"يموت الطّاغية فينتهي حكمه، أمّا موت الشهيد فهو بداية عهده" ــــ سورن كيركِغارد
سمير القنطار شهيداً: الحساب المفتوح | قضى سمير القنطار أكثر عمره على أرض فلسطين، واستشهد وهو يسعى اليها. انخرط رأساً في المعركة بعد خروجه من المعتقل (والأسر لدى العدو هو في ذاته معركة، يظهر فيها معدن الإنسان وجوهره وتُصقل شخصيته)، وهذه لم تكن المحاولة الاسرائيلية الأولى لاغتياله، اذ إنّ مهمّته، وهذا لم يعد سرّاً، كانت تنظيم المقاومة السورية على الحدود مع فلسطين.
كما كان متوقّعاً، وهو نتيجة سياسةٍ محسوبة ستزداد وضوحاً مع الزّمن، بدأ الإعلام الخليجي بالتحريض ضدّ الشهيد منذ اللحظات الأولى، حين وصفته "الجزيرة"، مثلاً، هو ورفاقه من قادة المقاومة في الجولان، بـ "قادة ميليشيات"؛ لتومىء الى جمهورها الذي ربّته ــــ هي وأمثالها على مدى سنوات ــــ للإحتفال بموت الشهداء، والتكبير على وقع الغارات الاسرائيلية. وحتى يخرج علينا، من تركيا ومن قطر، من يريد أن يحدّد لنا مفهوم المقاومة ضدّ اسرائيل ومن يستحقّ شرف الشهادة (أو، بشكلٍ موازٍ، من يمارس "التذاكي" في الشماتة، وينسجها عبر نظريات مضحكة أو السؤال عن "اس-400"). على الرّغم من أنّ نضال القنطار، وعمله في سوريا، كان محصوراً في المقاومة ضدّ اسرائيل واحتلالها لأرضنا، وكان من الممكن عزله عن الصراع الداخلي في سوريا، الّا أنّ أعداء الشهيد أصرّوا على أن يثبتوا لنا أنّ وهم الفصل بين الحرب معهم والحرب ضدّ الصهاينة قد زال، وأنّ أكثرهم اتساقاً مع نفسه هو من صار يجهر بالتماهي مع اسرائيل، ويشكرها حين تقتل المقاومين، ويتعلّم بعض الكلمات العبرية لممالأة أسياده الجدد.
هذه الأصوات ليست حكراً على بلدٍ أو ميدان، بل هي موجودة بنسخٍ مختلفة في كلّ مكان من أوطاننا الممزّقة، حتى صارت كـ "الحلف الموضوعي": اليمنيّون الذين يستقوون على إخوانهم بالغارات السعودية ومقاتلي "بلاك ووتر"، السوريون الذين تديرهم المخابرات الأميركية، العراقيّون الذين باعوا أنفسهم لأعدائهم... هم، في المحصلة، ليسوا الجناة الأصليين ولا هم هدف الإنتقام، فالسعودية لا تقصف اليمن بإذنهم، ولا اميركا تحرّك جيوشها من أجلهم، واسرائيل لا تغتال المقاومين خدمةً لهم؛ بل إنّ دورهم ينحصر، كما اليوم، في التهليل لأفعال غيرهم، وأن يكونوا وقوداً لحربه، وأن يدفعوا ــــ حين ينتهي كلّ شيء ــــ الثّمن.
"الانتصار الأزلي للإستعمار" هو تعبيرٌ استخدمه جوزف مسعد، للكلام عن الإستعمار حين يستوطن ذاكرتنا، ويرسم حدودنا، ويستمرّ فينا حتى حين نتوهّم انّه قد خرج من أرضنا. وهناك، اليوم، من يزرع ذاكرته بدروس الاستعمار ويوجد ــــ مقابله ــــ من يزرعها بالشهداء والمواقع مع العدوّ. علّمتنا الحرب الأهلية في لبنان، وما تبعها، أنّ ليس كلّ من سمّي شهيداً سواء، وأنّ ليس كلّ من مات في الحرب شهيد. بعضهم يضيع في النسيان ما أن ينقطع التمويل ــــ أو الحاجة ــــ لرفع صوره والدعاية له، والبعض الآخر تغيب ذكراه مع الزّمن حين ينساه أهله ومحبّوه أو يرحلون. الخلاف على من يقبله الله شهيداً لا يمكن حسمه في عالمنا، الّا أنّ تاريخ الشعوب ينتقي مع الزمن شهداء ويكرّسهم، في صنفٍ من الشهادة لا نقرره نحن، بل هو في رسم المستقبل ومن سيأتي بعدنا: حين تنظر الأمم الى ماضيها والأجيال التي سبقتها ومعاركها المصيرية، ستفهم أنّ كوكبةً من الناس قد قدّمت ــــ عن وعي ومعرفة ــــ التّضحية العظمى لكي يصير لنا تحريرٌ واستقلال، وأطفالٌ يكبرون في أمان، وأنّهم أفضل منّا جميعا. لهذا يولد الشهيد ويصبح أسطورة، ويبقى ذكره ما بقيت الأمّة، وهنا معنى الخلود.
حين يطلق اليهود المتديّنون لعنةً ضدّ شخصٍ ما، استثنائيّ في شرّه، فهم لا يصلّون لأن تضربه النوائب والكوارث الفظيعة (والتراث التلمودي ثريّ في هذا الإطار)، بل يدعون ببساطة لأن "يُمحى اسمه" ويغيب ذكره عن صفحات التاريخ. طيف الشهيد سمير القنطار، وانتصاره الدائم والمستمرّ، هو في المقاومة التي أطلقها ووضع أسسها، والتي ستقوى وتمتدّ لتصبح جبهةً تصل لبنان بسوريا وفلسطين، وسيرى أهلها وجهه (كما سيراه عدوّه) مع كلّ عملية وضربةٍ وتحرير. في المقابل، لن يتذكر أحدٌ أسماء أعداء الشهيد الذين يصخبون اليوم، عملاء اسرائيل وحلفائها العرب، وستدفن ذكراهم وتذوي، سواء في منفىً أوروبي ذليل أم في قبر. كما أنّه لا يهين المرء الّا نفسه، فالخروج من التاريخ خيار؛ هم اختاروا مكانهم هذا واستحقّوه، فباتوا بلا شرفٍ ولا شهداء.