ياسين تملالي*قرأت الأجزاءَ الثلاثةَ الأولى من سلسلة مقالات ينشرُها حالياً يوسف زيدان في جريدة «المصري اليوم» بعنوان «تاريخنا المطويّ». وعدا أنها موسومةٌ بسمة الجدلِ (المباشر تارةً، الضمني المستتر تارةً أخرى) مع بعض من اتهمه أخيراً بازدراء الديانة المسيحيّة، فإنّ ما استوقفنا فيها هو ما تحفل به من أخطاء في طرحها لمسائلَ لغويةٍ كتاريخ الكتابة ووظيفتها الاجتماعية والوضع اللغوي في مصر قبل الإسلام. ونحنُ إذ نتعرضُ إلى هذه الأخطاء، فلأنّ الكاتب يشتركُ فيها مع كثيرٍ من المثقّفين العرب، ممّن يستقون معارفَهم الألسنيّةَ من الموروث اللغوي القديم دون غيره من المصادر.
يقول زيدان: «منذ اكتشف الإنسانُ سرَّ الكتابة وعرف أهميّة الأبجدية، صار يدوّن ما يريد أن يتركه للأجيال القادمة». أوّل ما يُلاحَظ في هذه الجملة هو أن صاحبَها كمختص برديات لا يرى للكتابة من وظيفةٍ سوى نقلِ ماضي السابقين إلى اللاحقين، ما يُعدّ إحدى وظائفها لا وظيفتها الوحيدةَ ولا الأساسية. من المحتمل أنّ هدفَ بعض أولى الكتابات (كالرسوم على جدران الكهوف) كان فنياً أو تعبيريّاً، ومن الثابت أن هدفَ الكتابة الرئيسيّ في مراحلَ لاحقة لم يكن «التدوينَ للأجيال القادمة» بقدر ما كان (ولا يزال) نقل المعلومات أو الإحساسات إلى الغير. كذلك، لا يمكن أن نقولَ إنّ «الإنسانَ اكتشف سرّ الكتابة»، فلم يكن للكتابة «سرّ» دفين ظل ينتظر أن تُسبر أغوارُه، لسبب بسيط هو أنها مرّت بمراحل عدّة قبل أن يتعمّم شكلُها الألفبائي الحالي، الذي تُخَطُّ به معظم لغات العالم (الترادف بين الحرف والصوت).
وإذا كانت جذورُ الكتابة تعود إلى حوالى 50 ألف سنة قبل الميلاد (أحفار على الحجر والعظام)، فأولى مراحلِها كانت الكتابةَ التصويرية (تمثيل حالة ما برسم يقلّدها) التي ظهرت قبل الميلاد بـ30 ألف سنة وشاع استعمالُها عشرةَ آلاف سنة بعد ذلك. وتلتها مرحلة الكتابات «اللوغوغرافية» (مثلاً الهيروغليفية أو الصينية، حيث، بصورة عامة، يرمز كل رسم إلى فكرة واحدة أو شيء واحد)، التي ظهر خلالها الوعيُ بتكوُّن الجمل من أجزاء أصغر هي المفردات، ثم توصّل الإنسانُ في حقبة متأخرة نسبياً (الألفية الثانية قبل الميلاد) إلى إدراك ما يبدو لنا اليوم بديهياً، وهو تَكَوُّنُ كل مفردة من سلسلة أصوات، فكانت أولُ أبجدية في التاريخ (الفينيقية)، يرمز فيها كلُّ رسم (حرف) إلى مقطع صوتي. لا تزامنَ إذاً بين «اكتشاف سرّ الكتابة» و«معرفة أهمية الأبجدية»، فبين أقدم الكتابات التصويرية وأولِ أبجديةٍ معروفة مضت قرابة 28 ألف سنة.
ليس زيدان عالماً ألسنياً لكنه يحسم مسائلَ لا يزال المختصون يُسيلون فيها حبراً كثيراً بجمل قصيرة من قبيل: «اللغةُ هي أوّل ملمحٍ من الملامح الثقافيّة لأيّة جماعة إنسانيّة»، ما لا يُقدّم عليه برهاناً سوى أبياتٍ لمحمود درويش مفادُها أن «الإنسانَ لغتُه» (ما أسهل أن نجدَ في الشعر أبياتاً مؤدّاها أنّ الإنسان «وطنه» أو «دينه» أو باختصار «إنسانيته»).
ليس تعريفُ ثقافة جماعة إنسانية ما بلغتها صحيحاً أو خاطئاً في المطلق، فصحّتُه أو خطأُه متوقّفان على الجماعة التي نتحدّث عنها. إذا قصدنا بـ«الجماعة الإنسانية» الشعبَ في حدود الدولة القومية الحديثة، فلا شك أن اللغةَ ليست نواةَ هويات شعوب كثيرة. أيةُ لغة هي «الملمحُ الثقافي الأول» للبيرونيّين ودستور بيرو يعترف بالإسبانية والكيتشوا والأيمارا ولغات هندية أخرى؟ أيةُ لغة من لغات سويسرا الأربع هي «الملمحُ الثقافي الأول» للسويسريين؟ ولماذا تناحر الصرب والبوسنة والكرواتيون طوال سنين مع أنهم جميعاً يتكلمون لغة واحدة هي «الصربية ـــــ الكرواتية» كما يسمّيها الألسنيون؟
في عصرنا الحديث، لا تؤدّي اللغةُ دور نواة الهوية الثقافية إلا لدى أمم بعينها، ما يُفسره تاريخٌ طويل من الإمبريالية الثقافية (فرنسا) أو بالعكس، من القهر الثقافي (أيرلندا، إلخ). ويصدقُ هذا الكلام على العصور القديمة وما قبل الحديثة، فمقارنةً بما هي عليه الحالُ منذ نشوء الدول القومية، كانت المجموعات البشرية (والدول) آنذاك تتنقّل بسهولة بين اللغات على اختلافها. مثلاً، لغةُ دواوين الإمبراطورية الفارسية المسماة «الاخمينية» (منتصف القرن السادس قبل الميلاد ـــــ منتصف القرن الرابع قبل الميلاد) كانت الآراميةَ، ولغةُ البلاط البريطاني ظلت طويلاً الفرنسية إلى درجة أن شعارَ عرش بريطانيا («قانوني هو القانون الإلهي») لا يزال إلى اليوم يُكتب بها.
ولا يكتفي زيدان بمثل هذه الجمل الجازمة الغائمة («اللغة هي أول ملمح من الملامح الثقافية لأية جماعة إنسانية») فنراه يرتكب أخطاءَ قدامى اللغويّين (من العرب وغير العرب) الذين كانوا يعتقدون أنّ معنى كل كلمة هو إلى الأبد معناها الأصليّ الأول، وأنّ تغييرَه دون إذن أصحاب المعاجم تجنٍّ على اللغة الفصيحة.
يؤكد الكاتب أن مرادفَ كلمة «قبطية» هو «مصرية»، ما يراه دليلاً على عدم سلامة استخدامها في عبارة كـ«الكنيسة القبطية» (لذا يكتب «الكنيسة المسمّاة اليوم القبطية»). نسأله: أليست كلمة «سرياني» مشتقّة من كلمة «سوريا» (في حدودها القديمة، أي «سوريا الكبرى»)؟ هل في استعمالها للكلام عن اللغة السريانية والكنائس التي تمارس طقوسَها بها في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق وتركيا تجنٍّ على العربية؟
ليست معاني الكلمات الأصليةُ هي معانيها الأبدية: بـ«قبط» عنى الفاتحون العرب سكان مصر الأصليّين (أي غير الوافدين، من أجناس أخرى، الذين استقرّوا فيها)، لكن مع انتشار الإسلام تحولت هذه المفردةُ من اسم شعب إلى اسم معتنقي مذهب معيّن (اليعقوبي) لديانة معينة (المسيحية) في بلد معين (مصر) في حقبة تاريخية معينة (من بداية الغزو الإسلامي إلى عصرنا). تقلُّص المعنى (أو بالعكس توسُّعه) ظاهرة لغوية معروفة، فكلمة «ألمان» كانت تعني في الأصل مجموعةً من القبائل الجرمانية، لكنها اليوم تدل على كامل سكان دولة ألمانيا (حتى المنحدرين منهم من أصول تركية أو مغربية)، لا على خَلَف هذه القبائل الغابرة فحسب.
ويضيف زيدان، بلهجة الواثق من نفسه: «الآرامية (السريانية) لغة واليونانية لغة والعربية لغة... أما هذه القبطية المزعومة، فهي ليست لغةً أصلاً، بل هي طريقةٌ في الكتابة، لجأ إليها المصريون (الوثنيون) بعد الاحتلال اليوناني لمصر واستقرار الحكم البطلمي فيها، وهي كنظام كتابة (ملفق) تضم أربعة وعشرين حرفاً يونانياً، وسبعةَ أحرف مصرية قديمة».
لنصرف النظر عن اعتبار السريانية والآرامية لغةً واحدة رغم أن الأولى، وإن انحدرت من الثانية، استقلت بذاتها في أول العهد المسيحي. لنصرف النظر أيضاً عن اعتبار نظام الكتابة القبطي «ملفقاً» لا لشيء سوى لأنه استعار معظم حروفه من الألفباء اليونانية (كلُّ نظم الكتابة «ملفقةٌ»، بما فيها النظام اليوناني المنحدر من الأبجدية الفينيقية والعربيّ الذي لم يكن غير أقلمة للأبجدية الآرامية). ولنسأل: هل القبطية طريقةٌ في الكتابة لا غير؟ يكفي الاطلاعُ على أية موسوعة ألسُنية لندرك أن القبطيةَ تعني شيئين اثنين. هي أولاً لغة تنحدرُ من المصرية القديمة وتنتمي مثلها إلى أسرة «اللغات الآسيوية ـــــ الأفريقية»، التي تضم عداهما «لغاتٍ سامية» كالعربية والعبرية والآرامية والفينيقية وأخرى «حامية»، كالأمازيغية، إلخ. هي ثانياً خطٌّ لكتابة هذه اللغة استُحدث بضعةَ قرون قبل انطلاق مسار تعريب مصر اللغوي.
صحيحٌ أن استخدامَ القبطية محصورٌ في طقوس العبادات المسيحية في مصر والمهجر، لكن هذا لا يكفي لإثبات أنها، كلغةٍ «خرافةٌ تكررت في السنوات الأخيرة على مسامع المساكين»، وإلّا لكانت اللاتينية خرافةً بحكم أنها لم تعد حتى لغة طقوس دينية. قد يكون الوهمُ هو الإيمانَ بإمكان إحياء لسان لم يعد اللسان الطبيعي لأحد عن طريق توسيع استعماله وربط وجدان الأقباط به (أقول «قد يكون» لأن التاريخ عرف حالةً تحولت فيها لغةٌ، هي العبرية، كانت في حكم الميتة إلى لغة حيّة بفضل سياسة إرادية طوّرتها ووسّعت استعمالها وربطت وجدانَ يهود إسرائيل بها). قد يكون هذا هو الوهم، لكن القبطية، بما لا يقبل الشك، لغةٌ حقيقية كان المصريون يتحدثونها قبل الفتح العربي، وحتى بعدَه بقرون.
ولو لم تكن القبطيةُ لغةً لما ساعدت على فهم الكتابات الهيروغليفية بفضل احتفاظها بخصائص المصرية القديمة، لغة هذه الكتابات. وقد يشهد على أنها لغةٌ لاشعورُ زيدان، إذ يكتب في الجزء الثالث من سلسلة مقالاته عن «التاريخ المطوي» (11 آب/ أغسطس 2010): «وبردياتُ (رسائل) قرة بن شريك إلى باسيل معظمها مكتوبٌ باللغة العربية، وفيها بعض الرسائل باليونانية والقبطية (أي المصرية القديمة)» (نلاحظ أنه يعادلُ بين القبطية والمصرية القديمة، مع أن الثانية، في عرف الألسنيّين، هي أمّ الأولى ومصدرها).

لا تؤدّي اللغةُ دور نواة الهوية الثقافية إلّا لدى أمم بعينها
لا ارتباطَ بين القبطية والدين المسيحي، يقول لنا الكاتب، (وبصورة أعمّ، لا ارتباطَ بين اللغات والديانات، كما أكّد في محاضرة له بالإسكندرية في أواخر أيار/ مايو 2010). نِعْمَ القول، لكنه يناقضُه ما إن تدعوه إلى ذلك دواعي الجدل، فيحاول أن يُقنعنا بأن بعض الصيغ اللغوية «إسلاميةٌ» خالصة، ويسخر من استخدام أحد خصومه الأقباط لها. نقرأ في الحلقة الثانية من سلسلة مقالاته المذكورة (4 آب/ أغسطس 2010): «هدّدني كبيرهم هذا (المعروف) مستخدماً في تهديده الصيغ العربية ـــــ الإسلامية، من نوع: إنّ غداً لناظره قريب». هل هذه العبارة «إسلاميةٌ»؟ لا، إذا رجعنا إلى ما قاله لنا عن سخافة ربط اللغات بالديانات. أضف إلى ذلك أنها، حسب المصادر العربية، استُخدمت أول مرة في بيت شعري («فإن يَكُ صدر هذا اليوم ولى‏/ فإن غدا لناظره قريب») أنشده أمام النعمان بن المنذر (وهو شخصية عاشت قبل الإسلام) أحدُ سجنائه (و«على فكرة»، كما يقول المصريون، تذكر المصادر ذاتها أن الحدثَ الذي ارتبط به هذا البيت كان سببَ اعتناق هذا الملك الدينَ المسيحي).
لزيدان أن يدفعَ عن نفسه تهمةَ ازدراء المسيحية، وأن يُحَذّرَ من امتداد يد الرقابة الدينية لخنق حرية التعبير، وله أن يعتقدَ أن إخراجَ اللغة القبطية من الدائرة الكنسية إلى دائرة الاستخدام اليومي وهمٌ ما بعدَه وهم، لكن ليس من حقه، وهو يخوضُ في موضوع اللغات وتاريخها ووظائفها ونظم كتابتها، أن تلهيه متطلباتُ الجدل البلاغيةُ عن تمحيصِ ما يقدمه إلى قرّائه من معلومات في هذا الميدان العلميّ.
* كاتب جزائري