وليم نصار*(إلى جورج تامر قصابلي وعائلته ــــ عائلتي)
بيروت 14 أيلول 1982
انسحب الأحبة من بيروت وتوزعوا في مشارق الأرض ومغاربها... كم أصبحت فلسطين بعيدة. ونحن، من شب وتكوّن وعيه على حب فلسطين وفدائييها، كان علينا أن نقاوم الإحباط الذي خلّفه الأحبة الفلسطينيون بانسحابهم.
خلعنا بزّات القتال ورميناها في المزابل التي زيّنت بيروت وكانت شاهداً على حصارها... مزابل وأكوام من القمامة كانت أجمل من شارع مونو بكل زينته، وحتى رواده.
التزمنا بقرار الحزب بالنزول تحت الأرض والاختباء والعودة إلى العمل السري. الرفيق نسيم حلق ذقنه التي أصبحت أكبر من ذقن كارل ماركس... ولبس بذلة رسمية لم تكن لائقة عليه... يدور من منزل سري إلى آخر ترافقه الرفيقة كاتيا للاطمئنان على الرفاق.
الرفيق زياد صعب مقطوعة أخباره... وكذلك أخبار الرفيق أبو أنيس وباقي الرفاق القادة. هذا ما سألناه للرفيق نسيم عندما زارنا... فابتسم.
لا أحب تلك الابتسامة في أوقات الشدة، قال الرفيق فايز الذي بترت رجله في إحدى المعارك. أجاب نسيم: «يا رفاق... لن يبقوا في بيروت. اليوم القوميون قتلوا الخائن بشير الجميل... ونحنا عم نستعد لاستقبال العروس الشيوعية».
يومان بلياليهما... يومان لم ننم خلالهما... نفكر في ما قاله نسيم.
ليلة السادس عشر من أيلول مرّت علينا كالسهم، رفيقات ملثمات رمين لنا بحزمة من المناشير واختفين... لكني عرفت منهن الرفيقة فداء... من طريقة مشيتها وصدرها الذي يضج بالحياة. لم تكن تلك المناشير سوى إعلان العروس... ونداء الحزب الشيوعي اللبناني لتطهير بيروت من المحتل.
كانت العروس إعلان جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية وأمر الحزب بالتصدي بالصدور العارية للمحتل...
جمّول... لا تسامحينا
خلعنا بزّات القتال ورميناها في المزابل التي زيّنت بيروت وكانت شاهداً على حصارها
لم يسمح الرفاق العسكريون لنا بشرف الاشتراك في مهمات قتالية مباشرة مع العدو... وكانوا يستخدموننا لصغر سننا لاستكشاف الطرق والمراقبة. طلب منا الرفاق العسكريون التوجه إلى شارع فرنسا برفقة ثلاث رفيقات من نادي الرواد للتأكد مما إذا كان هناك أي وجود لدبابات العدو. شاهدنا تجمّعاً للدبابات في شارع فرنسا. لم أستطع إكمال الطريق مع الرفيقات والرفاق. ربما خوفاً من انفعالاتي التي ستهلك الرفاق حتماً، أو قرفاً من الوجوه التي سأراها... فعدت إلى ملجأ الصفر صفر. عادت الرفيقات والرفاق وأكدوا الخبر. بعد نصف ساعة سمعنا انفجار قذيفة «بي 7» وزخات كثيفة من الرصاص. علمنا أن عملية ما قد نُفذت... فتوترنا أكثر لنعرف النتائج... وشعرنا لحظتها بأن العروس هي من نفذ العملية.
لم نفكر بأن شهداء لنا قد يسقطون. كان هذا التفكير بعيداً عن عقولنا وكأننا في فيلم أميركي لا يموت فيه البطل. كل تفكيرنا كان يذهب باتجاه «لن يمروا»... وكم حشرة ستطير من دباباتهم...
لم نعرف أن عملية لجمول كانت في طريقها للتنفيذ... لم نعرف أن منفّذ العملية هو من كان يعطينا حلقات التثقيف في بيته. كان متخفياً بكوفية حمراء غطت ملامح وجهه كي يستطيع ارتداء البيريه.
الرفيق ميشال (اغتيل على يد القوى الظلامية في بيروت بعد خمس سنوات) يدخل لاهثاً إلى ملجأ الصفر صفر، مغبراً ودامعاً...
قال: «لعنّا ابو ربُّن للعكاريت... عم يسبحوا بدمُّن متل الفيران»... صمت قليلاً ثمّ قال: نفدت ذخيرتنا واستشهد الرفيق أبو تامر... لم نتمكن من الصراخ فرحاً بالعملية كي لا نثير انتباه أصحاب البناية التي فيها الملجأ... واختنقنا لعدم قدرتنا على البكاء أيضاً...
جورج تامر قصابلي... تحية لك يا أجمل عريس لأجمل عروس... عروسنا جميعاً... جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية. ولا تسامحينا أيتها العروس لأننا تركناك وحيدة تبكين كعذراء تُغتصب في حفلة اغتصاب جماعي.
العكروت أنور ياسين
في كانون الثاني 1983، طلبت من الرفيق رأفت، مسؤولي في نادي الرواد، رفع طلبي إلى الحزب للانضمام إلى جمول...
رفض الرفيق رأفت طلبي بحجة أن الرفاق يريدونني أن أنشط مع فرقة الرواد موسيقياً وغنائياً...
لم أقتنع بتبرير الرفيق فالتجأت إلى الرفيق نسيم في منزله الذي أجابني بأن جمول هي للرفاق المتمرسين حزبياً وأنا ما زلت غضاً في العمل التنظيمي... وطلب مني ألا أحضر إلى منزله لأنه معرّض للاعتقال في أي وقت...
حاولت بطرق كثيرة، عبر الرفيقة كاتيا أخت الرفيق الشهيد جورج قصابلي، وفشلت. ثم حاولت عبر الرفيق أبو السريع، وفشلت أيضاً.
لماذا اختفى أبو السريع؟ في أيلول 1987، أطلقنا احتفالات التحدي للقوى الظلامية في كل من بيروت والشمال رداً على اغتيالات الشيوعيين والعلمانيين... أطلقنا حفلاتنا في الشوارع وفي الساحات العامة. كم كانت بيروت جميلة يومها... كم كان الحزب مزهراً وجميلاً...
في الرابع عشر من أيلول، أقمنا حفلة في شارع الجامعة العربية. في تحدٍّ مباشر لأحد المراكز الظلامية في الشارع التي كانت تعتدي على الشيوعيين... كان الناس يرشّون علينا الأرز من الشرفات، وكانت الزغاريد تفقع في الجو كلما ردد الرفاق الكاظمون غيظهم أغنية «بكرا الراية حمرا»...
في تلك الحفلة كلف الرفيق نسيم أنور ياسين بالبقاء معي لحين انتهاء الحفلة والعودة بي إلى مركز الضمان... كان أنور يرفع قبضته عالياً كلما التقت عينانا ويبتسم.
كم أحبك يا أقرب من الوريد...
في السابع عشر من أيلول امتلأت بيروت بصور أنور ياسين... فذهبت إلى الضمان مساءً وطلبت مقابلة الرفيق الياس عطا الله أو الرفيق زياد صعب. قابلني الرفيق (يومها) الياس عطا الله وطلبت منه الانضمام لجمول. فابتسم وقال: «بعدك متل ما انت يا رفيق... نحنا بحاجة الك يا رفيق بالعمل الجماهيري».
قلت له: كيف تسمحون للعكروت أنور ياسين بذلك وتحرمونه علي؟
جورج السهلي
كنت قد التقيت في عام 1983 أحد القادة الفلسطينيين في سجن اليرزة عندما اعتقلتني استخبارات الجيش الفئوي وأنا أوزع منشوراً حزبياً يدعو للانتفاض على حكم العمالة والاستخبارات.
ذهبت إلى بيته وطلبت منه مساعدتي للمشاركة في عملية لهم ضد الاحتلال، فوعدني بذلك. وأرسلت إلى أحد المعسكرات التدريبية لأفاجأ بعدد من الشيوعيين اللبنانيين في هذا المعسكر ومعظمهم مثل وضعي. التجأوا لهذا التنظيم الفلسطيني ليشاركوا في عمليات عسكرية ضد المحتل بعد رفض الحزب طلباتهم.
ولسوء حظنا جميعاً اندلعت حرب المخيمات في بيروت، وأصبح الهمّ الأول للفلسطينيين هو الدفاع عن المخيمات وليس إسرائيل. وكان لنا الشرف نحن الشيوعيين اللبنانيين الذين تمردوا على حزبهم بالمشاركة في الدفاع عن المخيمات. اخترعنا يومها معادلة غريبة عجيبة كي نواسي بها أنفسنا. تفيد تلك المعادلة بأن إسرائيل تقتل الفلسطينيين، وبما أن الدفاع عن الشعب الفلسطيني واجب مقدس، فإن دفاعنا عن المخيمات الفلسطينية وفلسطينيي المخيمات يأتي في هذا السياق، وباستطاعتنا اعتباره مقاومة للاحتلال.
طلبنا من الرفاق الفلسطينيين أن يستبعدونا عن الأعمال القتالية المباشرة لأننا لا نرغب بإطلاق النار على لبنانيين كنا وإياهم في خندق نضالي واحد... واحترموا رأينا... وساهمنا في تهريب المؤن الغذائية والأدوية لمخيمي شاتيلا وبرج البراجنة.
أذكر بالخير الرفيق جورج السهلي الذي استشهد وهو يحمل 80 كيلوغراماً من الأدوية على ظهره محاولاً إدخالها إلى مخيم برج البراجنة... ونعيناه كشهيد فلسطيني كي لا نسبب مشكلةً للحزب.
لم نعثر على جثة الرفيق جورج رغم خروجنا بأربع عمليات استطلاع لمكان استشهاده... ثم علمنا من أحد الذين حاصروا المخيم بأنهم أطلقوا عليه أكثر من 10 قذائف أنيرغا وأر بي جي حتى تفتت لحمه.
في بداية 1990، تيقنا من أنه لن يقدّر لنا اللحاق بالعكروت أنور ياسين أو نبيه عواضة أو سهى بشارة... فاتفقنا على العودة إلى أحضان الحزب صاغرين مطيعين... إلا أن السبب الحقيقي كان قرفنا من الحفلات الفلسطينية الصاخبة التي كانت تقام باسم التضامن مع المخيمات والانتفاضة، حيث كان السيكار الكوبي يصيبنا بالزكام وقناني الويسكي تفتح كصنابير الماء في مطاعم الروشة على شرف الشهداء وشرف الانتفاضة الباسلة.
* مؤلّف موسيقي، أستاذ جامعي، وناشط شيوعي مقيم في المنفى