عمر كوش *
مع نهاية كل عام، نسبر أغوار الذاكرة، ونجري ما يشبه جردة حساب للأحداث والمواقف التي حصلت، أو نقوم، حسب لغة العسكريين، بتقدير الموقف، بغية معرفة مآل الأمور من خلال قراءة أبرز الأحداث التي مرّت وعصفت بنا، من باب الإبقاء على نوع من الإحساس الإنساني بالزمن الذي انقضى، وأثّرت أحداثه وفواعيله في كياناتنا، وحفرت مشهدياته عميقاً في ذاكرتنا الإنسانية المفعمة بالنسيان والشتات.
وتؤكد القراءة المتأنية لأحداث 2006 أن السلام الغائب أو المفقود هو أكثر ما يؤلم شعوبنا ويهددها، ويدمر أحلامها البسيطة في العيش بأمان، مع أن السلام لم يعد شعاراً للاستهلاك الخطابي في المناسبات والمساجلات الكلامية، بل هو خيار استراتيجي يجب أن تلتفّ حوله كل القوى الحيّة في العالم، ويسعى إليه كل من يتطلع إلى رخاء اقتصادي واستقرار اجتماعي يحتضن الجميع في الفضاء المشترك، وكل من يحلم باستئصال الحرب والقتل والتعصب والإرهاب، وطيّ صفحة العنف إلى غير رجعة.
وقد قيل، منذ سنوات خلت، إن الطريق إلى السلام العالمي تبدأ بمنطقتنا المشرقية وتنتهي إليها، لكن عام 2006 كان عاماً محفوفاً بمختلف أنواع المخاطر والصراعات، لعل أخطرها سقوط العراق وسقوط أهله في حرب مذهبية مدبرة، ونماء أجواء التصعيد والتأزيم السياسي والاجتماعي في لبنان، والحصار الجائر بحق الشعب الفلسطيني إلى جانب مظاهر الصراع على السلطة ما بين «فتح» و«حماس» في الأراضي الفلسطينية، والتداعيات المشحونة التي يثيرها البرنامج النووي الإيراني. كل ذلك يعيد إلى الأذهان أجواء حرب إقليمية وشيكة الوقوع، ويبعد فرص السلام المنشود، بعد أن انتصر النهج العسكري والأمني في دول منطقتنا، بالرغم منا يرافقه من انتهاكات صارخة للحريات الفردية والجماعية، ولحقوق الإنسان، ويتيح الفرصة لأنظمة الاستبداد في تعدياتها على الدساتير والقوانين، والاستقواء بنهج الممانعة الخادع نتيجة اعتمادها على قوى الأجهزة الأمنية، واتباعها نهجاً أثبت عقمه بمقدار ما أثبت محدودية رؤاها الحاضرة والمستقبلية. وبالتالي لم يحمل عام 2006 سوى المزيد من حالات التردي والانهيار في عموم الأوضاع العربية، سواء على مستوى النظام العربي أو التعاون العربي، أو على مستوى التنمية، أو على مستوى استحقاقات التغيير الديموقراطي وحقوق الإنسان ووضع المرأة ومسألة الأقليات وغيرها.
وليست الأحداث الدامية التي جرت في الأراضي الفلسطينية ما بين عناصر من «حماس» و«فتح» سوى دليل إضافي على التردي والانهيار، لكونها أسقطت المحرّمات وكسرت قواعد الممنوعات، واستباحت الدم الفلسطيني على أيدي أصحابه، وجاءت في لحظات صعبة، يعاني فيها الشعب الفلسطيني الاحتلال والحصار الدولي والعربي الجائر. والمُفارق في الأمر، هو أن كل طرف لم يُغلّب الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي على الصراع على السلطة، فبقي أسير مواقفه وإرهاصات لعبة الصراع، واكتفى بالحديث عن حرمة الدم الفلسطيني وعدم جواز الاقتتال الأهلي، وبالتالي لم يتم التوصل إلى حكومة وحدة وطنية، ولم يتم أيضاً تحقيق التوافق الذي تتطلبه الظروف الصعبة التي يعيشها الشعب الفلسطيني.
غير أن الأحداث الدامية التي حصلت كشفت عن وجود خلل بنيوي في الساحة السياسية الفلسطينية، تجسّد في عدم القدرة على التوصل إلى برنامج وطني موحّد، يربط ما بين المصالح المشتركة وبين القدرات والإمكانات الفلسطينية وموازين القوى الداخلية والخارجية.
ويبدو أن الأوضاع الملتهبة في لبنان، تتجه نحو المزيد من الاحتقان والالتهاب، حيث الانقسام سيّد الموقف مع الانجرار نحو المزيد من الانسداد والتأزم، وليس هناك من يستطيع فتح فجوة في جدار الأزمة، خاصة أن لبنان في حال سباق مع الزمن لتجنب أجواء المواجهة الملتهبة، وبحاجة إلى إنعاش فرص الانفراج بالرغم من تضاؤلها واقتراب نفاد الزيت في قنديلها.
وتبقى حرب 12 تموز، الإسرائيلية ــ الأميركية على لبنان، من العلامات البارزة في عام 2006، سواء على المستوى العسكري أو الاستراتيجي والسياسي، حيث برز التصدي المشرّف للمقاومة. وبقي الإبهام سيد الموقف، بعدما انتهت الحرب إلى نتيجة غير حاسمة، بالرغم من وحشية القوة الإسرائيلية واستخدامها الهمجي في التدمير الذي أصــاب لبنان في بناه التحتية والاقتصادية.
على الجانب الآخر، تقف الاستراتيجية الأميركية، التي تقود العالم، على حافة الفشل الذريع. وبغضّ النظر عن الارتدادات والإرهاصات الإقليمية والدولية الحاصلة بعد الاحتلال، فإن الصورة في العراق تقدّم الدليل الواضح على الفشل الذريع في استراتيجية التقويض، أو الفوضى البنّاءة، التي اعتمدتها الإدارة الأميركية خلال السنوات الخمس الماضية.
* كاتب سوري