سركيس ابو زيد *
ساد الوسط السني في لبنان، منذ ولادة لبنان الكبير حتى استشهاد الرئيس رفيق الحريري، التزام عام بالقضايا القومية العربية، من دعم للثورة الجزائرية، إلى ثورة عبد الناصر، مروراً بحركات التحرر، وخاصة حركة المقاومة الفلسطينية.
لكن بعد استشهاد الحريري، وما رافقه من تداعيات، انقسم الجمهور السني في لبنان إلى ثلاثة تيارات:
الأول: تيار العروبة، ويمر الآن بحالة تردد وإرباك وتراجع.
الثاني: تيار الحريرية المتحالف مع السعودية وأميركا وفرنسا على الصعيد الخارجي، وفي الداخل التحق بمنطق الاستقلال والسيادة الكيانية ومدرسة الانعزال اللبناني التي تعمل على تحييد لبنان عن الصراع العربي ـــ الإسرائيلي، وإبعاده عن المقاومة والنضال والتحرر.
الثالث: التيار السلفي الذي ينمو على أنقاض اليأس والإخفاق العروبي، ومحبط من ازدواجية خطاب الحريرية التي تقوم على استنهاض المذهبية في الداخل والمتعاطفة مع الاعتدال العربي والإدارة الأميركية في الخارج، ضاربة عرض الحائط بالقضايا القومية والإسلامية العادلة في العراق وفلسطين ومسائل التنمية، ما أدى إلى نهب ثروات العرب والمسلمين والانحياز الكامل إلى جانب أمن إسرائيل.
في هذا المناخ، بدأت تنمو حركات سلفية، جهادية، أصولية. تعددت الأسماء والهاجس واحد: إحياء المذهبية الجهادية لمواجهة المذهبية المقاومة ومنافستها. وهي ترى أن المذهبية الحريرية سلبية لأنها متحالفة مع قوى دولية معادية للإسلام، بينما المذهبية الجهادية إيجابية لأنها تقاتل أعداء الإسلام.
في هذا السياق بدأت تظهر على الساحة اللبنانية منظمات على صورة القاعدة، فهي أحياناً امتداد، وأحياناً أخرى تشبُّه بها. هذه التيارات بدأت تظهر وتنمو في الشمال وفي مناطق لبنانية أخرى كالبقاع والجنوب تحديداً.
يحاول البعض التقليل من أهميتها، ويحاول أن يحصر دورها وانتشارها في شمال لبنان وفي بعض التجمعات أو الأحياء المعزولة، لكن في الواقع، هي تنمو في رحم مذهبية مضطربة، وهي تعمل وتنتشر وتتمدد لتجتاح لبنان ليصبح على صورتها ومثالها، وهي تطمح إلى تحويل لبنان إلى لبنانستان ليغدو دولة القاعدة في المستقبل.
ما هي حقيقة وجود القاعدة وأخواتها في لبنان؟
فضلاً عن الأسباب العامة للانتشار المحدود لفكرة القاعدة في عدد من المناطق في لبنان المتمثلة بازدياد كراهية الغرب وأميركا على وجه الخصوص، بالتزامن مع انحسار الشعارات القومية لمصلحة تلك الإسلامية، فإن ثمة أسباباً خاصة لمثل هذه الظاهرة، تختصرها مراجع مختصة بالشؤون الإسلامية بالنقاط الآتية:
* وجود بيئات مناسبة لظهور التطرف، قوامها الحرمان والجهل والتهميش، كما في باب التبانة في الشمال، ووجود من يصور للشباب الرافض لواقعه أن الخلاص يكون بركوب موجة القاعدة.
* وجود رغبة لدى العديد من الشباب الملتزم بممارسة «الجهاد» أسوة بإخوانهم الشيعة، الأمر الذي لا يجدونه متاحاً في ظل «الحصرية الحزبية والمذهبية للمقاومة» في لبنان، فتكون النتيجة إما التوجه إلى العراق أو «الجهاد» في الداخل.
* وجود توجه عام لدى القاعدة للاهتمام بمنطقة الشام، ولا سيما فلسطين، من باب رفع الحرج المتمثل باتهام القاعدة بأنها تولي الصراع مع أميركا أولوية على الصراع مع إسرائيل، وهو ما يفسر الاهتمام المتزايد لأيمن الظواهري بالوضع في لبنان وفلسطين وتحريضه الإسلاميين اللبنانيين على قوات اليونيفيل.
* تصاعد الاحتقان المذهبي في لبنان الذي وفر مبرراً لانتشار الفكر المتشدد المتخذ من المسلمين الشيعة هذه المرة هدفاً له، بالتزامن مع تفاقم العنف المذهبي في العراق والخوف من انتقاله إلى لبنان وشعور العديد من الجماعات الإسلامية بضرورة تسليح نفسها لأهداف دفاعية أو هجومية.
* المعالجة الأمنية الخاطئة لملف القاعدة التي في أكثر من حالة عقدت الأزمة بدل حلها، والتي ولّدت العديد من الجماعات العنفية الصغيرة التي توزعت في أكثر من مدينة أو قرية أو مخيم، وقامت باستهداف السلطات اللبنانية.
وعن الاستغلال السياسي لوجود القاعدة في لبنان، يمكن ملاحظة عدة أشكال لهذا الاستغلال أبرزها:
ـــ الاختراق: والمثال الأبرز على هذه الحالة تنظيم «فتح الإسلام» الذي أُنشئ بطريقة استخباراتية واضحة.
ــــــ فبركة بيانات المسؤولية: حيث يصدر العديد من الجهات البيانات بالنيابة عن القاعدة لتحميلها أعمالاً لم تقم بها، أو للتستر على أعمال قامت بها أجهزة استخباراتية أو جهات أخرى على علاقة بها.
ــــــ التضخيم الإعلامي: وهذا شكل من أشكال الاستغلال يفضي إلى تنوّع مستخدميه بين أجهزة أمنية أو استخباراتية أو جهات سياسية كل وفق حاجته، من خلال إضافة معطيات غير موجودة.
من جهته، كان الصحافي الأميركي سيمور هيرش قد نشر تحقيقاً أوضح فيه أن وجود القاعدة في لبنان لا يتم فقط بعلم الحكومة، بل أيضاً بمساعدة فاعلة منها. ونقل هيرش عن مسؤول رفيع سابق في الاستخبارات الأميركية قوله: «نحن في عملية تعزيز قدرات السنّة لمعارضة الشيعة، ونحن نوزع ما يقتضيه الأمر من أموال من أجل هذا الهدف، وتساند في ذلك الرياض وبعض الأطراف اللبنانية السنية»، أي إن جهات أميركية وعربية ولبنانية تساعد بشكل فاعل تموضع القاعدة في لبنان. هذا التقرير المثير يمكن ويجب أن يطرح علامات تعجب. لكن من المعلوم أن الشرق الأوسط هو منطقة المفارقات الصارخة، واحتمال أن يساعد الأميركيون القاعدة وارد بالتأكيد، رغم أنها المنظمة التي اتهمت بتفجير البرجين في نيويورك وقتل الجنود الأميركيين في العراق. ويجب ألا ننسى أن هذه المنظمة وصلت إلى قوتها من خلال الدعم المباشر وغير المباشر من الولايات المتحدة بهدف مقارعة الشيوعية السوفياتية في أفغانستان. كذلك يشير هيرش إلى أن جعجع والقوات اللبنانية متورطة بمساعدة بعض الجماعات المتشددة في التسلل إلى لبنان لقاء مساعدات مادية أميركية. الغرض من الدعم الأميركي والعربي لهذه المجموعات الجهادية واضح بحسب هيرش، فهي تبتغي وضعها في مواجهة حزب الله وقوى المقاومة كي تشغلها عن أمور أخرى كموضوع الحكومة والمواجهة مع إسرائيل.
بيئة صالحة للشبكات الأصولية
«ملامح عمل القاعدة» في لبنان يبرزها العائدون من العراق، فضلاً عن «البيئة المستقبلة» لأفكارهم، و«لبنان فيه بيئة صالحة لنمو شبكات قاعدية لها مواصفات تتطابق مع مواصفات القاعدة».
وكانت حكاية اللبنانيين المهاجرين إلى العراق للقتال هناك قد بدأت تتكشف عندما تحدث أهالي سكان من بلدة القرعون في البقاع الغربي اللبناني عن أن الشاب عمر درويش، وهو من أبناء البلدة، قتل في مدينة سامراء العراقية اثناء مواجهته مع مجموعة من المقاتلين العرب الهجوم الأميركي والجيش العراقي الأخير على هذه المدينة. وأشار هؤلاء السكان إلى أن درويش، وهو شاب سلفي، كان قد توجه إلى العراق قبل أشهر قليلة مع مجموعة من أبناء قريته.
أخيراً، تصاعدت الإشارات التي تتحدث عن نشاط القاعدة على الأراضي اللبنانية من خلال إعلان:
ــــــ تنظيم القاعدة في العراق يعلن مسؤوليته عن إطلاق صواريخ على شمال إسرائيل من جنوب لبنان، في بيان نشر على الإنترنت.
ـــ وكانت مصادر أمنية لبنانية قد أعلنت أن التحقيقات المتواصلة مع 13 موقوفاً (من جنسيات عربية مختلفة) من عناصر تنظيم «القاعدة» في لبنان، قد أفضت إلى الكشف عن محاولة جدية لإنشاء بنى تحتية مادية وعسكرية وبشرية، هي الأولى من نوعها لهذا التنظيم في لبنان، وهي على ارتباط مباشر بأبي مصعب الزرقاوي في العراق.
ولم تغب البيانات عن نشاط القاعدة، فقد نشر في مخيم نهر البارد بيان باسم «تنظيم القاعدة في لبنان» يعلن وصول القاعدة إلى لبنان ومباشرتها العمل على تدمير الحكومة الفاسدة التي تؤمر من الإدارة الأميركية.
من جهة أخرى، بات هناك شبه تأكيد في الأوساط الأمنية والإعلامية أن التنظيمات الإسلامية المتشددة التي تتخذ من المخيمات الفلسطينية أوكاراً لها، ترتبط تنظيمياً وإيديولوجياً بالقاعدة. ومن هذه التنظيمات «فتح الإسلام» التي اتهمت بجريمتي عين علق في المتن الشمالي، و«عصبة النور» و«عصبة الأنصار» و«جند الشام».
هل القاعدة قادرة على تحقيق حلمها بإقامة لبنانستان؟
التركيبة اللبنانية المتنوعة وواقع التعددية يحولان دون تطبيق هذا الهدف، وخير دليل على ذلك فشل إقامة «مارونستان» سابقاً بسبب النظام الطائفي وتنوع المذاهب في لبنان، كما تراجعت فكرة قيام جمهورية إسلامية في لبنان. القاعدة لن تكون قادرة في المدى المنظور على إقامة دولتها التي تتناقض مع الواقع اللبناني المتنوع والمتعدد الألوان، لكن بإمكانها إقامة قواعد عسكرية أو قواعد انطلاق أو زعزعة الاستقرار.
قد تتجه القاعدة إلى تحريك الوضع الأمني في الجنوب عبر تنفيذ عمليات استعراضية ضد اليونيفيل لخطف الأضواء من حزب الله أو توريطه في مواجهات غير محسوبة وتوقيت غير مدروس. وقد تسعى كذلك إلى «عرقنة» لبنان وتنفيذ عمليات مذهبية لتوتير الوضع ومحاولة جر المقاومة إلى فتنة داخلية تجهض مكاسبها في التحرير ومواجهة العدوان.
وقد تحاول بعض الجهات استغلال عمليات القاعدة من أجل التوازن المذهبي مع حزب الله وسرقة وهج المقاومة الإسلامية التي تركز على إسرائيل كأولوية في صراعها المسلح، بينما القاعدة لا تعدُّ إسرائيل أولوية في عدائها وفي برنامج مخططاتها وعملياتها.
ومن الأسئلة المطروحة في هذا المجال هو: هل هناك تعديل أو تبديل في أولويات القاعدة من خلال تمركزها في لبنان؟ وكيف ستتعامل إسرائيل مع هذا المعطى؟ فهل تشجع القاعدة لضرب حزب الله عدوها الرئيسي، أم تهادن حزب الله للتخلص من القاعدة، أم تعمل على ضرب الطرفين وإغراقهما في النزاع والمبادرة للتخلص منهما معاً؟ وفي هذا المجال، نجد عدداً من التقارير الإسرائيلية التي تتحدث عن سيناريوهات مختلفة من هذا النوع.
بعد أن تعثرت الحريرية في عسكرة أحياء بيروت، وإحياء جيش لبنان العربي، وتجنيد بعض الحركات الناصرية، وتجييش الفصائل الفلسطينية، هل تضطر إلى دعم القاعدة وأخواتها من أجل التنافس الجهادي مع حزب الله؟ أو على الأقل خلق نوع من توازن الرعب؟
لبنانستان: حلم القاعدة لن يتحقق إلا بحدود بناء قاعدة متقدمة للقاعدة تكون بداية تغير استراتيجي في أولويات القاعدة أو بداية زرع قواعد مذهبية يكون الهدف منها تحويل لبنان جدياً باتجاه العرقنة من أجل إسقاط «اعتدال» الحريرية من جهة، وتحررية المقاومة الإسلامية من جهة أخرى. وقد تؤدي هذه المعادلة إلى فرض التفاهم الصعب بين الحريرية والمقاومة من أجل إبعاد شبح القاعدة ورعبها.
* كاتب لبناني