من الإشارة إلى أن شركة «فيسبوك» تملك أيضاً «واتساب»، إلا أننا لن نشمل مستخدمي «واتساب» في كل الأرقام الواردة في المقال). وبحسب إحصائيات أجريت عام 2015، فإن عدد مستخدمي «فيسبوك»، في مصر وصل إلى 13 مليون مشترك، وفي السعودية حوالى 6 ملايين مشترك، وفي لبنان 1.6 مليون مشترك. إلا أن هذه النسب ارتفعت، وخاصّةً بعد الانتشار الواسع للهواتف الذكية، حيث أصبح لدى «فيسبوك» الآن أكثر من 1.51 مليار مستخدم نشط من خلال هواتفهم الذكية، شهرياً.

كيف جمع «فيسبوك» هذه الثروة؟
حقق فيسبوك
خلال الربع الأول من هذا العام عائدات بلغت 5.4 مليارات دولار

بحسب الأرقام التي أعلنتها شركة «فيسبوك»، في الربع الأول من الجاري، فإن إجمالي أصول الشركة بلغت 52.075 مليار دولار. كما تشير هذه التقارير إلى أن أرباح الشركة ارتفعت بشكل فاق كل التوقعات. فحققت قفزة في أرباحها بلغت 195%، خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الجاري. وقد بلغت أرباح الشركة 1.5 مليار دولار، في هذه الفترة من السنة، ويُتوقع أن تستمر هذه الأرباح بالازدياد.
هذه الثروة الضخمة تأتي بالدرجة الأولى من الإعلانات التي تظهر على يمين الشاشة، ومن خلال استخدامنا للموقع. فـ95% من مداخيل الشركة تأتي عبر هذه الإعلانات، إلا أن هذه النسبة تقلّصت لتبلغ أواخر عام 2015 إلى 85%. ومن المعروف أن هذه الإعلانات ومردودها المالي مرتبطان بشكل أساسي بعدد المشتركين الناشطين في الموقع (يتم اختيار المشتركين الذين يريد «فيسبوك» أن يشاهدوا الإعلان عبر عملية حسابية برمجية، تأخذ بالاعتبار كل المعطيات عن المشترك، وتقيس مدى اهتمامه بالموضوع المنوي ترويجه. وهذه العملية توفر أموالاً على الشركة، حيث يصل الإعلان إلى المهتمين بهذا الموضوع، وليس عشوائياً)، فعندما تزيد نسبة المشتركين يرتفع سعر الإعلان عبر الموقع والعكس صحيح. بمعنى آخر، فإنه يكفي أن يدخل المشترك إلى الموقع حتى يبدأ «فيسبوك» بجني الأموال. وقد أشار التقرير الصادر عن «فيسبوك» الى أنّ عدد الناشطين يومياً على الموقع بلغ 1.09 مليار مشترك، ينفقون أكثر من 50 دقيقة يومياً خلال تصفحهم للموقع. ومن خلال عملية حسابية بسيطة، يظهر أن «فيسبوك» يجني من كل شخص يستخدم الموقع لمدة 50 دقيقة يومياً ما يقارب الـ 0.055$.
وتعد تقنية بث الفيديو، التي ادخلتها الشركة حديثاً إلى الموقع، واحدا من الأسباب الأساسية التي أدّت إلى ارتفاع نسبة المشتركين في الموقع، وبالتالي نسبة الأرباح. وتشير الأرقام الصادرة عن «فيسبوك» إلى أن هذه التقنية حقّقت خلال شهر نيسان 4 مليارات مشاهدة يومياً، وتصل هذه النسبة في الشهر الجاري (أيار 2016) إلى 8 مليارات مشاهدة يومياً.

ماذا عن استخدامه في العالم العربي؟

حقق فيسبوك خلال الربع الأول من هذا العام عائدات بلغت 5.4 مليارات دولار. أي 60 مليون دولار في اليوم (ما يعادل 2.5 مليون دولار بالساعة الواحدة). وتشير دراسة إلى أن 96.4% من المواطنين العرب، الذين يستخدمون الإنترنت، يقضون أكثر من ساعة يومياً، والنسبة الأكبر منهم يستخدمون النت بمعدل ثلاث ساعات ونصف ساعة يومياً (52%). ويصل عدد الساعات على الإنترنت يومياً عند 26% إلى أكثر من 8 ساعات. وإذا اعتمدنا نسبة الثلاث ساعات ونصف ساعة، يومياً، على النت، فإنه كحد أدنى يستثمر المستخدم العربي ساعتين من هذا الوقت في مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة «فيسبوك». فيصل عدد الساعات، التي يقضيها المواطن السعودي مستخدماً مواقع التواصل عام 2014 إلى ساعتين و48 دقيقة، كمعدّل وسطي. وهذه النسبة ارتفعت لتصل، كحد أدنى، إلى ثلاث ساعات. وبالنسبة في لبنان تصل إلى ساعتين يومياً (النسبة عالمياً هي أكثر من 50 دقيقة يومياً).

منّا الوقت وله المال

إن فكرة رأس المال تعتمد على أنه لا بد من طرف يبيع قوة عمله لطرف آخر، يملك بدوره وسائل الإنتاج، وفائض القيمة من هذه العملية يولد رأس المال، أي الربح. وبهذه العملية يكمن استغلال الإنسان للإنسان وتحقق الثروات الطائلة.
وواحد من أهم النضالات، التي خاضها المستغَلون عبر تاريخ الرأسمالية، هي خفض عدد ساعات العمل، حيث أن السر المكمّل لعملية الاستغلال يكمن في عدد ساعات العمل ومدى تناسبها والقيمة المادية (الأجر) التي يتقاضاها من يبيع قوة عمله مقابل ساعات العمل هذه. وينقسم يوم العمل إلى قسمين. الأول هو العمل الضروري الذي يعوّض خلاله العامل الأجرة التي يقدمها الرأسمالي له. والقسم المتبقي من يوم العمل هو العمل الزائد، أي العمل الذي لا يتقاضى العامل مقابله أجر، وخلاله يحصل الرأسمالي على القيمة الزائدة، أي الأرباح. وكلّما ازداد وقت العمل الزائد، ازدادت أرباح الرأسمالي.
ومع مواقع التواصل نحن أمام معادلة جديدة _ قديمة. فنحن نهدي شركة «فيسبوك» ساعات «عمل» تحقق عبرها مليارات الدولارات. أي «عمل زائد» دون «عمل ضروري»، مقابل لا شيء ملموس نحصل عليه. فالأرقام تشير إلى أن 78% من مستخدمي «فيسبوك» يقومون بعملية التواصل فقط... أي بمعنى آخر «طق حنك».
لذا فإن ما يقارب المليون لبناني يومياً يعملون بالسخرة لدى «فيسبوك». هم من حيث يدرون أو لا يدرون يعملون بدوام جزئي لدى هذه الشركة، يصل في بعض الأحيان إلى ثلاث ساعات يومياً. فإذا اعتمدنا على النتيجة التي توصلنا لها سابقاً، بأن كل شخص يتصفح الموقع لمدة خمسين دقيقة يومياً، فإنه ينتج لـ«فيسبوك» مبلغ 0.055$. وهذا يعني أن اللبنانيون ينتجون لـ«فيسبوك»، يومياً، ما بين 55 و165 ألف دولار. والمقابل هو «وَهم» التواصل الاجتماعي وتحقيق الذات. أما فعلياً، فإنّ الشركة خلال 10 سنوات تحولت إلى إمبراطورية مالية.

اليوم 24 ساعة!

بالنسبة لنا كمواطنين عرب عامة ولبنانيين خاصة، فإن الوقت لم يعد له أهمية. كمية الوقت الضائع الذي نمضيه أفقدتنا الطموح على الاستثمار فيه. كل شيء في بلادنا يسلب منك الوقت، وفي كثير من الأحيان يسلب منك كل الوقت، عمرك. فكم عدد الذين سلبت منهم حياتهم بسبب الحروب، وكم عدد الساعات التي نمضيها يومياً في زحمة السير، وبسبب رداءة البنى التحتية بشكل عام. وكم من الوقت الذي نتوجه به الى النوم، قبل وقته، بسبب انقطاع الكهرباء؟ إنها أنظمة الوقت الضائع. ففي بلدان العالم الأخرى، تلاحظ معارك يومية، تخوضها الدول والشعوب مع الوقت، فتجد مثلاً قطاراً يسير بسرعة 400 كلم في الساعة. وتجد مواقع الكترونية تسهل حياتك اليومية بشكل خيالي.
في بلادنا لا أهمية للوقت. فلمَ لا نعطي «فيسبوك» ساعتين يومياً؟ تقول «الأرقام» إن المواطن العربي لا يقرأ أكثر من 6 دقائق في السنة، أي 0.01 دقيقة باليوم. بينما نمضي على فيسبوك 730 ساعة بالسنة كمعدل وسطي، أي 43800 دقيقة في السنة، 120 دقيقة في اليوم، هل هناك مجال للمقارنة؟ وهل تبقى ضرورة للبحث في أسباب تراجعنا أمام باقي الأمم؟ وهل تبقى ضرورة للبحث في أسباب نشوب حروب وقودها الأساسي أفكار تنتمي إلى عصور الظلام؟ نحن لا نقرأ ولا نبحث ولا ننتج. نحن نستهلك. ومن يعِش على الاستهلاك يكُن مصيره التبعية. والتبعية في قاموس المجتمعات تعني الموت...
الخيار اليوم إما الاستمرار في هذه التبعية، وما يترتب على ذلك من تراجع وهلاك، أو الانفكاك عن هذه التبعية، بكل ما يعنيه ذلك من انفتاح للأفق أمام شعبنا لإعادة قراءة واقعه من أجل تغييره، نحو مجتمعات منتجة حرة وسعيدة.
* باحث لبناني