الانشغال، إلى حد الهوس أحياناً، بآلة التدمير التكفيرية وحليفتها الأميركية وتوابعهما، وتقاطع مصالحهما في تخريب المنطقة ودفع مجتمعاتها الى مزيد من الانهيار، وتحويل هذه الآلة إلى هاجس، تبدأ عنده، وتنتهي إليه كل الأزمات، يحرف النظر أحياناً عن عمق التحولات، وعن الأنفاق الاحتياطية والموازية التي تحفرها واشنطن في المنطقة.
فإلى جانب دعم التيار السلفي الإرهابي، يعمل الأميركي على البديلين، العرقي والقبلي العشائري، ويغذيهما لضمان قطع الطريق نهائياً على أي محاولة محلية لوضع منهج بديل يتجاوز تقسيمات سايكس ـ بيكو، ويضع نهاية للتبعية الشاملة للغرب. الجماعات الإرهابية والعشائر أداتان فعالتان في الاستراتيجية الأميركية، فسلطة التطرف الديني الإلغائي، والعصبية القبلية، أكثر عمقاً وقوة من العوامل الاقتصادية والسياسية وأقوى من التنافس الإنساني الطبيعي. وساعد عبث «الدولة» العربية وأجهزتها بتناقضاتهما، في تجذيرهما وتحويلهما إلى مرجعية أصيلة هي الأكثر أهلية للثقة.
خلال الحرب الباردة، تقاسمت العالم أربع قوى، هي الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، والاتحاد السوفياتي، وحركات التحرر الوطني. وكانت السياسات والتحالفات ترسم وتتشكل في المنطقة، على وقع تنافس هذه القوى، وعلى سخونة حروبها بالوكالة، وبرودة حروبها المباشرة. وبسقوط المنظومة الاشتراكية، واضمحلال حركات التحرر الوطني، وتحول أوروبا الغربية إلى تابع ضعيف للولايات المتحدة، دخل العالم مرحلة القطب الواحد واستتباع الدول وتحويلها إلى أسواق ومناطق نفوذ، فتراجع اليسار ولجأت الغالبية العظمى من القوميين العرب إلى هوياتها الطائفية والمذهبية والعشائرية. ومع ظهور بوادر سقوط نظام معاهدة وستفاليا الذي يحكم العالم منذ أكثر من ثلاثة قرون ونصف القرن، تشكلت في منطقة الشرق الأوسط ثلاث قوى سياسية أساسية جديدة خارج أطر الدول والحكومات، أو في موازاتها، وهي:
1ــ قوى المقاومة التي تدعو إلى الاعتماد على الذات في إطار استراتيجية مستقلة في مواجهة الإرهاب ومشروع الحلف الأميركي، كمدخل ضروري لوقف انحدار المنطقة نحو مزيد من الخراب، تمهيداً لإعادة بنائها، بالتنسيق والتعاون مع قوى دولية تتقاطع معها في المصالح وفي مصادر التهديد.

لإفراغ المنطقة من أي
طاقة، عملت واشنطن على
تفعيل العنصر القبلي

2ــ في المقابل عمل الحلف الأميركي على تغذية وتشكيل جماعات «سلفية» تبنت فكراً تكفيرياً مغرقاً في التطرف، اعتمد الإرهاب والقتل والهيمنة المطلقة وسيلة لإعادة «الخلافة» وبناء «الدولة الإسلامية».
3ـ لإفراغ المنطقة من أي طاقة يمكن استخدامها في مواجهتها، عملت واشنطن على تفعيل العنصر القبلي. فجاذبية القبيلة ما زالت خاصة وقوية في جُل المجتمعات العربية، وهي تشكل، بعد انهيار «الدولة الوطنية»، بديلاً يمكن الاحتماء به والركون إليه. ولا يمكن لأي «سلطة» عربية أن تستقر ما لم تحظى بدعمها وتأييدها.
نجاح الأميركي في حرف الصراع في المنطقة بعيداً من المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتحويله إلى صراع وجودي بين مكوناتها، أغلق الباب، مرحلياً، على أي محاولة لبناء دولة، أو الوصول إلى عقد اجتماعي جديد تنتجه مجتمعاتنا بالتجربة والتراكم التاريخي، والتطور الطبيعي للجماعات.
رابطتا الأرض والدم، هما الأساس في تشكيل هوية القبيلة، التي بقيت بعيدة نسبياً عن جوهر الصراع، لكنها فشلت في تفادي الوقوع في أتونه. فأرضها جزء أساسي من جغرافيا المعركة، وأبناؤها جزء مهم من وقودها. وأصبحت العشيرة وتيارات التكفير، الأداتين الأكثر أهمية وخطورة في استراتيجية واشنطن في مواجهة محور المقاومة، وفي ضمان عدم استقرار الدول والمجتمعات، بتناقضهما حيناً، وبتحالفهما ضد «الدولة» أحياناً، فيضمن الفراغُ، الذي يتركه انهيار «الدولة الوطنية»، فتح الطريق أمام عودة النظام القبلي وفرض «الدول» المذهبية والعرقية، بهوياتها ومسلكياتها وأعرافها.
لدى سقوط نظام صدام حسين في العراق عام 2003، باشر الأميركي بول بريمر بتدمير البنى الأساسية للبلاد وعلى رأسها الجيش، وأزال كل ملمح للدولة. وهو، للمفارقة، عُيِّنَ رئيساً للإدارة المدنية للإشراف على إعادة بناء العراق! جريمة بريمر تركت فراغاً هائلاً، مكّن الجماعات الإرهابية من ملء حيّز كبير منه، وحاول الأميركيون استخدامها، لكن، ما إن بدت تهديداً محتملاً لمشروعهم، حتى استعانوا بالعشائر (الصحوات). كل ذلك بالتوازي مع تجاهل الدولة، بل منعوا قيامها، واشتغلوا في العراق على التأسيس لنموذج «الدولة» الذي يعملون على تعميمه في المنطقة.
في ليبيا، فتح الباب لجماعات «السلفية الجهادية» لإسقاط نظام القذافي، بدعم من حلف الأطلسي والإمارات وقطر. وحين أبدت هذه الجماعات نزوعاً للتفلت، كانت القبائل أداة جاهزة لمواجهتها، ولاستكمال عناصر الصراع الضرورية للتقسيم.
الجزائر التي عانت من حرب التكفيريين في تسعينيات القرن الماضي، تسعى اليوم إلى بناء جدار أمني على حدودها مع ليبيا لمنع تسلل الجماعات المسلحة إلى أراضيها. ويوطد الجيش علاقاته بالقبائل في غرب ليبيا ويمولها، لتكون خط دفاعه الأول في مواجهة «القاعدة» و«داعش».
وعندما تعثرت الدولة المصرية في مواجهة التكفيريين في سيناء، تنازلت عن جزء من دورها لـ«حلف قبائل سيناء» الذي أنشئ برعاية مباشرة من الجيش والدولة.
السودان، بعد تقسيمه الى دولتين على أساس طائفي (شمال مسلم وجنوب مسيحي)، يواجه مشروعاً تقسيمياً جديداً على أساس عرقي في إقليم دارفور في الغرب. والصراع بين قبيلة المسيرية العربية (موالية للشمال) وبين قبيلة «دينكا نغوك» (تابعة للجنوب)، حول الماء والمراعي ومنطقة أبيي الغنية بالنفط، قد يفضي إلى دولة رابعة في السودان التاريخي.
تتقدم حركة أنصار الله في اليمن حاملة مشروع دولة وطنية، فتُجَنّد جماعات التكفير وبعض القبائل لكسر مشروعها. وأقصى المسموح به في اليمن، إقليمان، شمالي شيعي، وجنوبي سني. وأحد أبرز موازين القوة بين السعودية واليمن، هو الامتداد المذهبي والقبلي اليمني داخل المملكة، تقابله قوى تكفيرية وقبلية موالية للسعودية.
الدولة في الخليج تقوم على تحالف العائلات والعشائر والقبائل والمؤسسة الدينية.
وللعشائر في سوريا دور واضح في الصراع، حيث ينال «داعش» و«النصرة» ولاء معظمها، مثل البريج والعجيل والبوجابر والبوبنة وخفاجة والعقيدات والبقارة، وغيرها، في الرقة وحلب ودير الزور. وأُعلِنَت في الأردن مؤخراً برامج لتدريب أبناء العشائر السورية لمواجهة «داعش» والنظام معاً، بمباركة أميركية، ورعاية تركية وقطرية وسعودية. فضلاً عن محاولة تلميع جبهة النصرة، المصنفة إرهابية.
التناقض الجوهري بين القبيلة وجماعات التكفير، يعطي الأميركي وحلفاءه، هامشاً واسعاً للسيطرة عليهما، وكسر إحداهما بالأخرى. فكلاهما يحظى بمواقع متقدمة عسكرياً وسياسياً واجتماعياً. لكن القبيلة التي يسهل وسم كيانها بالتخلف، تبقى أقل تخلفاً من المذهبية، وأفضل مآلاً وأقل وحشية من المشروع الأميركي. وهي تحفظ بنى اجتماعية مهمة تحول دون الوقوع في الفوضى وسلطة العصابات. فالقبيلة، رغم عصبيتها، حريصة على المجتمع، وتشكل جزءاً أساسياً من مذاهبه وطوائفه. في المقابل تسعى تيارات التكفير إلى الفوضى والقتل ونسف الأسس التي تقوم عليها الدول والمجتمعات. ورابطة الأرض تأتي على رأس قائمة المقدسات في العرف القبلي. أما في «شريعة» الجماعات فالأرض هي لله ولا حرمة لحدودها. ولا تعلو على رابطة الدم، لدى القبيلة، رابطة، فيما تضعها السلفية التكفيرية، في تفسيرها السطحي للنص الإسلامي، في مصاف الخروج عن الإيمان والتقوى.
الأميركيون لا يفاضلون بين القبائل وجماعات التكفير. هم يستخدمون الجانبين ويدعمونهما لإقامة توازن قوة مع الحكومات وحركات المقاومة، فهم يرون في الجميع طوائف ومذاهب. وعلى رغم أن التوازن أمر غير ممكن التحقق، بل هو مستحيل، إلا أنه وسيلة يصر الأميركي على استخدامها للدفع نحو الفراغ الاستراتيجي والانهيار الذي يمثل ساحة الإرهاب المثالية، وشريان الحياة للمصالح الأميركية.
جماعات التكفير أسرع انفعالاً، وأكثر قدرة على التدمير، وأقل اكتراثاً بالكوارث التي يخلفها تمزيق النسيج المجتمعي. لكن مشروعها يتناقض في أهدافه النهائية مع المشروع الأميركي، وهي ترفض الحوار والتسويات والشراكة ولا تقبل بالآخر، لا فكراً ولا ثقافة، ولا حتى اجتهاداً داخل المذهب التكفيري نفسه. أما القبيلة، وعلى رغم قابليتها للتبعية والاستقطاب والتسويات، قد تستعصي على التدجين بسبب قدسية الأرض بالنسبة إليها، والأرض هي ساحة المواجهة المحتملة مع المشروع الأميركي، إلا أن واشنطن تعول على «ثالوثها المقدس» لفك العقدة. وعناصر هذا الثالوث هي: السوق العالمية الحرة، والتجارة العالمية الحرة، والاستثمار الأجنبي المباشر. وأهم عوامل الاستثمار الأجنبي هو الأرض، مصادرتها واستملاكها وإفراغها من سكانها لاستغلالها. الغرب يبحث عن النفط والمناجم والزراعة وطرق المواصلات والنقل. الشركات الكبرى تستحوذ على الأرض والثروة، لتقدم في المقابل، الطاقة والغذاء والدواء والمعلومات والخدمات، لكن بشروطها، وضمن المسموح، وفي نطاق ما هو مطلوب لخدمة مصالحها وحمايتها.
الشركات الكبرى تجذب أصحاب الأرض وأبناء القبائل إلى المدن، بحثاً عن أحلام تصنعها الآلة الإعلامية، أو تدفع بهم إلى الضواحي الفقيرة، حيث تعيد إنتاج التطرف والتعصب الديني والمذهبي والطبقي، وتثير الاضطرابات وتعمق الخلافات والتناقضات. والمفارقة أن «المواطنين»، وبدل أن يقاوموا المشروع الأميركي، يصطدمون بحكوماتهم، ويحملونها مسؤولية الفوضى والبؤس، ما يتيح لواشنطن وحلفائها التدخل كمنقذ لتجديد النفوذ وتعزيز المصالح. وفي كل الأحوال، تتحول القبيلة وتيارات التكفير والضحايا، إلى مجموعة «مواطنين» عبيد للشركات الكبرى، وأفراد مستهلكين غير منتجين، أسرى «للمواطنة» التي لا تعدو كونها شعاراً لا وجود له في الواقع.
* صحافي لبناني