بعد معركة انتخابية حامــية الوطيس، جرت الانتخابات الرئاسية الفرنسية في 22 نــيسان الماضي بين اثني عشر مرشحــاً يمثـــلون أطياف المـــشهد الــسياسي مـــن أقصى يمينه إلى أقصى اليسار، فتأهل للدورة الثانية التي ستجري غداً مرشحان: اليميني نيكولا ساركوزي الذي وعد بإحداث قطيعة مع السياسات السائدة في الجمهورية الخامسة، والاشتراكية سيغولين رويال التي تدربت على السياسة في كنف الرئيس الراحل ميتران. استطلاعات الرأي ترجّح فوز ساركوزي فيما تأمل رويال أن تساعدها أصوات حزب الوسط على قلب الموازين، ولا سيما بعد تقاربها مع فرانسوا بايرو. ومع التوقّعات بفوز ساركوزي، يبقى السؤال: ما هي معالم المرحلة الفرنسية المــقبلة في ظل الحقبة الساركوزية؟





الساركوزية والقطيعة الهادئة مع الديغولية

  • محمد نعمة *

    إن جوهر الديغولية نفسها في تجسدها في الجمهورية الخامسة الفرنسية يقوم إجمالاً على أربع ركائز أساسية هي:
    ــ إن مؤسسات الدولة وإداراتها تنشدّ إلى مركزية قوية مبنية ديمقراطياً ويرمز لها توزيع السلطات وهرميتها المتجسدة في المكانة والدور المحوريين لرئيس الجمهورية، «الملك».
    ــ التخلّي الطوعي عن سلوك التوسع العسكري والكولونيالي وعقليته تجاه الشعوب الأخرى، وخاصة الأفريقية، هذا من جهة، والانفتاح والسعي إلى وصل ما انقطع بين الدول والشعوب الأوروبية من جهة أخرى.
    ــ الثبات في هاجس الاستقلالية والبقاء في الوسط، من حيث لعبة التوازنات والنزاعات الدولية، أي عدم القطيعة أو الانحياز لقوة دولية كبرى، مع الإمساك ومن دون كلل بقدرة الدفاع والردع (النووية) الذاتية، انفضاضاً بذلك عن أية مظلة نووية مهما كان مصدرها الخارجي.
    ــ إن الاقتصاد لا يسبح خارج تيار الجمهورية ورقابتها عليه، بحيث إن إحدى غاياته هي المحافظة على التضامن والتعاضد بين الفئات الاجتماعية المختلفة. من هنا، تبنّت الديغولية الاقتصادية حرية السوق ولكن بشرطها البراغماتي لا الدوغمائي.
    إن هذه الديغولية قد قُضمت رويداً رويداً، ليس فقط من قبل المرشح المحافظ نيكولا ساركوزي بل قبلاً من قبل الرئيس جاك شيراك نفسه. فبالفعل أن هذا الزعيم النيوديغولي الذي شكل وقاد «التجمع من أجل الجمهورية»، وقد كان خليطاً من عدة تيارات ديغولية يمينية ووسطية وحتى يسارية، خلص به الأمر ليستقر على عقد الزواج بين الليبرالية والديغولية. هذا ما حصل عندما قام عام 2002، أولاً بتشكيل «تجمع الأغلبية الرئاسية» الذي حمل نهائياً لواء الليبرالية، وثانياً، بتعيين جان ــ بيار رافاران النيوليبرالي رئيساً للحكومة الأولى بعد انتخابات استثنائية حصد فيها شيراك 82% من أصوات الناخبين، متجاهلاً وضارباً عرض الحائط بالتفاف اليسار والوسط واليمين من أجل انتخابه. لقد أفقد هذا الموقف اللحظوي الجمهورية الفرنسية فرصة نادرة من أجل القيام بدور تاريخي في إنجاز الإصلاحات اللازمة للدولة وتدعيم النظام العام والعلاقات المركبة بين الفرنسيين. فإذ بالرئيس يتصرف آنذاك بطريقة ضيقة وفئوية وقد خلت من رحابة صدر وسعة أفق.
    من هنا نعتقد أن ما يقوم به نيكولا ساركوزي ليس، كما يدّعي، هو «القطيعة الهادئة» مع القديم الفرنسي، بل هو «الاستعجال المنهجي» تحديداً في طي صفحة الديغولية نفسها من حاضر الفرنسيين ومستقبلهم. وبالتالي فإن كل الصراخ الاعتراضي ذي المخلّفات الديغولية من قبل شيراك ضد الهوى الأطلسي «لتلميذه»، لكونه انتزاعاً لأمن فرنسا من يدها ووضعه لدى أميركا أو الناتو، قد فاته الأوان وبدا صراخاً في وادٍ.
    إن لجوء ساركوزي إلى نمط المقاربة الطوائفية للقضايا الداخلية للأمة والمستعار من الفضاء الثقافي الأنكلوسكسوني وتحديداً الأميركي، وذلك عبر سعيه إلى تظهير وتوطيد اجتماسياسيين للتباينات والتمايزات الطائفية سواء كانت إثنية أو دينية أو مهنية يُعَدّ من منظور ديغولي هدماً لروح الجمهورية الخامسة القائمة على وحدانية «الطائفة ــ الأمة» ومساواة أبنائها تحت قانون علماني واحد. إن شدة حساسية الإليزيه ومعارضته لساركوزي تخوّفاً من المساس بقانون 1905 الناظم للعلاقة بين الديني والسياسي، وممانعة الرئيس شيراك استجلابه فكرة «التمييز الإيجابي» في الوظيفة الأميركية المنشأ، ولوم مرشح أغلبيته هذا لتعيينه أحد المهاجرين محافظاً، وذلك فقط لكونه مسلماً، كل هذا لم يؤثر إطلاقاً في حراك نيكولا ساركوزي لأن مسار التخلص من الأب قد بدأ قبل هذا «العصيان» بكثير. نعم «إن أحجار الزهر قد رُميت أصلاً» بحسب التعبير الفرنسي.
    إن إحدى علامات التخلص من الأب نجدها أيضاً لدى ساركوزي عندما أخفى حتى الآن موقفه من مصير القدرات العسكرية لفرنسا وعقيدته الدفاعية، وذلك نتيجة الخشية من ردة فعل الفرنسيين، وخصوصاً الديغوليين الغيارى على ميراث فرنسا في الدفاع والأمن الذاتيين. بالإضافة إلى ذلك، يبدو على عكس شيراك الذي بقي مشدوداً بعلاقات معقدة مع المستعمرات الإفريقية السابقة باعتبار أن «أمور إفريقيا وهمومها هي من عظمة فرنسا» ومن مسؤوليتها الأخلاقية الخاصة، حسب التعابير الديغولية المستعملة. فقد طرح ساركوزي أرضاً هذا الأداء الديغولي، وذلك عندما نادى بضرورة الانتهاء من «فرنسافريقيا»، هذا التعبير الحنيني المتداول بين الديغوليين وبعض الدوائر السياسية والفكرية في القارة السوداء، ليعلن بوضوح وفي لحظة تشدد منه وتمييز تجاه الأفارقة المهاجرين إلى فرنسا وتجاه أولادهم ذوي الهوية الفرنسية قائلاً «بأن فرنسا ليست بحاجة اقتصادياً إلى إفريقيا».
    إن التخلّص من الديغولية نجده أيضاً لدى ساركوزي في الاقتصاد. إن «العمل يحرر الإنسان» جملة يرددها هذا المرشح النيوليبرالي باستمرار، ولكننا نريد أن نذكّر وللأسف بأنه كان قد كُتِب يوماً على بوابة أوشوفيتز النازية لاستقبال عبيد النزاع الأوروبي ــ الأوروبي في حقبة الحرب العالمية الثانية العبارة التالية وبالألمانية «إن العمل يحرر» (أربيت ماشت فري). أما الماريشال بيتان الذي تعامل مع المحتل النازي، فقد كان يوقظ الأمة الفرنسية كل صباح على نشيد «هلمّوا إلى العمل».
    إن العقيدة النيوليبرالية وبحلّتها الأنكلوسكسونية وبمراجعها الأوائل أمثال رونالد ريغان ومارغريت تاتشر، هي المتنفّس الفكري لهذا المحافظ الذي يبدو أنه يتصرف في هذه اللحظات وكأن اللعبة قد انتهت بانتصاره. إنه ينتمي إلى النيوليبرالية التي تضع حرية السوق فوق حرية الأفراد والجماعات والشعوب. إنها العقيدة الثابتة لنيكولا ساركوزي وهذا ليس بجديد في دربه السياسي. إن هذه العقيدة الاجتمااقتصادية تسعى إلى تكبيل يد الدولة في شؤون الاقتصاد وإلى تفعيل وتعزيز دور المؤسسات والمنظمات الدولية المنظِّمة والحارسة لقانون حرية السوق ولحركة الشركات المتعددة الجنسيات. إن الحرية التي يتغنّى بها النيوليبراليون هي تلك المسجونة في قفص السوق، بحيث إنه ليس ثمة حرية من خارجه. فلو نظرنا إلى مكانة الحرية الفردية والجمعية لدى المحافظين الليبراليين أمثال جورج بوش أو نيكولا ساركوزي أو سيلفيو برلوسكوني، فإننا سنجد أن هذه الحرية تبدو، وبأقل ما يقال فيها، أنها موضوع نقد حاد من قبل المنظمات الغربية التي ترعى حقوق الإنسان. إن النيوليبرالية السائدة هي ليست فقط قاعدة حكم بل أيضاً برنامج تحكّم من حيث كونها سياسة منهجية في تضييق الخناق على الحريات الجمعية والفردية، وأيضاً من حيث إنتاجها واستغلالها للخوف الجسدي والاجتماعي لدى المواطنين لخدمة سيطرتها هي. وتقوم النيوليبرالية بذلك عبر تعطيل آليات التفكير النقدي عند هؤلاء وتعميق مشاعر القلق الوجودي وغرائز البقاء لديهم من أجل ضبط حراكهم وقولبته في شعبوية تمييزية وتذنيبية من جهة، واستئثارية واحتكارية من جهة أخرى. مع سيادة الليبرالية بوجهها «البونابارتي»، السلام والرحمة على الديغولية في مثواها الأخير.
    * مدير مجلة مدارات غربية




    العرب والمسلمون اختاروا رويال... لماذا؟

  • فيوليت داغر *

    الأسئلة الكثيرة التي حملتها الانتخابات الرئاسية ونقاط الغموض التي سترافقها حتى اللحظة الأخيرة، تطرح أسئلة كبيرة عن مستقبل الخريطة السياسية التقليدية في هذا البلد المركزي الدور في السياسة الأوروبية والمتوسطية والدولية، وأكثر من ذلك دور العرب والمسلمين كجالية في طور التكوّن السياسي والمدني بكل ما يحمل ذلك من مجاهيل.
    انتهت الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية مع فوز مرشحة الحزب الاشتراكي سيغولين رويال ومرشح اليمين نيكولا ساركوزي بالمقعدين الأولين وتقدمهما للدورة الثانية في 6 أيار المقبل بعد تصفية المرشحين العشرة خلال الجولة الأولى. سيشارك في الانتخابات 40 مليون فرنسي من أصل 60 مليوناً، بين كاثوليك 82% ومسلمين 5%، أي ستة ملايين، بينهم خمسة ملايين عربي مهاجر في غالبيتهم من المغرب العربي ونصفهم يحق لهم التصويت، أما اليهود فيبلغ عددهم 700 ألف أي 1%.
    يدلل استطلاع رأي ليومية لاكروا أجرته في اليوم التالي لانتخابات الدورة الأولى على شعور الديموقراطيين والمهاجرين، وبخاصة العرب والمسلمين في فرنسا، بخطورة المرحلة. المؤشر ليس فقط ارتفاع نسبة المقترعين في صفوفهم وبالخصوص الشبيبة، بل تصويتهم الكثيف للمرشحة الاشتراكية رويال، أي 64%، مقابل 1% لساركوزي، فيما حصل مرشح الوسط على نسبة 19% من هذه الأصوات. هذه الأرقام خرجت على هذا الشكل بغض النظر عن درجة ممارستهم لشعائر دينهم أو عدمها. وما هو مهم في مؤشرات التصويت العربي والإسلامي أنه لا يعير أي اهتمام لجنس المرشحة رويال. على العكس من ذلك، انتماؤها النسائي عنصر اعتدال و«سامباثي» عند الجالية المسلمة، ما يكسر كل الأحكام المسبقة على موقف المسلمين في فرنسا من قضية المرأة واليسار والعلمانية. ويشير أكثر من استطلاع رأي إلى أن الصوت العربي والإسلامي سيكون حاسماً في حماية قيم الجمهورية التي تمثلها اليوم رويال باعتبار نسبة المسلمين المصوّتين لها هي أعلى نسبة بين الجاليات الدينية والعلمانية سواء بسواء. تجدر الإشارة هنا إلى الدور الذي يمارسه المال السياسي في توظيف الإعلام لحماية مصالحه، وبالتالي التأثير في آراء الناخبين وفي توجيه مسار الانتخابات حتى في الديموقراطيات. لقد شكا الكثيرون من الوجود المكثّف لساركوزي في الإعلام وتقديمه على من عداه، بما يضرب في الصميم احترام المعايير الموضوعية أو الالتزامات القانونية لهذه الوسائل، وذلك خاصة مع الاهتمام الكبير للجيران الأوروبيين بما يجري في فرنسا من حيث تأثيره في أوضاعهم الخاصة والمشتركة بالنظر إلى اختلاف خيارات المرشحين المتنازعين. ولا ننسى دخول أطراف خارجية أساسية في حلبة الانتخابات وتأثيرها الذي لا جدال فيه، من مثل الإدارة الأميركية وإسرائيل اللتين تدفعان بمرشح اليمين الذي يعدّ مرشحهما بامتياز. حتى إن حكومة السنيورة في لبنان لم تتورّع عن الدعوة لمساندته والتبرع لحملته، التزاماً منها في الأغلب سياسة الوفاء للرئيس المنتهية ولايته جاك شيراك بفعل صداقته المعروفة لرئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري الذي اغتيل (ومما يُذكر أن شيراك تعامل مع الملف اللبناني «بشخصانية ومن دون عمق» على حد قول رولان دوما وزير خارجية فرنسا الأسبق، ويُشاع أنه سيسكن في منزل يملكه الحريري بعد خروجه من الإليزيه)، ولو أن الخلافات بين الشخصين (شيراك وساركوزي) كانت كبيرة على رغم انتمائهما لحزب واحد.
    الإحصاءات تشير إلى أن عدد المسجلين الجدد ارتفع بحدود 3.3 ملايين ناخب جديد مقارنة مع عام 2002. بالتأكيد هناك نمو ديموغرافي في فرنسا (يعود الفضل فيه بنسبة كبيرة إلى المهاجرين والفرنسيين من أصول أجنبية)، علاوة على ازدياد الاهتمام لديهم بالسياسة وتأثيرهم في مجرى الأمور بما يخص حاضرهم ومستقبلهم. وحيث إن الشبيبة غالباً ما تصوّت بالقسم الأكبر منها لليسار، فقد تسجل على اللوائح الانتخابية خلال الأشهر الأخيرة للسنة الفائتة 1.8 مليون ناخب جديد تراوح أعمار غالبيتهم بين 18 و30 سنة. ويلاحظ في الآونة الأخيرة خصوصاً تكاثر الصفحات على الإنترنت التي تتوعّد ساركوزي بأنها لن تدعه يمرّ وستصوّت لأي كان عداه كي لا يصبح الرئيس المقبل لفرنسا. فهي تخاف من شخص يعمل لمصالحه الشخصية أكثر منه للجمهورية وللمصلحة العامة. وتخشى أيضاً استعماله الماهر للماكينة الإعلامية الذي قد يكفل له ربح الجولة الثانية من دون أن تكون الأغلبية مؤيدة بالضرورة لأطروحاته. وهذه الشرائح تؤكد أهمية رمزية وجود امرأة في قيادة فرنسا. هذا البلد الذي تاجر كثيراً بمقولات المساواة والعدالة وحان الوقت له لأن يترجم فعلياً أطروحاته في عدم التمييز بين الجنسين من خلال إيصال امرأة لسدّة الحكم.
    إن أوساط حقوق الإنسان والهجرة المغاربية تعيش حالة استنفار وحذر من إمكانية وصول ساركوزي، بما يحمل ذلك من اهتزاز لدولة القانون وتوسيع صلاحيات الرئيس على حساب رئاسة الوزراء والبرلمان، وهو ينوي زيادة تمويل وزارة الدفاع ليتسنّى لفرنسا الانخراط في حروب أميركا واسرائيل وتغذية موارد مصنّعي الأسلحة من أمثال داسو ولاغردير الذين دعموا ترشيحه.
    وإذ يلعب على الهاجس الأمني للمواطن، فقد باشر وزيراً للداخلية استعمال أجهزة الفيديو للمراقبة في الأماكن العامة، كما فعل بلير. وبالاعتماد على تفييش البشر واستعمال أجهزة الحاسوب وغيرها مما ينتهك خصوصياتهم، يفترض أن يتمكن من توقيف أشخاص لمجرد الاشتباه بهم سائراً في ذلك على خطى دبليو بوش. إنه يريد أن يقلّده بالتطلّع للبرلة أكثر انفلاتاً وهمجيةً وتدميراً للعالم والابتعاد من النموذج الفرنسي الذي ما زال، على رغم الضربات التي تلقّاها، يحافظ على مكتسبات اجتماعية مهمة.
    ساركوزي أثار ضجة وردود أفعال كثيرة مستنكرة عندما تعرض من جملة المواقف التي أعلنها لتأثير المخزون الوراثي على السلوك الإنساني وعلى الجنوح. كأن يصرح مثلاً أن أصحاب الجنس المثلي يولدون على هذا الشكل، أو أن الشباب الذين يقدمون على الانتحار يحملون هذه النزعة منذ ولادتهم، فيما نعرف من علم النفس أن تأثير التربية حاسم في نمو الطفل والمناحي التي يتخذها في حياته حتى منذ وجوده في رحم أمه. هذا المنطق يبرر التعامل بشكل تمييزي بين البشر انطلاقاً من الاختلاف الجيني بينهم، ويذكّر بالخطاب النازي في ألمانيا قبيل الحرب الكونية الثانية. إضافة إلى ذلك، استهجنت منظمات حقوقية ومجموعات فكرية الانحراف في تصريحاته عن المسلّمة الأساسية للثورة الفرنسية القائمة على ربط الجمهورية بالمواطنة لا بأطروحات الهوية الوطنية. ونذكّر هنا بانتفاضة الضواحي وموقفه الاستعلائي والاستعدائي من المهاجرين، حيث كان لكلماته البغيضة مفعول النار في الهشيم.
    لا ننسى أن نأخذ بعين الاعتبار في خضم هذا الوضع الصورة السلبية التى عاناها وما زال بشكل خاص المسلمون في ظل ما سمي الحرب على الإرهاب منذ أحداث أيلول 2001. لقد اجتهدت في تلك الأثناء لوبيات الضغط وقوى الظل وما برحت تجدد نشاطها لربط الإرهاب بالإسلام والعرب. وكان ساركوزي وزيراً للداخلية رمزاً لهذه المواقف والمبادر إلى جملة القوانين المقيّدة للحريات منذ عام 2002، الأمر الذي يطرح السؤال عما إذا كانت الجمهورية ستتركه يقودها إلى حيث يشاء أم ستجد الوسائل الناجعة للدفاع عن نفسها؟ وذلك كي لا يصار إلى اختزال هذا المنطق في العناصر الأضعف التي هي الفئات المستضعفة والمتروكة لشأنها في مواجهة فوضى سوق العمل وتبدّل سلم القيم وزحف العولمة المتوحشة. هذه الشرائح التي منها ما هو ليس مرتبطاً بالضرورة بمعنى إثني أو ديني، أي ربط العمل بالجماعة والدولة بما يفرّق بين الأفراد من حيث من هم لا فقط ما يفعلون.
    لقد لوحظ في الآونة الأخيرة حرمان أمهات أطفال المدارس المحجّبات الخروج مع صفوف أبنائهم في بعض الأكاديميات. والحجة هي محاربة المظاهر الدينية باسم الدفاع عن العلمانية. وقد احتجّت على ذلك حركة مناهضة العنصرية ومن أجل الصداقة بين الشعوب لدى وزير التربية لكون ذلك يمثل انتهاكاً للتشريعات المعمول بها. فقانون 15 آذار 2004 يمنع ارتداء الحجاب والإشارات الدينية في المدارس، لكن لا يُلزم الأهل بشيء. وإذ يمتد مفعوله إلى أمهات تلامذة المدارس عندما يرافقونهم في رحلات مدرسية، فالمسألة لن تكون واحدة. لذا ما زالت تَطرح إشكالات حتى الآن لم يخرج أي فقه في الأمر، بحيث ما زالت القضية خاضعة لتقدير مديري المدارس والمفتشين.
    موضوعة الهجرة دخلت بقوة هذه المرة في المعركة الانتخابية، حيث حاول المرشحون من خلالها دغدغة مشاعر الناخبين لكسب تأييدهم. اللاعب الأساسي، نيكولا ساركوزي، لم يألُ جهداً في استمالة أصوات اليمين المتطرف الذي مثّله جان ماري لوبان لسنوات طوال. بالنسبة إلى هذه الشريحة يعتبر المهاجر البعبع الذي يترصّدها ليفقدها صفاء حياتها ويهدد أمنها ويسلب منها عملها وخبزها اليومي. وعلى الرغم من أن الجميع لعب على مشاعر الهوية الوطنية بحيث توارى خلفها مفهوم الجمهورية، كان ساركوزي هو السبّاق في هذا المضمار على رغم كونه من أصول مهاجرة. وكأني به يعمل على تأكيد فرنسيته أكثر من الفرنسي الأصلي ليكون مقبولاً منه. هذا التحضير للأرضية بدأه منذ زمن طويل ولم ينتظر حتى اليوم للعمل عليه، والمناصب الوزارية التي شغلها أتاحت له الفرصة لذلك.
    كشف ساركوزي في مداخلة له أمام كبار الشرطة أن مدد دراسة طلبات اللجوء في الأوفبرا قد قلّت إلى النصف أو أقل. كذلك تراجع عدد طالبي اللجوء من 65 ألفاً في 2004 إلى 25 ألفاً في 2006، بما عدّه انتصاراً له بفضل ما اتخذه من إجراءات. الإجراءات التي اتخذت في صيف 2006 في ما يخص قانون الهجرة والاندماج، والتي وقف ساركوزي وراءها، قضت بوقف منح بطاقة إقامة أوتوماتيكية للمهاجرين السريين الموجودين منذ عشر سنوات على الأراضي الفرنسية. كذلك صعّبت شروط التجميع العائلي ومنح أوراق إقامة أو جنسية للمتزوجين بفرنسيين. لقد وجّهت الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان قبل الدورة الأولى استجواباً لمرشحي الرئاسة حول مواقفهم من الملفات الأساسية المتعلقة بحقوق الإنسان. وهذا الإجراء يعتبر تقليداً فرنسياً منذ أكثر من ربع قرن. تسلّمت الرابطة أجوبة من كل الذين وصلهم بريدها هذا، ما عدا مرشحاً واحداً رفض الإجابة عن الاستمارة هو نيكولا ساركوزي. لقد عمل أخيراً على منع صدور كتاب للقاضي سيرج بورتلي يتعرض فيه لسياسته الأمنية، ما اضطر الكاتب إلى توزيعه على شبكة الإنترنت كي يصل للقراء قبل الانتخابات، إلى أن جرؤت في نهاية المطاف منشورات أرماتان وقررت إصداره قبل ثلاثة أيام من الدورة الثانية. يبقى المرتجى أن لا تكون الأسابيع الخمسة لانتفاضة الضواحي السابقة مقدمة لما يمكن أن يحصل في فرنسا فيما لو ربح الرئاسة.
    * رئيسة اللجنة العربية لحقوق الإنسان




    قراءة هادئة في الحقبة الشيراكية

  • غسان العزي *

    بعد أيام، يغادر الرئيس الفرنسي جاك شيراك قصر الإليزيه إلى شقة أعاره إياها أيمن رفيق الحريري، منهياً إقامة فيه دامت اثني عشر عاماً، هي عمر ولايتين رئاسيتين. واحدة امتدت سبع سنوات قبل أن يتم تعديل الدستور لتقتصر ولاية رئيس الجمهورية الفرنسية على خمس سنوات قابلة للتجديد. لكن شيراك لم يفلت من «سندروم» السنة العاشرة الذي ضرب قبله شارل ديغول وفرنسوا ميتران. في سنة حكمه العاشرة أضرب الطلاب في وجه الجنرال الذي اضطر إلى الاستقالة ومغادرة الحياة السياسية. أما ميتران، فقد تجمعت الفضائح حوله من كل الأنواع والأجناس، في سنة حكمه العاشرة لتصيبه بالعزلة والوهن رغم عناده وتمسكه بالسلطة حتى الرمق الأخير. وهذه حال شيراك الذي قرر عدم الاحتفال بمناسبة مرور عقد على مكوثه في الإليزيه، في وقت راحت تعاني شعبيته من التراجع المتسارع. إنه «سندروم السنة العاشرة» الذي كان على الأرجح وراء فكرة تقصير ولاية الرئيس. كان من الطبيعي أن لا يترشح الرجل لولاية ثالثة وأن يتوجّه إلى الفرنسيين مودعاً وواعداً «أن ثمة وسائل كثيرة لخدمتهم» خارج الإليزيه، بعد أربعين عاماً قضاها في العمل السياسي منذ انتخابه نائباً عن مدينة «كوريز» في12 مارس/ آذار 1967، مروراً بالحقائب الوزارية العديدة التي تسلّمها ورئاسة الوزراء في عهود الرؤساء الأربعة الذين سبقوه في الجمهورية الخامسة، من ديغول إلى ميتران. والخروج من الإليزيه لا يعني بالضرورة خروجاً من الحياة السياسية أو الحقل العام. فبصفته رئيساً سابقاً للجمهورية سيكون شيراك عضواً في المجلس الدستوري وصاحب خبرة ورأي مؤثر كما هي حال الرئيس الأسبق فاليري جيسكار ديستان الذي، رغم تقدمه في السن، ما يزال فاعلاً في الحياة السياسية بدليل ترؤسه للجنة الحكماء التي صاغت الدستور الأوروبي المشترك.
    وعلى غرار ميتران، وصل شيراك إلى السلطة مع الوعد برأب «الشرخ الاجتماعي» ليرحل عنها وقد زاد هذا الشرخ اتساعاً. لكن ولايته الأولى عكرت صفوها خمس سنوات من «المساكنة» مع رئيس وزراء اشتراكي هو ليونيل جوسبان. بضاعة شيراك ردت إليه، إذ إنه أول من افتتح ما سمي وقتها المساكنة أو التعايش عندما أضحى في عام 1986رئيساً للوزراء في عهد الاشتراكي ميتران.
    صداقته للرئيس رفيق الحريري ووفاؤه له بعد اغتياله جلبا له الانتقادات والاتهامات بشخصنة السياسة وتسييس العواطف. وأخذ عليه البعض انقلابه المفاجئ على سوريا والتحاقه بالركب الأميركي ولا سيما بعد القرار 1559. وإذا كان مؤيدوه لا ينكرون تطلعاته الدائمة إلى علاقات شخصية جيدة مع الآخرين، إلا أنه في رأيهم لم ينقلب على سوريا ولم يلتحق ببوش قط. جلّ ما فعله أنه أعاد العلاقة الفرنسية ـــ السورية (الحارة في عهده) إلى ما كانت عليه على الدوام (تتراوح بين الفتور والقطيعة والعادية) بعد أن يئس من تعاون دمشق معه رغم كل الخدمات التي قدمها لها بإيعاز من الرئيس الحريري. أما بالنسبة للموقف من واشنطن، فلم تتوقف انتقاداته لها وإداناته لسياساتها الأحادية رغم بعض التنسيق إزاء المسألة اللبنانية.
    في عام 1998، ارتكب خطأً جسيماً سيترك آثاراً سلبية على ولايته الرئاسية الأولى برمّتها. إذ قام بحلّ البرلمان طمعاً في الحصول على أغلبية تشريعية مريحة. لكن النتيجة جاءت تماماً عكس المتوخى. خسر اليمين 225 مقعداً من الجمعية الوطنية التي «اجتاحها» اليسار الاشتراكي، ففرض زعيمه ليونيل جوسبان رئيساً للحكومة. وبقي هذا الأخير في منصبه خمس سنوات كاد في نهايتها أن يفوز برئاسة الجمهورية. استطلاعات الرأي رجحت فوز جوسبان في انتخابات الرئاسة عام 2002. لكن أصوات الناخبين توزّعت بين مرشحي «اليسار المتعدد» في الدورة الأولى التي انتهت بمفاجأة مدوية: لم يحصل جوسبان على عدد كاف من الأصوات يؤهله خوض المعركة في الدورة الثانية التي تأهل لها الرئيس المرشح شيراك في وجه زعيم الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة جان ــ ماري لوبان.
    لا يشعر الرئيس شيراك بالفخر لأنه حصد 82 في المئة من الأصوات في هذه الانتخابات، وهو الرقم الأعلى في التاريخ الفرنسي. فقد حاز على أقل من عشرين في المئة في الدورة الأولى، ثم إن الجميع بمن فيهم ألد أعدائه السياسيين، استنفروا للتصويت له في الدورة الثانية فقط لقطع طريق الإليزيه أمام اليمين المتطرف. لقد تحقق لشيراك وقتها، وبالعين المجردة، كم أنه فشل في وعده الانتخابي، عام 1995، بالقضاء على ظاهرة اليمين المتطرف.
    اشترك الرئيس اليميني شيراك مع سلفه اليساري ميتران في أمور كثيرة. كان لديهما إرادة صلبة للدفاع عن البناء الأوروبي. ميتران ساهم في صياغة معاهدة ماستريخت، وشيراك في تطبيقها وتحقيق إنجازاتها وأهمها اليورو. دافع الرجلان بشراسة عن دور فرنسا في حماية حقوق الإنسان ودعم بلدان العالم ـــ الثالث وعن حضورها العالمي والأوروبي وعن العلاقة الفريدة مع الجار الألماني. وحتى في الشأنين الاقتصادي والاجتماعي لم تقف الأيديولوجيا حائلاً دون ممارسة السياسات نفسها أحياناً والتعلق نفسه بـ«النموذج الاجتماعي الفرنسي» في وجه العولمة الليبيرالية المتنامية. وعانى الرجلان من فضائح الفساد في عهديهما، لكن يبدو أن الفرنسيين يرون إلى النظام على أنه مسؤول عن الفساد لا الأشخاص بمن فيهم رؤساء الجمهورية. والرجلان وعدا بمكافحة التفاوت الطبقي والشرخ الاجتماعي وصعود اليمين المتطرف وفشلا في تحقيق الوعد.
    وإذا كانت المساكنة مع رئيس الوزراء جوسبان قد حدّت من قدرته على تحقيق ما يبتغيه في الداخل، إلا أنها لم تحدّ من قدراته على ممارسة السياسة الخارجية المنوطة بالرئيس بحسب الدستور الفرنسي. في هذا المضمار لمع نجم الرئيس شيراك مناهضاً لصدام الحضارات والحرب على العراق والأحادية الأميركية، حاملاً لواء التعددية ـــ القطبية والدفاع عن البيئة والتقارب ما بين الشمال والجنوب والتقدم التكنولوجي للصالح الإنساني العام وأوروبا القوية الموحدة وقيم الجمهورية الفرنسية. في البوسنة والهرسك وكوسوفو كان دوره أساسياً في وقف المجازر الإثنية، وساهم في التأثير على كلينتون قبل أن يقنع الرئيس بوش الابن (في قمم إيرلندا وسي ـــ آيلند واسطنبول في يونيو/ حزيران 2004) بالتخلي عن الأحادية، ولو ظاهرياً، بعد فشله في العراق. ومنذ عام 1995 كان الرئيس الذي فهم قبل الجميع أن تقدم الأمن الجماعي بالقوة المعطاة للحق أضحت، بالنسبة للبشرية، مسألة حياة أو موت.
    كان عام 2005 الأسوأ في حياته على الإطلاق. في 14 فبراير/ شباط فقد صديقه العزيز رفيق الحريري اغتيالاً، بطريقة بشعة في بيروت. بعدها أجبر وزير الاقتصاد الموالي له إيرفيه غيمار على الاستقالة تحت وطأة فضيحة مالية. ثم أصيب بجلطة دماغية فتحت تكهنات في الساحة العامة عن إمكان استمراره في الحكم. وفي نهاية مايو/ أيار حلّت كارثة الاستفتاء السلبي على الدستور الأوروبي المشترك، الأمر الذي أضعف من مكانة شيراك في فرنسا، وهذه الأخيرة في الاتحاد الأوروبي، وهذا الأخير في العالم. لقد أخذ على شيراك تهوره وعرضه الدستور المشترك على الاستفتاء الشعبي قبل تأكده من اقتناع الشعب به. ثم جاءت انتفاضة الضواحي رداً على وصف وزير الداخلية ساركوزي لسكانها بالحثالة والأوباش لتنهي عاماً سيئاً تخطت نسبة البطالة فيه عتبة العشرة في المئة بعد أن كان شيراك قد وعد بمكافحتها. العام 2006 حمل بعض الآمال، إذ إن رئيس الوزراء الشاب الجديد دومينيك دوفيلبان كان قد لمع في العالم وزيراً للخارجية، ما يجعله خليفة محتملاً للرئيس شيراك إذا نجح في تحقيق الوعد بخفض البطالة. لكن فضيحة «كليرستريم»، التي مثل بسببها دوفيلبان بصفة شاهد أمام القضاء حيث حاول زج اسم خصمه وزير الداخلية ساركوزي، أضعفته قبل أن يفشل في فرض قانون «عقد التوظيف الأول» الذي وقفت في وجهه النقابات، فأضربت عن العمل وحشدت التظاهرات الصاخبة. فشل دوفيلبان واستفاد ساركوزي من فشله فبات المرشح اليميني الأقوى لخلافة رئيسه اللدود شيراك.
    في كل الأحوال، ترك شيراك بصمات قوية في الساحتين الداخلية والخارجية وهو يرحل مع شعور ببعض المرارة على الأرجح، لكنها صفحة تاريخية تطوى معه ليس فقط بالنسبة لفرنسا وأوروبا ولكن بالنسبة إلى العلاقات الدولية المعاصرة. مع شيراك تطوى مرحلة الرئيس ـــ الملك في فرنسا لأن من يخلفه سيكون مضطراً، بسبب من صغر سنه وقلة خبرته، ليكون أكثر حرصاً على إرضاء الرأي العام، وقد تنتهي معه الجمهورية الخامسة. ذلك أن الانتقال إلى السادسة احتلّ حيّزاً واسعاً في النقاش خلال المعركة الانتخابية الحالية.
    * كاتب لبناني




    هل شارفت الجمهوريّة الخامسة على الزوال؟

  • قاسم عزّ الدين *

    فرنسا هي الدولة الوحيدة التي عرفت ثورة اجتماعية في أوروبا، أعقبتها ثلاثة ملاحق للثورة والتغيير السياسي. هي الوحيدة في أوروبا التي أعدمت ثورتها الملك على وقع نشيد «المارسييز»: «إلى السلام أيها المواطنون». أنشأت دولة راديكالية من غير مساومة مع الكنيسة ورجال الدين، فبناها اليعاقبة على أسس الدولة الحيادية في «الحرية والإخاء والمساواة»، وعنها أخذت الدول الأوروبية الأخرى الدولة الحديثة. فالدولة الحيادية الفرنسية قامت على دور من شقين يكمل أحدهما الآخر: 1 ـــ إنجاز استراتيجيات لتحقيق «الأمن والسلام» في الخارج (الستاتيكو). 2 ـــ إنجاز آليات لتحقيق الاستقرار الاجتماعي والسياسي في الداخل.
    استندت دولة الجمهورية الفرنسية إلى عاملين لتحقيق الاستقرار الاجتماعي والسياسي في الداخل: 1 ـــ علمانية الدولة الحيادية التي أتاحت الحريات الفردية والحريات السياسية وحقوق الإنسان وحرية المعتقدات الدينية والفكرية، وكل ذلك هو الجانب الليبيرالي من الدولة، إنما في إطار دور الدولة في التوافق الوطني. فالليبيرالية هي جانب الحريات من دور الدولة الحيادي العلماني ولا تختصر دور الدولة في إرساء آليات تتعدى الحريات وتتعدى الحوار الذهني في الأديان والمعتقدات. فالآليات العلمانية في فرنسا هي: أ ـــ التعليم العام (مقابل التعليم الخاص والكنسي) الذي يغذي الدولة بالقدرة على إنتاج الثروة الوطنية، والتبادل مع الدول الكبرى، إنما يوفر للمواطن القدرة على ممارسة حق المواطن في حق العمل والمشاركة الاقتصادية والسياسية. ب ـــ خدمة العلم وهي تؤمن للدولة قدرة ممارسة قرار الحرب والسلم في تقاسم النفوذ والتوسع. ج ـــ الضريبة المباشرة (وليس الجزية الدينية أو الجزية النيوليبيرالية غير المباشرة) وهي التي تجعل من دافعي الضرائب أرباب عمل لرجال الدولة الحيادية. والعامل الثاني هو التوازن بين سلطة الدولة بكل مؤسساتها، وبين سلطة موازية لها خارج الحكم. وهي تتألف من الأحزاب والنقابات والروابط المهنية، وإنما أيضاً من التيارات الفكرية والروحية والإعلامية وجمعيات المجتمع المدني. فالمواطنون يفوّضون رجال الحكم لإدارة سياسات الدولة عبر صناديق الاقتراع على برامج السياسات، إنما لا يعطي هذا التفويض حق خرق التوافق الوطني أو الإخلال بدور الدولة، كما لا يحصر السياسات في مؤسسات الدولة، بل هو عملية إجرائية مشروطة، تتيح لقوى السلطة المعنوية في خارج الحكم أن تتدخل في كل مرة تجنح فيها سلطة الدولة نحو التسلط. وقد تدخل هذه السلطة المعنوية في فرنسا لتقويم سلطة الدولة وتفرض عليها التراجع عن السياسات أو الاستفتاء أو المساكنة، أو العودة إلى صناديق الاقتراع، كما فرضت أحياناً تعديل الدستور والانتقال من جمهورية إلى أخرى.
    صمدت مجمل هذه الأسس الجمهورية طوال المراحل التاريخية السابقة، وتكيفت الدولة مع المتغيرات الكونية ومع اختلاف موازين القوى الاجتماعية في الداخل، فتمايلت سياسات الدولة مرة إلى اليمين ومرة إلى اليسار، لكنها لم تتخطّ الضفاف الجمهورية إلا لماماً. وتعاقبت الجمهوريات في النظام السياسي حتى الجمهورية الخامسة وقد شارفت على الزوال. بيد أن الانتخابات الرئاسية الحالية دلت على أن التحولات النيوليبيرالية الكونية قد تمكنت من الأسس الجمهورية وشارفت على إطاحة دور الدولة. فهي حصيلة متغيرات كبرى في التخلي عن سيادة الدولة للمفوضية الأوروبية التي تقرر السياسات الاقتصادية والاجتماعية في أوروبا، وهي تقررها لمصلحة حرية السوق وحرية رأس المال الكبير. أفقدت هذه السياسة دور الدولة في إخضاع الاقتصاد للسياسة الاجتماعية، وعطّلت دور الدولة في تنظيم الحواجز أمام تهميش القطاعات الأضعف، بل أدخلت الدولة في آليات التراجع عن الديموقراطية وعن الحقوق المكتسبة، وفي تنظيم عملية تهميش الفئات الاجتماعية المتضررة من زحف رأس المال الكبير في السوفالآليات التي قامت عليها الدولة العلمانية المحايدة (دولة العدل والحقوق قد تعطلت بإقرار سياسات نقيضة. بات التعليم العام في طريقه إلى الانشقاق بين تعليم خاص بالمهمّشين وبين تعليم الأقلية القادرة على المنافسة في سوق التجارة الحرة واحتكار الشركات المتعددة الجنسيات. باتت خدمة العلم احترافاً عسكرياً مرتبطاً باحتياجات شركات التسلح والنفط والاستثمار الخارجي، وكذلك المحافظة على «الأمن والاستقرار» (الستاتيكو). أما الضريبة المباشرة فقد أصبحت معدّة لنفقات الدولة في الإدارة والأمن ولم تعد آلية في دور الدولة لإعادة توزيع الثروة الوطنية، والاستثمار في المرافق العامة والخدمات الاجتماعية، فباتت هذه الحقوق الطبيعية حقل استثمار للشركات الكبرى. لم تعد الدولة تحمي حق العمل والمواطنة بل باتت تحمي حرية الإقصاء الاجتماعي والسياسي. بات المواطن بلا حقوق طبيعية ومكتسبة في تقرير سياسات الدولة بل مستهلكاً وزبوناً. فما زال يمكنه أن يدلي بصوته في صناديق الاقتراع، إنما لاختيار رجال حكم يديرون سياسات مسبقة تقررها مصالح الفئات الأقوى في حرية المنافسة. وما زال المهمّشون ينعمون «بصمامات أمان»، إنما على شكل حسنات وصدقات خارج حق المشاركة بالعملية الإنتاجية وإنتاج الثروة الوطنية. وهي صمامات أمان خوف انفجار الاستقرار الاجتماعي (المسألة الأمنية).
    عكست الحملة الانتخابية الرئاسية هذه المتغيرات الكبرى في دور الدولة الجمهوري. لم يقدم المرشحون الأقوياء برامج سياسية على غرار الحملات الانتخابية الفرنسية السابقة، انما روّجوا فضائل أشخاصهم في وسائل الإعلام على غرار الحملة الانتخابية الأميركية، دعوا الناخبين إلى الاختيار بين حصان ومهر في حفلة سباق الخيل، وكان حشد الجمهور مهولاً في يوم ربيعي مشمس، خاطبوا المستهلكين بزيادة القدرة الشرائية ولم يخاطبوا المواطنين في إقرار السياسات. ووعدوا المسنّين والعجائز بالأمن ورجال الشرطة، فلبّوا الدعوة مطمئنين. روّجت الحملة الرئاسية لأول مرة في فرنسا التفويض الانتخابي إمضاء على بياض، وقد تلقفها «الخبراء» في نشر الثقافة الديموقراطية الجديدة فأعطوها مصطلح «المشاركة في الديموقراطية الانتخابية» وأقروا واقعاً جديداً في استهلاك المواطن للسياسة. وكما هي الحملة الرئاسية حصيلة متغيرات كبرى في دور الدولة الجمهوري، فإنها حصيلة متغيرات كبرى أيضاً في دور السلطة المعنوية الموازية لسلطة الدولة. فالنقابات والأحزاب والروابط المهنية فقدت تأثيرها وفعاليتها في توازن السلطات بين الحكم والقوى الاجتماعية. باتت أجهزة ماكينات تساهم إلى جانب أجهزة الدولة في إدارة أزمة التحولات، فلا الحزب الديغولي عاد جمهورياً ولا الحزب الاشتراكي عاد يسار الوسط ولا الحزب الشيوعي بقي حزباً. باتت الأحزاب مجرد مؤسسات كبيرة أو صغيرة تتشابك فيها المصالح الخاصة وصراعات النفوذ. وباتت النقابات مجرد هيئات احتجاجية خجولة. لم تستطع أحزاب اليسار توظيف التفويض الاجتماعي العظيم في رفض الدستور الأوروبي النيوليبيرالي وفي رفض التعاقد الوظيفي، ولم ترتق بمشروع موحد بديل للنيوليبيرالية إنما فضل كل منها 1% في صناديق الاقتراع وهي اللعبة التي تحفظ أجهزتها. أثبتت مرة أخرى عدم مسؤوليتها في احترام التفويض الاجتماعي وتركت السباق مفتوحاً لأحصنة النيوليبيرالية، ففي هذا السباق لم يتقدم ساركوزي بلا مقدمات، إنما تقدم على حكام دور الدولة الجمهوري وعلى حكام الأحزاب والسلطة الموازية لسلطة الدولة خارج الحكم. إنه رجل مرحلة الحكام الأقل شعوراً بالأزمة بين النيوليبيراليين الآخرين، فهو اليانكي الأبيض الأكثر انبهاراً بتراكم رأس المال الكبير، الأكثر التصاقاً بشركات التسلح وشركات النفط وحرية الاستثمار، الأكثر جرأة في طبخ الدسائس في سبيل الربح، والأكثر إعداداً في توظيف الإثارة والخوف. هو تلميذ نجيب في فلسفة «المحافظين الجدد» ومحارب شعبوي في قمع الحركات الاحتجاجية، ولا يتورع عن شيء في الربح والمنافسة، فهو لم يقل بعد إنه يتلقى الإلهام من السماء، لكنه قال شيئاً مشابهاً. وخاطب كل الغرائز، ولا يخفي وعيده بالشوفينية والتعصب الديني. فهل تستطيع فرنسا أن تتحمل يانكي على رأس ما بقي من دولة اليعاقبة؟ الدلائل تشير إلى ذلك، لكن فرنسا ما زالت ميزان حرارة الكون في التناقضات الاجتماعية والسياسية، ولا ريب أنها لن تترك لساركوزي حرية اليدين. ولعلها لا تترك له التلذذ بحلم ظلّ هاجسه منذ المراهقة.
    * كاتب لبناني مقيم في فرنسا