يشهد لبنان موجة من التحركات المتتالية كتعبير عن ضغط اجتماعي وسياسي وثقافي يعتمل في جسد بقايا الوطن اللبناني المنهك. وبالمناسبة ستنطلق، أو ربما انطلقت، المقالات والدراسات والمنشورات لتأتي بعدها المؤتمرات وورش العمل الممولة من جهات متعددة، وجميعها سيحاول قراءة حراك الشارع اللبناني والتأثير فيه.
في البدء لا بد من تأكيد أن شرارة الحراك عفوية وجاءت كردة فعل طبيعية من مواطنين أنهكتهم فترات طويلة من الفساد المنظم والممنهج على مر عقود من التركيبة اللبنانية. هذا إذا لم نعد بالدرس والتمحيص الى اللحظات الأولى لولادة الكيان في عهد القائمقامية والمتصرفية ولبنان الكبير وصيغة الــ 43 واتفاق الطائف والدوحة، وما بينهم وخلالهم من نفوذ للقوى الأجنبية لا بل معظم أمم الأرض.
ويأتي الحراك في لحظة تحوّل كبير في المنطقة من حول لبنان، وبالمناسبة لم يكن لبنان بأي لحظة خارج تحولات المحيط، ليتطابق تحول الخارج مع أزمات الداخل، وتتفاعل البنيات الاجتماعية في مخاض عسى أن يبقى ضمن الأطر التي رأيناها.

الحراك، أو أي حراك آخر، بحاجة
الى منهجية عمل متقدمة


وربما في هذه اللحظة كأننا على شفير السؤال عن كل المنظومة التي قامت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وسيادة الليبرالية المتوحشة في معظم دول العالم وأولها لبنان. وهذه الأسئلة جاءت على خلفية الكوارث المتعددة التي تركتها هذه الليبرالية على ارض الواقع، فهل يمكن السؤال عن بيئة وقوانين وحريات وفقر وسيادة بعد اجتياح رؤوس الأموال وحيتان النهب كل القطاعات.
وهنا يحضرنا السؤال الأهم في واقع اليوم، ونحن تحت رحمة منظومة مرعبة تحكم بلداً مثل لبنان، وهي: هل يمكن مواجهة هذه العصابة بمجموعة تحركات شكلية؟ هل يمكن مواجهة عتاة الصيغة اللبنانية بمجموعة من الهواة او المتطوعين؟ هل يمكن فصل المسارات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية في مثل هكذا حراك؟ كيف يمكن مواجهة الواقع بمجموعة عناوين وشعارات فضفاضة مع من تمكن من صياغة القوانين والمشاريع وكل التركيبات بما تقتضيه حالة استمراريته وديمومته في الحكم والتسلط؟
وهنا لا بد أن نلاحظ الكثير من الايجابيات والسلبيات التي يمكن أن نضعها في النقاط التالية:
من حيث الشكل:
1- عودة النبض الى الشارع بروح شبابية وعصرية.
2-سيادة مصطلحات وعبارات جديدة، وان كانت مشتقة من قاموس الزمن السابق من قبيل طبقة، فساد، عدالة اجتماعية.
3- شعور عام بأن القرار للناس والشارع أمر ممكن.
4- فرض أمر واقع جديد كما في مناقصات النفايات أو أماكن طمرها.
5- عودة المصطلحات الوطنية العامة على حساب السائد منها في المذهبية والطائفية.
6- التجرؤ على أماكن ورموز فساد عديدة.
7- بروز شخصيات ورموز وطنية شبابية تطرح قضايا الناس بعدما كنا في الأيام القليلة الماضية مع رموز العنف والتطرف وميليشيات الزواريب والفتاوى وقبضايات القتل المجاني على طرقات وشوارع مدننا وقرانا.
8- نزع القدسية جزئياً عن أملاك عامة صادرتها عصابات السرقة كما «زيتونة باي» او «الدالية» والى حدٍ ما وسط بيروت حيث الــ»النهبة الكبرى».
9- صدمة الرأي العام وتخويف الطبقة السياسية او بالأصح شكلت لها «نقزة» صغيرة أنه من الممكن أن تهب الناس للمحاسبة يوماً.
10- إعادة القضايا الانسانية والمعيشية الى واجهة الحياة العامة بعدما حولها ملوك الطوائف والتشبيح ونهب الدولة الى صراعات دينية ومذهبية وحروب شوارع واستنزاف قدرات الشباب في حروب لا طائل منها.
11- سقوط شعارات (أو خفوت) مثل «الطائفة بخطر» عند كل الفرقاء (مبدئياً)، وسيادة عناوين جامعة.
12- مساهمة الاعلام الى حدٍ ما في فضح الكثير من الملفات ما ساعد في تأجيج المواجهة وضبط خروقات السلطات الأمنية وتحجيمها.
13- عودة الملفات البيئية الى الواجهة كأولوية في حياة الناس عامةً وربط الخاص بالعام، وبالتالي دمج التصرفات الفردية الخاصة بأزمات المجتمع عامةً.
14- تعددية الجمعيات والحركات تحت عناوين شتى ما يسهم في إغناء الحراك وتطوره.
15- كشف الحراك بشكل جدي فراغ أدوات السلطة وأحزابها اذا ما واجهت كوادر ذات طاقة وتحمل مشاريع بديلة.
الا أن هذه العناوين ورغم أهميتها تبقى قاصرة عن مواجهة أسئلة أكثر عمقاً وأخطر على مستقبل الحراك والناس والوطن، ويمكن تعداد مجموعة نقاط تشكل مواطن ضعف:
1- غياب الرؤية الواضحة عند كل التجمعات.
2- الهروب من المواجهة الحقيقية في كثير من الأمكنة، تحت هاجس فرط الحراك.
3- الإكثار من الاستعراض على حساب المضمون.
4- عدم طرح القضايا الحقيقية بشكل علمي والاعتماد كليةً على شعارات فضفاضة وعناوين غير ذات قيمة على أرض الواقع.
5- لا يجوز التلطي خلف شعارات البعد عن السياسة كي لا نتحدث عن الملفات الاساسية، فكل الملفات سياسية وحياتية وضرورية.
6- كيف يمكن مواجهة سلطة متجذرة منذ عقود طويلة وتمتلك كل أدوات اللعب بشعارات واهية وشباب هواة.
7- لا يمكن للحراك أن يستكمل مشروعه دون الوضوح في القضايا الكبرى وعلى رأسها المقاومة والموقف من المشاريع الإقليمية.
8- لا يمكن للحراك أن ينجح دون مواجهة مشاريع الخصخصة ووصفات البنك الدولي التي دمرت بنية الاقتصاد الوطني.
9- يجب التوجه أكثر فأكثر نحو الأرياف والمناطق اللبنانية كافة والخروج من مركزية بيروت، وهذه المناطق يجب أن تؤسس لمرحلة جديدة تكون هي خزان التعبئة والتحشيد تحت شعارات مطلبية وحياتية في بوتقة وطنية وأن لا تبقى الرافد الأساسي لنزعات السلطة وأحزابها، والأرض مناسبة تماماً اليوم في ظل الفراغ الحزبي والتعبوي وثقل التمييز المناطقي والطبقي مع هذه السلطة الحاكمة.
10- الخروج من ترهات الحركات الاعتراضية من قبيل الاضراب عن الطعام، لأنها تثقل كاهل الحراك ولا توجع السلطة.
11- يتوجب على الحراك أن يطرح بدائل أو فلنفترض أن يحاول درس الحلول البديلة حتى يكسب ثقة الجمهور وليس التعامل مع القضايا بالرفض فقط كما حصل في الخطة التي قام بها وزير الزراعة أكرم شهيب مثلاً وهو قد استند الى تقرير من خبراء، فالقضايا لا تحتمل ترف الرفض من أجل الرفض فقط.
12- رغم صعوبة البحث بالإيديولوجية راهناً ولكن كل مشروع تغييري بحاجة الى مستند علمي وبحثي وأن لا تترك الأمور على عواهنها.
13- ماذا عن قضايا كبرى مثل الكهرباء والمياه والنقل والزراعة والصناعة الوطنية والتنمية المستدامة ومستقبل البلاد في ظل هذا التدمير الذي أصاب كل البنية التحتية، لا تستأهل عصفاً فكرياً في خلق البدائل والعمل على تحقيقها؟
من هنا وفي معرض البحث عن أسباب الحدث ومآله، لا بد من العودة قليلاً الى كثير من الأدبيات التنموية في لبنان والعالم التي يمكن الاستفادة منها. وهذا ليس كلاماً في معرض الذم أو القدح بالحراك بقدر ما هو محاولة للبناء على ما أُنجز، فقد كانت هناك محطات مهمة في التاريخ الوطني من الإنجازات التي حققتها الحركة المطلبية وليس أقلها الجامعة اللبنانية والضمان الاجتماعي وكثير من المشاريع التنموية الأخرى.
لكن على المقلب الآخر هناك الكثير من المشاريع التي أضحت قاب قوسين من النصر أحبطتها هذه السلطة الحاكمة واستطاعت أن تقتل أي انجاز يهدد مصالحها، ولا بد من التنبه الى أن السلطة الحاكمة فعلياً هي التي تختبئ خلف الاحتكارات من الأدوية الى النفط والمواد الغذائية والتجارة مع الخارج وأصحاب الوكالات الحصرية والاقطاع المالي والسياسي، هذا عدا عن الدعم الخارجي المفتوح بكل ارتباطاته واحتمالاته بالإضافة الى الغطاء الديني والمذهبي بشخوصه ومؤسساته وزواريبه الخفية. وعطفاً على ما سبق، الحراك، أو أي حراك آخر، بحاجة الى منهجية عمل متقدمة، تدرس مكامن الضعف والقوة لدى الطغمة الحاكمة، وتعمل على فتح ثغرات في حائطها.
المسألة بالغة التعقيد، لكن ليس على الارادة من مستحيل، اليوم أحوج ما نكون الى محترفين في السياسة والعمل الميداني للمواجهة وترك سياسة الهواة للمترفين ومحبي النوع.
* صحافي لبناني