بديهي أنّ درء الأخطار ووقف التحلل الاجتماعي وتجنّب الهزائم التي يعيشها العالم العربي تقتضي بداية وعياً لها ولمسبباتها ولمضارها، وتقتضي تقديراً دقيقاً للقوى الفاعلة والمسيّرة لها، وفهماً صحيحاً للمصالح التي تحرّك هذه القوى ولجميع نقاط القوة والضعف لديها، أكانت هذه القوى داخليّة أم خارجية. لكنّ وعي المخاطر وفهم الدوافع والتقدير الدقيق لمخططات القوى الفاعلة وأهدافها لا تكتسب أهمية إلا بقدر ما توظف هذه الجهود لحشد الطاقات وتنظيمها وتفعيلها بنحو دؤوب لدرء المخاطر ودفع الأضرار وتجنّب الهزائم.
فلو نظرنا الى حال الإنسان العربي وسلوكه إزاء ما يعاني من تخلّف وتفكّك اجتماعي يتفاقم باطّراد، فضلاً عن الدمار والهزائم التي يعاني آثارها، ولو نظرنا على وجه التحديد إلى تعامل النخب العربية مع ما يجري في مجتمعاتها، لجهة وعيها لمسؤولياتها وفهمها لأهمّية الربط بين الجهد والنتيجة أقلّه لبلوغ أهمّ الأهداف وأكثرها إلحاحاً، أي النزعة الطبيعية في الإنسان للبقاء، لوجدنا صعوبة في أيجاد النعوت والعبارات الملائمة خارج أنها مجتمعات تأبى الحياة. وكأنما العازر العربي يأبى النهوض لأنّه يعاني شهوة الموت، كما عبّر الشاعر خليل حاوي رحمه الله. أتعمّد التركيز على النخب لأنّها مقياس الحيوية لدى الشعوب. فهي في الشعوب الحيّة من يضع قواعد السلوك الاجتماعي والسياسي ويشرحها. وهي من يراقب تقيّد الحاكم والمسؤول بهذه القواعد. وهي من عليه اكتشاف العلل التي تعاني منها مجتمعاتها واقتراح العلاج الملائم لها. وهي من عليه أن يتولّى توعية الشعب لما يحدق به من أخطار، فضلاً عن حشد طاقاته وتنظيمها وتفعيلها لدرئها، والعمل على ما فيه مصلحة عامة. فالنخب العربية مغيّبة، وإلى حدّ بعيدٍ بإرادتها، عن القيام بدورها الطبيعي. ويظهر هذا الغياب، أو هذه الغيبوبة، بجلاء في الظروف العصيبة التي تمرّ بها المجتمعات العربية والأدلّة على ذلك عديدة. لا يبدي المجتمع العربي ونخبه ردود فعل طبيعيةً تجاه أكثر الأمور هولاً، كانتشار القتل والتنكيل والعودة إلى السبي والرقّ وتشويه الدين وأغلى المعتقدات. وكذلك حروب العدوان مهما بلغت من التوحش والعنف، حتّى لو طال العنف الأطفال والمرضى والشيوخ وغابت عمّا يرتكب الفاعل جميع قواعد السلوك الإنساني وما تأمر به قوانين السماء والأرض.

الجهود على الساحة العربية تكاد تنحصر في القوى الحاكمة التي تجهد للحفاظ على مصالحها

ترى المجتمعات العربية ونخبها أنّ الدين هو من مكوناتها الثقافية الأساسيّة ومصدر أعزّ قيمها ومعتقداتها، ولكنّها تراه يُشوّه ويُسخّر لتنمية غرائز بدائية تتحدى العقل، وتُفعّل لتمزيق النسيج الاجتماعي فيها. وتقابل ذلك كلّه إما بالصمت المطبق أو بتصريحات خجولة معتبرة أنّ ما يجري لا يمثّل الإسلام على حقيقته، لكنّها تترك لأدوات التشويه والتدمير الحريّة في رسم صورة للإسلام لا يستطيع المؤرخ وعالم الاجتماع والمراقب الموضوعي تجاهلها في تكوين قناعة عن ماهيّة الإسلام وعن نضج معتقديه وحيويتهم.
ولعلّ من أكثر الأدلّة إيلاماً على غيبوبة الإنسان العربي هو موت حسّه بالجمال وبالحرص على التراث والحفاظ على الذات التاريخيّة وهو من أهمّ مكونات الموروث الحضاري. فلا نراه يعير اهتماماً لتدمير المدن الأثريّة وما تضمنته المتاحف من تحف جماليّة، ولا يبدي حراكاً يدلّ على شعوره بضرورة الدفاع عن هذه الذات التاريخية، وكأنّه قد فك كل ارتباط له بالحسّ السليم وبالقيم والمبادئ التي هي أساس تماسك مجتمعه ومقوّمات تطوّره، فأصبح يراقب ببلادة أو حتّى يغمض عينيه عن أدوات الهدم والدمار التي تدمر مجتمعه وتفتك بقيمه وحريته وتراثه وكل ما يضمن استمراره أو تطوره بين المجتمعات الحيّة.
القدرات الفكريّة المتوافرة، التي تبدي اهتماماً بالشأن العام قد نرى عملها في دراسات أو كتب، تظهر بين الحين والآخر، وتتناول توصيفاً دقيقاً لواقع العالم العربي والأزمات التي تحلّ ببعض أقطاره. وقد نقرأ أو نسمع شرحاً مقنعاً لوجود أزمات ومخاطر تهدّد المجتمع بأسره، بمن فيه الكاتب أو المتحدّث، لكنّ الجهد يتوقف عند هذا الحدّ. فتعاظم المخاطر والتهديدات، عوض أن يدفع الى العمل الفوري على درئها، يحمل النخب العربية على توصيف مصالح القوى الفاعلة وتحليلها، وتسترسل في شرح مخططاتها وتقويم مدى نجاح هذه القوى في بلوغ أهدافها، وذلك ليس بهدف وضع الخطط ورصّ الصفوف وتفعيل الطاقات لدرء هذه المخاطر وتفشيل خطط الأعداء وكل من يعمل لغير مصلحة المجتمع، في الداخل أو من الخارج، بل على العكس من ذلك، فهي تجهد في تعظيم العقبات وخلق المبررات لتجنّب المسؤولية عن أيّ نشاط أو عمل من شأنه أن يدفع عنها الأخطار.
ففي العلل التي ينسبها إلى قوى خارجيّة، نرى المثقف العربي يسترسل ويبدي ما استطاع من براعة وبيان في شرح الأدلّة على دورها، ويجهد في تحليل الصراع والمصالح والخطط التي تعتمدها هذه القوى. وتتوقف جهوده عند هذا الحدّ، معتبراً أنّه حقّق من النضال ما يمكن تحقيقه وكأنّ مشيئة القوى الخارجية فينا قدر لا يمكن ردّه.
أمّا المخاطر والأضرار التي مصدرها داخلي، والتي تستغلّها ببراعة القوى الخارجيّة لتنمية الهويّات والانتماءات الفرعية وتفعيلها، كالطائفية والمذهبيّة والقبليّة وسواها ممّا يضمن تفكّك النسيج الاجتماعي ويذهب بوحدة المجتمع ومناعته، ومهما كانت المخاطر والأضرار الناتجة منها، فتبقى بمنأى عن أي جهد جدّي في مقاومتها والقضاء عليها. وتتوقف الجهود عند محاولة فهم أسباب ظهورها دون التطرّق إلى بذل الجهود وحشد الطاقات وتنظيم القدرات وتحفيزها لتقويم مخاطرها والعمل الدؤوب على إضعافها والقضاء على مخاطرها على المجتمع.
قوى الدمار التي تدفع إلى التفكك المجتمعي وتلحق بالمجتمعات العربية الوهن والهزائم في الزمن الذي نعيش، لم تعد في الغالب قوىً وجيوشاً خارجية تصعب أو تسهل مواجهتها أو مقاومتها. بل هي قوى وغرائز كامنة في الذات العربية تدفع المجتمع نحو التدمير الذاتي، وكأنّما العدوّ قد نجح في عمليّة تنويم مغناطيسي بحيث أصبح المجتمع بلا وعي ولا إرادة ولا قدرة حتّى على مقاومة عمليّة التدمير الذاتي.
صحيح أنّ هناك قوى خارجيّة تبذل جهوداً وتنفق أموالاً طائلة في دراسة صناعة الفتن في المجتمعات العربية وتعمل على التعمّق في فهم الغرائز والدوافع وفعالية الأضاليل الإعلامية التي تحرّك الإنسان العربي، إلّا أن هذه القوى أضحت تعيش حالة دهشة وذهول لفعالية السلاح الذي اكتشفت في دفع العربي إلى التدمير الذاتي وعجزه عن إبطال فعالية هذا السلاح. والواقع أنّ انعدام مظاهر الحيوية، لا بل الحياة، لدى العربي في وعيه للمخاطر التي تتهدّد وجوده وسلوكه تدعو إلى الذهول. أمام هذا الدمار المتفاقم والتحلل الاجتماعي وحالة الإحباط والبلادة الفكرية التي يعيشها الشعب، وبخاصة النخب، في معظم المجتمعات العربية إن لم يكن في جميعها، هناك سؤال يفرض طرحه هو: ما العمل وما الوسيلة للخروج من حالة الشلل واليأس التي ترافق حالة الدمار والفوضى الأمنية والسياسية التي يعيشها العالم العربي؟ إن العلاج الفعّال يفترض تشخيصاً دقيقاً للعلّة وأسبابها ومعرفة يقينية بفعالية العلاج في حالات مماثلة سابقة.
في اعتقادي أنّ مكمن العلّة وأهمّ أسباب التخلّف والتفكك الاجتماعي والهزائم، وبالتالي حالة الإحباط التي يعيشها العالم العربي، هو جهل لقيمة أساسية غائبة عن الثقافة السياسية العربية، أي اقتناع المواطن، وبخاصة النخب العربية، بأنّ عليها يقع، وبشكل أساسي، عبء حلّ الإشكاليّات ومواجهة التحديات التي تعترضها والتغلّب عليها، وأن يترسّخ لديها وعي عميق لأهمّية الربط بين الجهد والنتيجة لتحقيق أي هدف تسعى إليه. ليس باستطاعتي التشديد ما فيه الكفاية على أهمّية إدخال هذه القيمة كجزء أساسي من مادة التربية المدنية وسواها من وسائل النشر الثقافي لتصبح في صلب الثقاقة السياسية العربية. فهي من أهمّ المعايير التي تميّز المجتمعات المتطوّرة عن المجتمعات المتخلّفة.
الجهود الفاعلة على الساحة العربية تكاد تنحصر بالقوى الحاكمة التي يقتصر جهدها على ما من شأنه الحفاظ على مصالحها وامتيازاتها، متوسلة في ذلك الفساد والقمع في معظم الأحيان. كذلك بمنظمات تستظل بالدين، وفي غالبيّتها تعمل، عن وعي أو دونه، على تفكيك الروابط الاجتماعية، وذلك على الصعيد الوطني المحلّي وعلى القضاء على الخطاب والروابط القوميّة. بينما ليس هناك نشاط فكري أو تنظيمي للنخب العربية له تأثير يُذكر في الحياة العامة وبخاصة مواجهة العواصف السياسية والأمنية التي تجتاح المجتمعات العربية وتعمل على تدمير الحجر والبشر فيها. وما نقرأ ونسمع ونشاهد من عمل هذه النخب لا يعدو كونه شكوى من الأمر الواقع واسترسالاً في تضخيم طاقات القوى الفاعلة والعقبات التي تعترضها، ومؤدّى ذلك كلّه بوعي أو بغير وعي، إيجاد المبررات لعدم التصدّي لها. ولنتناول بعض الأمثلة من حقائق على الأرض.
فلو أخذنا مثالاً أمّ التحديّات العربية: مسألة احتلال إسرائيل لفلسطين وتشريد شعبها وقمعه وارتكاب أبشع الجرائم بحقه، أضف إلى ذلك أنّها تمكنت من هزيمة جيوش عربيّة للدول المحيطة بها وإذلالها، ولا تزال تجهد لخلق الظروف التي تمكنها من بسط سيطرتها على معظم الشرق الأوسط، وبخاصة الدول العربية فيه.
أنا لا أجهل القدرات الهائلة التي تتمتّع بها إسرائيل، إن على الصعيد المحلّي أو الدولي، لكنّ جميع هذه القدرات هي نتيجة الجهود واستغلال الطاقات المادية والفكرية التي كانت في حوزة أصحاب الحلم الصهيوني ومن سار في خطاهم. وقد تمكنوا بفضل هذه الجهود من تحويل الحلم الصهيوني إلى واقع، ومن تحويل الواقع العربي إلى كابوس يتعاظم، وذلك أيضاً بفضل الخمول والجهل وعدم ثقة الإنسان العربي بنفسه وعدم وعيه لمسؤوليته في الدفاع عن حقوقه، وخصوصاً لغياب الربط بين الجهد والنتيجة لتحقيق كلِّ هدف عن ثقافته السياسية والاجتماعية.
ولنلق نظرة على جهود نخب وقيادات الشعب الفلسطيني الذي كان ولا يزال مركز المعاناة والمعني بالدرجة الأولى بما فعلت إسرائيل وتفعل في فلسطين. فهل من هدف لشعب احتُلّت أرضه ويعاني من التشريد والاحتلال والظلم، ولعقود طويلة، يفوق بأهميته إنهاء الاحتلال ورفع الظلم والمعاناة؟ وهل من باستطاعته الحديث عن خطّة معتمدة لتحرير فلسطين وعن مدى نجاحها في بلوغ أهدافها؟ يعبّر بعض الأصدقاء الفلسطينيين عن كبتهم وغضبهم من الخيبات والفشل في تحقيق أيٍّ من أهداف الشعب الفلسطيني وآماله بأنّ القيادات خائنة وتتعاون مع العدوّ.
لن نذهب مذهب الشعوب الحيّة في تعاملها مع الخونة من مسؤوليها ومواطنيها، ولكن إذا أثبتت هذه القيادات فشلها في استعادة حقوق شعبها وتحقيق أمانيه، فأضعف الإيمان إبعادها عن مواقع المسؤولية. فأين هي ثمار الجهود المبذولة لتحقيق ذلك؟ وإذا كان لإسرائيل مصلحة في خلق انقسام وشلل في أوساط الشعب الفلسطيني، والأمر كذلك، بهدف إضعافه وتشتيت قدراته والذهاب بمناعته، فأين هي ثمار الجهود المبذولة أقلّه لإفشال إسرائيل في بلوغ أهدافها. ولنتناول التحدّي الأكبر، وربّما الخطر الأعظم، الذي يتهدّد المجتمعات العربية وهو الفاعل الأساسي في تمزيق النسيج الاجتماعي فيها، ألا وهو نموّ الهويّات والانتماءات الطائفية والمذهبيّة وتفعيلها. الآفة التي هي أساس تقويض مؤسسات الدولة والذهاب بوحدة المجتمع وأمنه ومناعته في وجه التحدّيات الخارجيّة. وهي في آن الطريق لتشويه الدين وانتشار جرائم الإرهاب التكفيري فضلاً عن دورها الأساسي في تذكية الحروب الأهلية. ولننظر إلى كيفية مواجهة هذه العلّة، التي انتشرت كالنار في الهشيم في السنوات الأخيرة، من قبل أحد المجتمعات العربية الأكثر معاناة منها.
ربّما كان المجتمع اللبناني هو المثال الأفضل الذي يمكن اعتماده لتقويم حيويّة المجتمعات والنخب العربية وفعاليّتها في تعاطيها مع هذه الآفة التي لا ينفك خطرها يتفاقم. فلبنان اعتمد منذ استقلاله نظاماً سسياسياً قائماً على المحاصصة الطائفية، يغذّي الانتماءات والهويات الطائفية والمذهبيّة. وقد عايش لبنان مآسي الطائفية لعقود وذاق شعبه أهوال الحروب الأهلية الطائفية المنشأ وآخرها دامت خمسة عشر عاماً. ولبنان لم يعد دولة محتلّة، كما هو الحال بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني، وشعبه ونخبه لا ترزح تحت حكم فردي قمعي استبدادي. وحظ أبنائه من الحصول على العلم والتخرّج من الجامعات ودور التعليم العالي يفضل وضع وحظوظ العديد من الذين يعيشون في مجتمعات عربية أخرى. ويتمتّع اللبنانيون بحدّ لا بأس به من حرّية التعبير والتواصل الاجتماعي والسياسي وما يحلو لهم وصفه بالمناخ الديمقراطي. وبالرغم من ذلك كلّه، فقد غاب عن وعي اللبنانيين، وقدراتهم الفكرية وهممهم، ضرورة بذل الجهود اللازمة للتخلّص من النظام الطائفي وتأثيره المدمر. فلم يتمكّنوا من إنهاء المجازر والمآسي التي عانوا منها إبّان الحرب الأهلية إلا باستعادة النظام الطائفي، السبب الأساسي في حروبهم الأهلية ومآسيهم، ولكن بحلّة جديدة تضمن تفكّك المجتمع وشلّ مؤسسات الدولة وتسلُب الوطن مناعة الوحدة والقدرة على ممارسة السيادة والاستقلال.
النخب اللبنانية تعلم جيّداً، وتشكو كثيراً من مخاطر الطائفية وأضرارها. وتعلم أنّها العقبة الأساس لوحدة المجتمع، أقلّه في ما يتعلّق بالأمور والقرارات المصيرية، ولكنّها تقف عاجزة شاكية. فلبنان الآن تجتمع فيه جميع عناصر الدولة الفاشلة. مؤسساته الدستورية معطلة. السلطة التشريعية التي هي أقرب السلطات الممثلة للإرادة الشعبية، لا تستطيع التوافق على إصدار قانون لانتخاب أعضائها، فتلجأ إلى تمديد مدّة ولايتها دون موافقة شعبية، أي مدّة استمرار شللها. وهي لا تستطيع القيام بانتخاب رأس السلطة التنفيذية. فمركز رئاسة الجمهوريّة شاغر منذ ما يزيد على خمسة عشر شهراً. ومراكز موظفين كبار في الدولة بلغوا سنّ التقاعد تبقى شاغرة أو تُمدد مدّة خدمتهم بنحو يثير تساؤلات قانونية عدّة. ولعلّ من أخطر مظاهر التفكّك الاجتماعي والدولة الفاشلة أنّ خلافاً تافها على حق المرور يدفع مواطناً إلى أن يستمرّ في طعن مواطن آخر بمدية حتّى يلفظ أنفاسه، في ساحة من أشهر ساحات العاصمة على مرأى المشاهدين وعلى مقربة من مقرّ للشرطة، ولا يتدخّل أحد لوقف هذه الجريمة. وتعيش بيروت الآن أزمة تراكم تلال النفايات بشوارعها، ويعلم الله متى سيصل اللبنانيون إلى اتفاق لحلّ مسألة النفايات في العاصمة اللبنانية. وبالرغم من الحراك الشعبي القائم والمطالب المحقة بإصلاحات جذرية أصبحت حاجة وجودية لاستمرار الدولة، لا تزال السلطات القائمة تأبى القيام بمعالجة جدية للتحديات القائمة.
من يا ترى يتوقّع اللبنانيون أنّ عليه القيام باختيار نظام سياسيّ بديل للنظام الطائفي الذي أثبت فشله، نظامٍ يضمن وحدة المجتمع ومصلحته في الأمن والاستقرار ومحاربة الفساد والتغلّب على الصعاب التي تفرزها الحياة اليومية؟ يشكو اللبنانيون، جميع اللبنانيين، وبمرارة، الأوضاع القائمة. ولكنّ شكواهم لا تولِّد أهدافاً واضحة تنتظم لتحقيقها الجهود، وتُفعِّل القدرات الوطنية والفكرية والماديّة لتجاوز الصعوبات والقيام بما هو مصلحة الوطن والمواطن.
تحدّ أخير أودّ الإشارة إليه وهو واسع الانتشار وعظيم الضرر، وربما كان وراء معظم العلل التي يشكو منها العالم العربي، ألا وهو استشراء الفساد. فالفساد يعطّل كلّ جسم أو مؤسسة يطاولُها ويحرفُها عن الهدف الذي من أجله وجدت. فإذا فسد الطعام لم يعد صالحاً للأكل، وإذا فسد القضاء ذهبت العدالة وكذلك بالنسبة إلى الأمن إذا طال الفساد المؤسسات الأمنية. والفساد يقضي على الثقة بين الحاكم والمحكوم والثقة بمؤسسات الدولة. وهناك دراسات تثبت أنّ استشراء الفساد في مجتمع ما، يقضي حتى على الثقة بين المواطنين. والفساد ينمو في المجتمعات حيث يغيب حكم القانون والمساءلة الشعبية للحاكم والمسؤول. وللاقتصاد الريعي دور مهم في نمو الفساد. من هنا نرى استشراء الفساد وإساءة استعمال الثروة الوطنية في الدول الخليجية التي أساس اقتصادها النفط، والتي لا تعتمد المشاركة الشعبية في الحكم ومساءلة الحاكم والمسؤول. وهنا أودّ التوقّف قليلاً عند الفساد وتعطيل دور الإعلام في العالم العربي.
يقول توماس جفرسون، أحد كبار مفكّري الولايات المتحدة الأميركية ومؤسسيها: «لو خيّرت بين أن يكون لنا حكومة أو صحيفة مستقلّة، لاخترت الثانية دون تردد». ذلك أنّ الإعلام هو مركز التفاعل بين الحاكم والمحكوم، بين السلطة والشعب. فهو الناقل لأصحاب السلطة الرغبات والأماني والمعاناة الشعبية، وهو الرقيب والناقل للشعب ما يقوم به الحاكم والمسؤول. والإعلام هو من أهمّ مظاهر حيوية النخب في المجتمع. إذ إنّ اعتماد الصدق والمهنية في نقل المعلومة أساس في بناء المجتمع الديموقراطي وفي تكوين الرأي العام المطّلع والواثق ممّا يكوّن قناعات وأفكار. فلو نظرنا الى الإعلام العربي عموماً، والإمبراطوريات الإعلامية التي تمولها دول الخليج على وجه التحديد، ودور هذا الإعلام في إطلاع المجتمعات العربية وتثقيفها ومساعدتها في تحقيق مصالحها السياسية والأمنية والاقتصادية ومحاربة الفساد واعتماد وتطبيق قوانين تضمن حقوق الإنسان والمواطن، لتكوّنت لدينا قناعة بأنّ الإعلام في معظمه، يكاد يكون وسيلة فاعلة في عملية تعطيل بلوغ ما هو أمنيات ومصالح عربية.
فلو نظرنا الى نشاط ومدى استقلال وسائل الإعلام والفضائيات الأوسع انتشاراً في العالم العربي، كالجزيرة والعربية وسواهما، والمدينة بتمويلها وتوجيهها إلى دول خليجية هي أحوج الدول، ربما في العالم، إلى الإصلاح لجهة المشاركة الشعبية في الحكم ومراعاة حقوق الإنسان والمواطن وانتشار حكم القانون ومحاربة الفساد وسواها من ضرورات الحكم الرشيد. فهل باستطاعة أي من هذه الفضائيات ووسائل الإعلام الواسعة الانتشار والسيطرة الإعلامية مجرّد البحث في هذه المواضيع في المجتمعات والدول الممولة والراعية لها والأكثر حاجة لفاعلية عملها؟ ثم إنّ الدور الذي لعبته وتلعبه وسائل الإعلام هذه، في تشويه الواقع وتزوير الحقائق وزرع الأحقا، وإثارة المشاعر المذهبية والطائفية، وأثر كل ذلك على ما جرى ويجري من تمزيق للنسيج الاجتماعي، والفوضى الأمنية في معظم المجتمعات العربية، يعطي فكرة واضحة عن مآثر الإعلام في ما عانى العالم العربي ويعاني، وكيف توظف الثروة العربية لتدمير المجتمعات العربية والقضاء على مصالحها. وربّما كان من أخطر الأدوار التي يلعبها إعلام يتعمّد تشويه الواقع وتزوير الحقائق أو نشر الضبابية حولها، بالنسبة إلى ما نحن بصدده، هو أنّ المواطن المتلقّي للمعلومة لا يستطيع الاطمئنان إلى صحتها، فيتردّد في بناء قناعة تدفع إلى العمل. لذلك تنتشر ثقافة الخمول والغربة عن المجتمع، ويعيش المجتمع العربي ما يعانيه من صعاب وتحدّيات تقابل بالخمول والإحباط الذي نشهد. يواجه عالمنا العربي تحدّيات كبرى وصعوبات جمّة لا خيار لنا إلا في مواجهتها. وعلينا التعاطي معها بشكل عقلاني هادف وتنظيم وحشد جميع الجهود والقدرات المتاحة الفكريّة والمادية. وكذلك علينا تحفيز وتفعيل الخبرات العلمية والكفاءات الفنّية والعمل الدؤوب لبلوغ أهداف واضحة، تضمن مصلحة الإنسان العربي في الأمن والاستقرار والحياة الكريمة، وتساعد على الخروج من حالة الإحباط والتردّي التي تكتسح العالم العربي. لكنّ ذلك يتطلّب تغييراً جذرياً في النهج المتّبع. علينا الاقتناع بأن لا جدوى في الاستمرار بالشكوى ولوم الآخرين، والتوقع أنّ أحداً سوانا سوف يستعيد حقّاً لنا، أو يقوم بالتغيير الملائم لمصالحنا والمحقق لأمنياتنا. وعلينا كذلك ترسيخ الثقة بأنفسنا، وأنّ فينا طاقات لو انتظمت وفعلت لغيّرت الواقع وربما وجه التاريخ في المنطقة. ولكن علينا بالدرجة الأولى أن نعي حقيقة لا مناص منها، هي أنّ كلّ نجاح نحققه هو نتيجة الجهود التي نبذلها في سبيل ذلك ولا خيار سواه للخروج مما نحن فيه.
* أستاذ محاضر في القانون في جامعة جورجتاون