لم يسبق في أي مرحلة من مراحل تطور العلاقات بين واشنطن من جهة وكل من أنقرة والرياض من جهة أخرى أن وصل انتقاد الصحافة الغربية [الرسمية] على نحو عام، والأميركية على نحو خاص، إلى المستوى الذي نشهده في هذه الأيام. فلا يكاد يمر يوم من دون نشر مختلف وسائل الإعلام/ التضليل، انتقادات لجوهر نظام الرياض، ولشخص الرئيس رجب طيب إردوغان.هذه «الحملات» الإعلامية، في ظنّي، هدفها ليس «إعلام» القارئ المتابع في الغرب بطبيعة نظام الرياض وشخص الرئيس التركي، وإنما تهيئة أجواء الرأي العام في الدول الغربية لتغييرات ستسعى واشنطن إلى إحداثها في دول الخليج النفطية وفي أنقرة بعدما استنفذت مهام وجودها.
المتابع لهذا الملف لا شك يتذكر كلمات الرئيس أوباما عن طبيعة مشيخات الخليج النفطية وعبثها، وعن الرئيس إردوغان، وحتى عن مراكز الدراسات الأميركية «التي أخضعت تحليلاتها للمال» وهو أمر سبق لنا الحديث فيه ضمن هذا المنبر.
إذا تصفحنا أعداد مجلة «أتلنتك» الصادرة بضعة أيام قبل مقابلة باراك أوباما، فسنعثر فيها على مقال لأحد أشهر معلقي المؤسسة الحاكمة في واشنطن حيث كتب عن المملكة السعودية الآتي: «هناك طريقتان لوصفها [السعودية]: إما إنها مشروع سياسي ذو مخطط متذاكٍ، لكنه في حقيقته تجاري غير مؤهل للبقاء، أو إنها كيان فاسد لا يشبهه عمودياً وأفقياً إلا منظمة إجرامية كاملة الأوصاف. وفي الحالين لا أمل لها في الحياة». انتهى كلام المعلق الأميركي.
أما ما يتعلق بالرئيس التركي، فسنترك كلام باراك أوباما وننتقل إلى وسائل الإعلام/ التضليل الألمانية، وهي الدولة المعنية أكثر من غيرها من دول الاتحاد الأوروبي بالعلاقات مع أنقرة بسبب الصلات التاريخية بين البلدين تعود إلى المرحلة التي كانت تركية فيها إمبراطورية عثمانية، وألمانية كانت بْرُوْسِيَّة، قبل الوحدة الألمانية التي أنجزتها الأخيرة بقيادة بسمارك. كما إن تواجد جالية تركية كبيرة في ألمانيا، يصل تعداد أفرادها إلى نحو مليوني شخص، يخضع العلاقات إلى حساسيات وحذر، خصوصاً من جانب برلين. ألمانيا، ممثلة بشخص المستشارة ميركل، عملت على دعم الرئيس إردوغان في الانتخابات الأخيرة، وكذلك فعل الاتحاد الأوروبي عندما أجل نشر تقريره الخاص عن أوضاع حقوق الإنسان في تركيا إلى ما بعد لقاء القمة بين الطرفين. إضافة إلى ذلك، فقد صمتت وسائل الإعلام/ التضليل الألمانية لفترة طويلة عن أحداث الأناضول والحرب الدائرة هناك بين الطرفين التركي والكردي، وكذلك عن الدعم غير المسبوق الذي تقدمه أنقرة لتنظيم الدولة وبقية التنظيمات المشاركة في الحرب في سورية وعليها. دعم برلين للرئيس التركي، وربما الصمت عن الحرب في الأناضول، ما كان ممكناً من دون أخذ برلين موافقة البيت الأبيض المسبقة.
لكن الأمر اختلف الآن، رغم خضوع المستشارة ميركل لما تصفه الصحافة الألمانية [الرسمية] بأنه ابتزاز أنقرة، حيث لا يمر يوم من دون قراءة نقد غير مسبوق للرئيس التركي، والتركيز على طبيعة شخصه في المقام الأول، مع أن تصرفاته حيال خصومه لم تتغير في السنوات الأخيرة. فعندما «تكتشف» تلك الصحافة ما تسميه عيوب الرئيس إردوغان، فعلينا التعامل مع المسألة بجدية.
الأمر هنا لا يتعلق إطلاقاً بمشكلة «القصيدة» التي ألفها كوميدي ألماني، وسيتعرض الآن بسببها للمحاكمة بتهمة «إهانة الذات الملكية» وسيُدان بكل تأكيد وقد يحكم عليه بغرامة وحتى بالسجن مع وقف التنفيذ، وإنما في كيفية تعاطي وسائل الإعلام/ التضليل الألمانية مع المسألة، آخذين في الاعتبار ما قاله فيها أحد أبرز الصحافيين الألمان حيث وصفها بأن ليست سوى نشرة حلف الناتو، لا أكثر، وقد سبق لنا الإشارة إلى ذلك عندما عرضنا كتابه «صحفيون أجراء».
زملاء الكوميدي ومختلف الروابط المهنية ذات العلاقة، إضافة إلى مختلف وسائل الإعلام/ التضليل الألمانية لم تؤدِّ واجبها بالدفاع عن الكوميدي الألماني وعن «حرية التعبير» التي هبّت لنجدتها عندما تعلق الأمر برواية سلمان رشدي «الآيات الشيطانية» وبالرسوم المسيئة للرسول الأعظم في الصحافة الأوروبية. الأمر اقتصر على انتقاد الرئيس التركي حيث وصل الأمر إلى قيام أحد أشهر معلقي التلفزيون الألماني الحكومي بالإشارة إليه على أنه «حالة وجب إحالتها لأطباء النفس»، أي: مجنون!
في ظني أن هذه المؤشرات الكثيرة الآتية من جهات شبه رسمية ما هي إلا مقدمة لقرار التخلص من الحليفين السابقين، وإعداد الرأي العام في أوروبا لأمر كبير ستشهده المنطقة. ومن هذه الزاوية نرى أن زيارة الرئيس أوباما للرياض ولقاءه قادة مشيخات الخليج إضافة إلى لقائه، العابر، مع الرئيس التركي إبان قمة السلاح النووي، ما هي إلا تلك القبلة الشهيرة التي تطبع على خد الضحية قبل التخلص منها.