خورشيد دلي *
مع تسلم عبد الله غول رئاسة الجمهورية بعد معركة شاقة مع القوى العلمانية، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية، دخلت تركيا مرحلة جديدة تبدو بداياتها صعبة جداً على غول، نظراً إلى خلفيته الإسلامية. ولعل من سوء حظ غول ان تسلمه لمنصبه في القصر الرئاسي جاء قبل يوم واحد فقط من مناسبة عيد النصر التي يحضرها عادة كبار القادة مع زوجاتهم، وهو ما يعني أن أول معركة لغول بعد تسلمه منصبه قد تنشب بسبب حجاب زوجته. ولعلّ على هذا المشهد يتوقّف الكثير من المؤشرات المستقبلية إلى طبيعة علاقة أو تعامل الجيش مع غول، نظراً إلى ما لهذه المسألة من حساسية خاصة في تركيا. فهي لا تعبّر فقط عن مجموعة من القضايا الحياتية والسلوكية المتعلقة بحرية المعتقدات، أي مسائل ارتداء الحجاب وإطلاق اللحى ومدارس تعليم القرآن... إلخ، بل هي مسائل في غاية الحساسية والأهمية لطرفي الصراع، إذ إنها تتعلق بنظرتين مختلفتين للدولة والمجتمع والدين. وعليه، فإنّ السؤال الذي يطرحه المراقبون إزاء ما يجري في تركيا هو هل سيكسر غول قاعدة «حاضر يا أفندم»؟ تلك القاعدة الشهيرة التي تعبّر عن الولاء المطلق للجيش وأوامره باعتباره يجسد أتاتورك، حتى وهو في القبر!
تبدو أوراق غول قوية من دون شك. فقد وصل إلى الرئاسة بدعامتين أساسيتين، الأولى: التفويض الشعبي القوي له بعد الفوز الكبير لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات التشريعية المبكرة. والثانية: اللعبة الديموقراطية من داخل البرلمان عندما نجح في إقناع أحزاب المعارضة، باستثناء حزب الشعب الجمهوري برئاسة دنييز بايكال، بحضور جلسات الانتخاب، وهو الأمر الذي منع تكرار السيناريو السابق، أي اللجوء إلى المحكمة الدستورية العليا التي تُعدّ من أهم معاقل العلمانية في تركيا.
وعلى أرضية العاملَيْن السابقين، بدا حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان وكأنه يستحوذ على المزيد من القوة والثقة في وجه الجيش. فجاءت تصريحات أردوغان التي كانت بمثابة إنذار للجيش عندما طالبه قبل أيّام بالبقاء بعيداً من السياسة، وكذلك حديثه المتواصل عن مرحلة جديدة في حياة تركيا وهو الأمر الذي بعث من جديد النقاش بشأن فكرة «الجمهورية الثانية» التي دار حولها في التسعينيات المزيد من السجالات التي تتلخّص في الانتقال من دولة التسلّط في عهد الجيش إلى الديموقراطية والمصالحة مع الهوية.
استبق الجيش المرحلة الجديدة بالإعلان أنّ الأمّة التركية مهدّدة بالخطر، وبالتحذير من «بؤر الشرّ التي لها خطط سرية»، وبالتذكير بأن دوره التاريخي هو حماية النظام العلماني في البلاد. ومع أنّ الجيش لم يحدّد من هو المقصود بتصريحاته هذه، كما كانت الحال في السابق، إلا أنّ الجميع يعرف أنّ تصريحاته استبقت وصول غول إلى الرئاسة، الأمر الذي شكّل مؤشّراً إلى أنّ الجيش لن يكون مرناً في التعامل مع غول وسيحرص على المحافظة على قاعدة «حاضر يا أفندم» في إطار دوره وموقعه التاريخي في مجمل أوجه الحياة في تركيا.
في الواقع، يمكن القول إنّ أحد تداعيات الانتخابات الرئاسية التركية هو خروج الصراع الخفيّ بين الإسلام السياسي والجيش إلى العلن، وهو تجدّد يشير إلى أنه لا العلمانية التي هي الأيديولوجيا الرسمية للدولة التركية استطاعت من خلال دساتيرها وقوانينها وإصلاحاتها السياسية أن تنهي القطيعة السياسية مع الإسلام الذي يشكل الهوية الحضارية للشعب التركي، ولا التيار الإسلامي نجح حتى الآن في تحقيق تسوية مع العلمانية لتحقّق تركيا مصالحة تاريخية طال انتظارها بين الدولة ـــــ الأيديولوجيا والمجتمع ـــــ الهوية والانتماء. وهو صراع شهد مدى العقود الماضية مراحلَ مختلفة تفاوتت بين ديموقراطية كادت أن تؤدّي إلى تحقيق تسوية تاريخية، كما في مرحلة الرئيس عدنان مندريس (1950 ــــ 1960)، ومراحل أخرى إقصائيّة في أعقاب الانقلابات العسكرية الثلاثة التي شهدتها تركيا في أعوام (1960 ــــ 1971 ـــــ 1980).
ولا تكمن خطورة هذا الصراع في استمراره بالوسائل السلمية ووفقاً لقواعد اللعبة الديموقراطية التي سنّتها التجربة العلمانية التركية نفسها، بل في الخوف من عودة الجيش إلى عادته القديمة، أي القيام بانقلاب عسكري كلما ظهرت في الأفق عودة الإسلام السياسي إلى صدارة المشهد السياسي التركي.
مع تسلّم حزب العدالة والتنمية الرئاسات الثلاث: الجمهورية والبرلمان والحكومة، تبدو تركيا أمام مرحلة جديدة. ويبدو أنّ «العدالة والتنمية» يريد تدشين هذه المرحلة بدستور جديد يحقّق مجموعة من الأهداف يمكن تلخيصها بما يلي:
1ـــــ التخلّص من آثار الدستور الذي وضعه الجيش عقب انقلاب عام 1980 والذي كرّس قاعدة: الجيش يحمي الدستور والدستور يحمي الجيش.
2ـــــ إقرار حرية ارتداء الحجاب في المؤسسات التعليمية من مدارس ومعاهد وجامعات، وإعادة الاعتبار للسلوكيات الإسلامية التي تعرّضت للإقصاء والتهميش بحجة مناقضتها للعلمانية، وهو ما يعني الإقلاع عن سياسة نزع الإسلام من نفوس الأتراك وهويتهم.
3ـــــ الاعتراف التدريجي بهوية القوميات غير التركية وحقوقها الثقافية، كالأكراد والأرمن والعرب، بما يحقق المزيد من المصالحة والتعايش في الداخل التركي، وتكريس ذلك وفق أسس قانونية ودستورية بعيداً عن حصر الأمور بالعنصر التركي وتلك القاعدة الشهيرة التي تقول «كل من في تركيا تركي... وأنا سعيد لأني تركي»، وهو ما يعني أن هاتين الحقيقتين (الإسلام والتعدد القومي) اللتين أنكرتهما الأتاتوركية وغيّبتهما لمصلحتها، شكّلتا على الدوام ثغرتين عميقتين في التجربة العلمانية في تركيا وأنّ المرحلة المقبلة قد تكون فرصة ذهبية لمعالجة هذا الخلل.
4ـــــ إعادة النظر في العديد من آليات الحكم، وخاصة في ما يتعلّق بمراجعة أحكام الجيش ووضع القضاء وصلاحيات الرئيس وحصانة النواب، أي باختصار البحث عن آلية جديدة لإدارة مؤسسات البلاد، إدارة تطلق العنان لإصلاحات حزب العدالة والتنمية وتطلعه إلى العضوية الأوروبية.
من دون شك، يبدو عبد الله غول في قصر تشانقايا أكثر من رئيس جمهورية، وهو أقرب إلى أتاتورك جديد، لكن من نوع آخر.
* كاتب سوري