خليل حسين *
ثمة أسئلة كثيرة تُثار حول خلفيات تقديم الأكثرية النيابية عريضة إلى مجلس الأمن الدولي في ظروف يحتاج فيها لبنان إلى الجهد الكبير للملمة أوضاعه الداخلية وإبعاد التدخلات الخارجية من أي جهة أتت، ولا سيما أن لهذه العريضة خلفيات وتداعيات كثيرة وكبيرة يمكن أن ترخي بظلال كثيفة على ما تبقى من قنوات اتصال وتواصل بين الأطراف الداخلية. فما هي القيمة القانونية لهذه العريضة وكيف يمكن توصيفها؟ وما هو دور مجلس الأمن لاحقاً؟ وما هي خلفياتها وتداعياتها المستقبلية؟ وهل هذه الخطوة بالذات تخدم الأهداف التي أُنشئت المحكمة لأجلها؟
فمن حيث المبدأ تعتبر العريضة المقدَّمة للأمين العام للأمم المتحدة، من الناحية الدستورية والقانونية، لا قيمة لها، باعتبارها صادرة عن سلطة غير ذي صلة بالموضوع المقدم. فمن الناحية الدستورية والقانونية يعتبر رئيس الجمهورية صاحب الصلاحية في التفاوض مع الجهات الخارجية وفقاً لنص المادة 52 من الدستور، إضافة إلى أن العلاقة في الأساس مع الأمم المتحدة هي من اختصاص إجرائي يتمثّل في هذه الحالة بالحكومة وتحديداً بوزارة الخارجية. أما الأمر الثالث فهو أن صلاحية مجلس النواب تُختصر فقط في الإبرام النهائي إذا كانت المعاهدة ترتّب أعباءً مالية على الدولة ولها أصول وآليات حددها الدستور والنظام الداخلي لمجلس النواب. لذا العريضة المقدمة لا محل لها من الإعراب القانوني، فهي ليست ملزمة للأمين العام للأمم المتحدة ولا لمجلس الأمن. وفي أحسن الأحوال لا يمكن البناء عليها إلا من وجهة سياسية بحتة يمكن أن تؤخر إقرار المحكمة ولا تستطيع تقديمه.
فمن الناحية السياسية يمكن قراءة العريضة على أنها إعلام الأمين العام بأن نصاب إقرار المحكمة في المجلس النيابي متوافر من الناحية العملية بسبعين نائباً، والدعوة إلى إقرار نظام المحكمة بعيداً من المعاهدة الموقّعة بين الحكومة والأمم المتحدة. وإذا كان التوصيف القانوني والسياسي لهذه العريضة لا يخرج عن هذا الإطار فما هي خلفياتها وتداعياتها؟
من الواضح أن مجلس الأمن يصدر قراراته ضمن إطارين محددين في الميثاق الأممي، فوفقاً للفصل السادس يتطلب تطبيق أي قرار صادر عن مجلس الأمن موافقة الأطراف المعنية به، فيما القرار الصادر وفقاً للفصل السابع يعتبر ملزماً لكل الدول التي عليها العمل على تنفيذه إضافة إلى الأطراف المعنية به. ومن هذا المنطلق فإن أولى الخلفيات تتعلّق بالدول التي لا تعتبر نفسها معنية به. ولو استثنينا الدول العشر التي وُصفت بأنها غير متعاونة في تقرير المحقق الدولي سيرج براميرتس للأسباب المعروفة، فإن سوريا هي المعني الأول به. فعلى الرغم من ذكر التقرير السالف الذكر بأن التعاون السوري كان مقبولاً، تشير تصريحات معظم قيادييها بشكل واضح وصريح إلى أن سوريا غير معنية بالمحكمة وليست طرفاً فيها، وبالتالي السلطات القضائية السورية هي صاحبة الصلاحية بمحاكمة أي مسؤول إذا أدانته التحقيقات. وعليه، من الصعب فصل العريضة المقدمة من الغالبية النيابية اللبنانية عن هذا الهدف بالذات، باعتبار أن إقرار المحكمة ونظامها في الحدود القانونية الحالية لا يلزم سوريا في مراحل لاحقة وإن كانت مبدئية إنشاء المحكمة اتُخذت في القرار 1644 وفقاً للفصل السابع من ميثاق المنظمة. وفي أي حال يعني إقرار المحكمة تحت الفصل السابع، في ما يعني، وضع سوريا في مواجهة مجلس الأمن بشكل مباشر، وإجبار سوريا على قول كلمتها في شأن المحكمة بعدما أوضحت أنه لا ملاحظات لديها وأن توجّسها يكمن في استهداف بعض الأطراف اللبنانيين من حلفائها في عملية الاغتيال.
ثمة توجّس وخوف كبيران من أن إقرار المحكمة تحت الفصل السابع سينسحب على الوضع القانوني لقوات الطوارئ في جنوب لبنان، ربطاً بسوابق مماثلة على الصعيد الدولي وإن اختلفت تسمية المحاكم ونوعيتها. فجميع القوات التي أُنشئت في يوغسلافيا السابقة وراوندا وتيمور الشرقية والتي ترافقت مع محاكم دولية خاصة ومختلطة أُنشئت استناداً إلى الفصل السابع، بتبريرات متنوعة ومختلفة وبخاصة حماية حقوق الإنسان وتحقيق العدالة في جرائم مماثلة. إن الحالات السابقة السالفة الذكر لم تمكّن أصحابها من الوصول إلى الأهداف المرجوة وبخاصة في قضية سلوفودان ميلوسوفيتش، فيوغسلاقيا قُسمت قبل أن يتوفى هذا الأخير في سجنه وقبل صدور أي حكم في حقه. وعطفاً على ما سبق إذا ما تمَّ هذا الربط والوصل فسيجعل من لبنان بلداًَ مكشوفاً أمام الضغوط الإقليمية والدولية باختلاف أشكال وألوان المصالح المتدخلة والمتداخلة في ما بينها والقادرة بشكل أو بآخر على استثمار واقع ووقائع الظروف المستجدة وبخاصة في جنوب لبنان وشرقه.
إن تداعيات كثيرة ستظهر في حال الإقرار تحت الفصل السابع، منها ما يتعلق بأوضاع المحكمة نفسها ونظامها الداخلي وبمصير بعض الملفات المرتبطة داخلياً. ففي الشق الأول، يمكن مجلس الأمن وفقاً لقراراته السابقة ولا سيما القرار 1644 إقرار نظام المحكمة وفقاً للفصل السابع مع الإبقاء على صفة المختلطة، أي أن يكون القضاة لبنانيين ودوليين، إلا أن ثمة ضرورات لتعديل بعض بنود النظام الأساسي للمحكمة بحيث تُحرم السلطات اللبنانية من هامش المشاركة النسبية الممنوح في النظام الأساسي. وأما إقرار مجلس الأمن لنظام المحكمة تحت الفصل السابع أيضاً وتطبيق القانون الدولي فقط، عندها يكون الأمر أقرب إلى إنشاء محكمة دولية خاصة كالسوابق التي ذكرناها آنفاً. وفي هذه الحالة الأخيرة سيخرج الموضوع كلياً من يد اللبنانيين.
في الجانب الداخلي من التداعيات يمكن رصد ثلاث حالات رئيسة، تتعلق الأولى بإطلاق رصاصة الرحمة على الحوار الذي جرى سابقاً بين رئيس مجلس النواب ورئيس الأغلبية النيابية، إذ بات موضوع الحوار منتهياً من أساسه، وبات يتطلب جدول أعمال مختلفاً لجهة الموضوعات وطرق الربط والوصل الممكنة بينها. فحكومة الوحدة الوطنية التي تطالب المعارضة بها باتت قضية منفصلة عن موضوع المحكمة ونظامها، وبالتالي أي متابعات أخرى ستفرض شكلاً جديداً من المطالب التي تبدو أشد تعقيداً من حكومة الوحدة الوطنية ومنها الانتخابات النيابية المبكرة على سبيل المثال.
ثاني التداعيات الداخلية سيكون حجم التأثير في أهداف الاعتصام الذي ربط بشكل أو بآخر بإمكانية إجراء تعديلات ما على نظام المحكمة مقابل إنهاء الاعتصام، وهذا ما عمل عليه في الأساس الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى في جولاته السابقة. النقطة الثالثة تتعلق بانتخابات رئاسة الجمهورية إذ إن نقل الموضوع إلى مجلس الأمن يعني في ما يعنيه أن هذه الأكثرية هي صاحبة الحق الحصري في تحديد التكييف القانوني لآلية انتخاب الرئيس المقبل، وإلا ستكون الحكومة الحالية هي الوريثة لصلاحيات رئيس الجمهورية في حال تعذر عملية الانتخاب.
في أي حال يبدو أن الأمر متعذر حتى الآن على رغم السعي الأميركي الفرنسي الجاد، إذ ثمة معارضة روسية صينية واضحة، ما يعني أن حق الفيتو وسيلة قابلة للرد، ووسط تصريحات واضحة أيضاً للأمين العام للأمم المتحدة الداعية لإقرار نظام المحكمة وفقاً للأطر الدستورية اللبنانية.
لا شك في أن مجمل القضايا ذات الصلة بالمحكمة ونظامها الأساسي قد باتت اليوم أكثر تعقيداً من أي وقت مضى، وبالتالي قد فتحت الأمور على مصراعيها بحيث لم يعد في الإمكان الرجوع إلى الوسائل التقليدية السابقة كجلسات الحوار أو التشاور أو الحوارات الثنائية من دون تغيير واضح وجذري في وسائل الضغط المتبادلة.
إن دعوة الرئيس نبيه بري المملكة العربية السعودية إلى رعاية الحوار اللبناني، واستجابة رئيس الأكثرية سعد الحريري لهذه الدعوة، تعتبران مدخلاً مبدئياً لتبريد الأجواء، في انتظار متغيرات سريعة، إلا أن الأمر لا يقتصر على الأطراف اللبنانيين وحدهم، فرسالة الرياض واضحة في أنها مستعدة للاستضافة المشروطة باتفاق الأطراف اللبنانيين سلفاً، إذ هي تعلم أولاً وأخيراً عمق المشكلة وتشعّباتها وحدود الحل والربط في تلك المسائل. صحيح أن للمملكة دوراً كبيراً في إنجاز اتفاق الطائف ووضعه موضع التطبيق، إلا أن ظروفاً دولية كانت ملائمة لإخراجه، فهل الظروف الحالية متطابقة مع ظروف انطلاق اتفاق الطائف؟ إن ظروف لبنان مختلفة تماماً، ففي السابق كان الخوف من لبننة الدول المحيطة به، أما اليوم فالخوف الأكبر بات عرقنة لبنان، فهل سيكون إقرار المحكمة ضمن الفصل السابع مدخلاً لذلك؟ كأن في فَمِنا ماء.
* أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية