سعد الله مزرعاني *بين مشاهد ومتغيّرات أخرى، كان الاستقبال الذي نظّمته السفارة السورية في لبنان في مجمّع «البيال» يوم الاثنين الماضي، حدثًا لافتًا حتى الإدهاش! وجود سفارة سورية في لبنان، وأخرى لبنانية في سوريا، هو أمر مثير! لكنّ قدرة الطاقم السياسي القديم والجديد على تقديم «لوحات» سياسية متنوّعة، حتى أقصى التناقض، هو ما يجب التوقّف عنده، ومحاولة سبر أسبابه القريبة والبعيدة.
لا مناص، بدايةً، من أن نستحضر، مع المستحضرين، مشهدًا لا يزال، بالتأكيد حيًّا أو طازجًا في أذهان الجميع، ولأسابيع أو لشهور خلت، وهو مشهد التوتر البالغ والمنفلت من كلّ عقال، في علاقة فريق كبير في لبنان مع النظام السوري ورئيسه وأجهزة أمنه... ثم أن نستذكر التقارب السوري ـــــ السعودي، وقد فعل فِعْلَ السحر في تغيير المواقف والأمزجة والعلاقات. ويحيلنا ذلك، دون الحاجة إلى مقدّمات طويلة وتحليل وتعليل، على الخلل الجوهري المترسّخ والتفاقم في علاقة اللبنانيين مع الخارج، كلّ خارج، سواء كان عدوًّا أو حليفًا، بعيدًا أو قريبًا، شقيقًا أو صديقًا... وهي بالطبع، علاقة مع الخارج غير سليمة وغير سويّة. وسبب الخلل الرئيسي فيها أنّها تقوم، أيضًا وأساسًا، على خلل في علاقة اللبنانيين في ما بينهم. فالعلاقات الداخلية مبنيّة على التنابذ والتنافس، ومن ثمّ الصراع، فالقطيعة، فالاحتراب، فالسعي إلى طلب الدعم من الخارج أو الاستقواء به... وقد يتحوّل الأمر بسبب سيرورة العلاقات الداخلية والخارجية وتفاعلها، إلى عكس ذلك، بحيث يستجيب الداخل لتوترات الخارج ولمصالحه، أو يحاول ترجمتها في معادلة التوازنات الداخلية: كسبًا لموقع جديد أو محاولة للاحتفاظ بموقع قديم ولتعزيز هذا الموقع...
ويقود ذلك، نظريًا وعمليًا، إلى معادلة شوهاء، كثير ضررها على الوطن والمواطَنَة والمواطن على حدٍّ سواء: فالصراع الداخلي يشتدّ ويتفاقم وتستعصي بشأنه الحلول والتسويات. والوحدة الوطنية الداخلية هشّة ومهدّدة، ومعها السيادة والاستقلال بسبب انتهاكات الداخل والخارج. والاستقرار والأمن والاقتصاد في حال من الفوضى والاضطراب وصولاً إلى الاقتتال والحروب الأهلية والانهيار الاقتصادي. ودور الخارج يصبح هو الأساس في علاقة ارتهان وتبعية يؤدّيها الداخل لحساب الخارج وعلى نحو يصبح فيها الطرف اللبناني ضعيفًا وملحقًا إلى أبعد الحدود...
إنّ استقرار هذه المعادلة وترسّخها جيلاً بعد جيل هما عامل الخلل الرئيسي الذي يجب أن تتجه إليه الأبصار والمعالجات. ويجري ذلك تحديدًا وحصريًا ـــــ إذا أردنا لبلدنا أن ينهض ويستقلّ ويتحرّر ويزدهر ـــــ عبر إعادة بناء العلاقات اللبنانية ـــــ اللبنانية على أساس المساواة التامّة بين المواطنين دون تمييز طائفي أو مذهبي، وعلى أسس إقرار عدد من الثوابت الوطنية التي توفّر الحصانة والوحدة الداخلية من جهة، وتضع حدًّا، للخلل في العلاقة مع الخارج من جهة ثانية.
يستطيع المستفيدون من الانقسام والفئويون بالضرورة، أن يرفضوا هذا الاستنتاج. بل إنّ بعضهم لا يتورّع عن الدفاع الشديد عن الصيغة الطائفية اللبنانية وعن «فرادتها» وما تنطوي عليه من «معجزات» التعايش والتوادد والإنجاز!!! لكنّ إنقاذ لبنان لن يمرّ، حتمًا، إلّا عبر التخلّص من هذه الصيغة التي سخّرت الانتماء الأوّل والطبيعي والعفوي والعاطفي في خدمة فئويات لا تتوقّف أيضًا عن تغذية عوامل الانقسام والعداء، وعن النفخ في أوار العصبيات من كلّ نوع، وخصوصًا الطائفية، والمذهبية كما هو الأمر حاليًا.
إذا كان هذا هو الواقع بالنسبة إلى الخلل في علاقاتنا الداخلية (نظامنا السياسي) وما ينبني عليه من خلل في علاقاتنا الخارجية، فالأمر ينسحب أيضًا على علاقاتنا العربية، وخصوصًا منها على العلاقة مع الشقيقة سوريا. وهنا يجب أيضاً، رؤية ما تتميّز به هذه العلاقة من خصوصيات يمليها التاريخ والجغرافيا والجوار والتداخل السياسيّ والعائلي... ينبغي أن نتذكّر ما كان قائمًا من عوامل الوحدة وعناصرها بين البلدين في مراحل السيطرة العثمانية وفي مراحل الانتداب، وقبل ذلك ارتدادًا حتى الفتح العربي، وبعد ذلك امتدادًا حتى الإدارة السورية الكاملة للبلاد بعد «اتفاق الطائف» (1989) وحتى خروج القوات السورية بضغط دولي وعربي ومحلي في أواخر نيسان عام 2005.
في خلاصة غير سعيدة وغير سويّة انتهت العلاقات اللبنانية ـــــ السوريّة، ووفقًا لما أدّت إليه الاتفاقيات الأجنبية والمصالح الخاصة بكلّ من ممثّلي البورجوازيتَين اللبنانية والسورية، إلى أشكال من الحذر المتبادل: حذر لبناني حيال العروبة وعنوانها سوريا، وحيال الالتزامات العربية وعنوانها قضية الشعب الفلسطيني خصوصًا، والصراع العربي ـــــ الإسرائيلي عمومًا. ومن جهة ثانية، حذر سوري، معلن أحيانًا وغير معلن غالبًا، حيال الاستقلال اللبناني في حدوده التقليدية المعتمدة دوليًّا في العلاقات بين الدول المجاورة. ولقد أدّت تطوّرات الأحداث ومواقف الطرفين وتقلّبات السياسة اللبنانية، إلى إعاقة تبلور العلاقة ونموّها وتطوّرها على أسس صحيحة. وعمّق من ذلك خصوصاً، الانقسام اللبناني وعجز الأطراف اللبنانيين عن صيانة الوحدة الوطنية واندلاع الاقتتال بين اللبنانيين ارتباطًا بتنامي الصراع الإقليمي بدءًا من عدوان عام 1967 وحصول مجازر «أيلول الأسود» ضدّ الثورة الفلسطينية عام 1970 والغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، ثمّ اشتداد الصراع السياسي بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، والأميركي ـــــ الإسرائيلي عام 2006...
لا شكّ أنّ الانقسام اللبناني المتفاقم، مرارًا، إلى حروب أهلية دامية (بالصلة دائمًا مع صراعات وافدة عربية وإقليمية ودولية)، قد عزّز من ضعف الطرف اللبناني، وهذا الانقسام الذي مورست في خلاله بعض المحرّمات (العلاقة مع العدوّ الإسرائيلي) من جانب أطراف في معادلة الصراع اللبناني ـــــ اللبناني، قد أغرى، سياسيًا، بوضع «حدّ ما» لهذا الجموح الخطير، مرّة من جانب السلطة السورية (وقبلها المصرية)، ومرّة أخرى من جانب «السلطة» الفلسطينية، ومرّة ثالثة وبطريقة غير مباشرة، من جانب بعض «قوى الصمود» العربي أو الإسلامي. لا شكّ أنّ السلطة الأكثر أهميةً بين كلّ السلطات المذكورة، هي السلطة السورية بما هي سلطة جارة وقريبة، وبسبب تفاعل كبير ما بين البلدين والشعبين اللبناني والسوري. ولذلك استمرّ موضوع العلاقات اللبنانية ـــــ السورية مادّة خلاف مفتوح، طالما لم توضع الأسس السليمة لإقامة هذه العلاقات ولتحريرها من التوتر والصراعات والتدخلات الخارجية. ولا نضيف في هذا الصدد الكثير إلى معلومات المتابعين إذا نحن ذكرنا بأنّ النمط الذي حكم هذا الخلاف قد كان مبالغًا فيه وغير سليم في كلا الخندقين المتصارعين: خندق العداء المطلق أو خندق الولاء المطلق.
ويجب، في هذا السياق، ملاحظة أنّ ما تمخّض عنه الوضع اللبناني من ظواهر إيجابية كظاهرة المقاومة خصوصًا، لم يفعل الكثير في تغيير الخلل في العلاقة بين سوريا ولبنان، رغم أنّه قد حجب الكثير من سلبيات الانقسام اللبناني، وأكّد أيضًا الكثير من عناصر «المشروعية» و«الاستقلالية» اللبنانية. أمّا سبب ذلك، فيعود، كما أسلفنا، إلى الخلل في نظام علاقات اللبنانيين في ما بينهم، أي في نظامهم السياسي الطائفي.
لا فائدة كبيرة ستترتّب على ما يجري اليوم من تحسّن في العلاقات ما بين بعض الأطراف اللبنانيّين والقيادة السورية، أو هي، فائدة جزئية ومؤقّتة على الأرجح. ولا عجب في تهافت قوى عديدة على تحسين علاقاتها مع دمشق بعد صراع مرير ومؤذ وخطير (رغم ما رافق ذلك من امتهان وابتذال هو بعض تقاليد معظم الطاقم السياسي الحاكم). أما العلاج، فيبدأ بتصحيح العلاقات اللبنانية ـــــ اللبنانية، كخطوة وكممرّ إجباريّين لتصحيح العلاقات اللبنانية ـــــ السورية وكل علاقة للبنان وللبنانيين مع القوى الخارجية. يبقى أنّ لدمشق نصيبًا في هذا الصدد، وذلك باستبدال الحذر المشار إليه سابقًا بانفتاح مقرون بتوجّه حازم لإقامة العلاقات بين البلدين والشعبين على أفضل أسس التكافؤ والتفاعل والتعاون والتكامل.
* كاتب وسياسي لبناني