لا شك أنّ «داعش» نجح في الحرب النفسية التي فرضها على أقرانه قبل خصومه، فهو استفاد من البيئة المحضّرة سابقاً من قبل تنظيمات أخرى. رفع جرعة الطائفية، متسلحاً بسلاح متطور يغري الشباب، وطوّع تطور تقنيات الصورة وأساليب التوليف لصالحه. جذور الظهور الاعلامي «القاعدي» كان لأبي مصعب الزرقاوي... بأسلوب غير آبه بجودة الصورة ولكن مرتكزاً إلى صوت جهوري عريض يهدد من خلاله ويتوعد، هدفه الإخافة بالصوت من دون الالتفات الى تأثير الصورة حينها. أسلوب «الهواة» هذا لم ينسحب مع تطور «القاعدة» وصولاً الى يومنا هذا.
فالمولود الجديد الذي أُطلق عليه لاحقاً اسم «الدولة الاسلامية في العراق والشام»، كبر وبدأ عمله بهدوء. الحرب الكلاسيكية والهجينة في آن التي يخوضها هذا التنظيم، تدفع المراقب لتجزئتها لكي يحل عقدها.
فـ«الفجوات» الفقهية التي استفاد منها «داعش» للعب على الوتر الطائفي للشباب والقوة التي استفاد منها في السيطرة الميدانية المؤقتة على بعض البقع، جعل المتطرفين الموالين للقاعدة وملحقاتها يعيشون نشوة تأسيس نواة ارخبيل لدولة مزعومة لا تقف حدودها عند الموصل بل منتشرة على كامل البسيطة. بعض هذه المقدمات كانت إحدى مسارات التحشيد والاستقطاب لدى فئة عمرية محددة عند هذه الجماعات.
المسار الأخطر الذي اتُبع لتكملة الجمع تحت الراية السوداء، هو الدعاية الاعلامية لاستكمال عملية الخلخلة النفسية واخضاعها للقنوط والاحباط. وذلك لكي يتم التركيز على الهزيمة الداخلية للاعداء المفترضين، حتى وإن كان هناك اخفاق أو هزيمة أو تراجع أو تقدم في الميدان. فالتركيز على هذا الأسلوب كان صلب الهدف، انطلاقاً من فكرة أنه عند تحقيق الانتصار العسكري يستكمل بالنصر المعنوي. النصر الذي لا يتحقق إلا بهذا الارهاب البصري والنفسي.
حاولت العديد من الحكومات والكيانات في مختلف المناطق الأوروبية ودول الصراع مع إسرائيل أن تواجه وتحدّ من الآلة الدعائية لـ«داعش»، لكنها حتى اللحظة لم تنجح. فرغم الجهود المبذولة لمكافحة الدعاية، هي تفتقر إلى أهداف سياسية واضحة ومبنية على مسارات بعيدة. في السابق تم انشاء العديد من البرامج السرية والعلنية من قبل دول لمحاربة دعاية وانتشار «القاعدة»، أما مع «داعش» فلا توجد هذه البرامج وان ظهرت بشكل خجول، تكون على مستوى أفراد أو مجموعات صغيرة قدرة تأثيرها محدودة. لعل التقرير المفصّل الذي أعدّه الباحث البريطاني تشارلي وينتر تحت عنوان «الخلافة الافتراضية... فهم استراتيجية الدعاية لدى داعش» والذي استغرق فيه 12 شهراً، هو الوحيد حتى الآن رغم مرور أشهر على نشره، والذي عرض فيه أن مشكلة «داعش» هي مشكلة سياسيّة وعقائدية ذات بعد اعلامي.
مواجهة «داعش» اليوم تتم بالطرق الكلاسيكية البعيدة عن الابداع، فإنزال الهزيمة بالميدان ليس كذلك بالميادين الاخرى. فعلى سبيل المثال، «داعش» مُنيَ بالهزيمة النكراء في حوالى مئة وعشرين نقطة اشتباك في سوريا. لم يتم استغلال هذا التعثر وهذه الهزائم، لأن الداعاية المضادة لم تنجز بنيتها بعد. «داعش» قتل عام 2014 اكثر من 1000 شخص من عشيرة الشعيطات في دير الزور... لم يتم استغلال هذه الحادثة، بالحد الأدنى كصافرة انذار للاستنفار. أخطر ما في مشروع «الدولة» هو تأهيل الأطفال بمناهج تخدم أفكارهم المحددة مسبقاً. مناهج هي أخطر ما سيكون يوماً على الاجيال المتعاقبة، عملية التجذير للشجرة التي تأسس للمدى البعيد هو خطر على كل الطوائف والأماكن في العالم وما جرى مؤخراً في فرنسا وبعدها في أميركا ليس إلا إنذار بسيط لما سيحمل القادم من الايام والمحطات. وهي إشارة الى «أننا» موجودون في كل الاماكن، وليس هناك مساحات صعبة او ملاعب جديدة.

كيف نواجه؟
المطلوب مضاعفة الجهود في مواجهة الماكينة الإعلامية والفكرية والسياسية التي يتمتع فيها «داعش» وأخواته. يجب الاستعانة بمن يمثلون الفكر المعتدل دينياً، والمبدعين الكترونياً واعلامياً. المضادات الحيوية أصبحت ضرورة في مواجهة حرب الافكار وحرب الابهار البصري والفن الابداعي في القتل والتوثيق. «داعش» فكرة نشأت من ثغرة وكبرت. نستطيع أن نبحث عن ثغرة هذا السرطان الذي يتمدد في أمتنا وبقاعنا... فهي لن تكون أقوى من التتار والمغول وحتماً نحن لسنا اضعف من المماليك.
* صحافية لبنانية