تشير غالبية استطلاعات الرأي، التي اكتسبت مصداقية أكبر بعد توقّعها بنجاح نتائج الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية إلى تصدّر حزب «قلب تونس» نتائج الانتخابات التشريعية، تليه حركة «النهضة» الإسلامية. ويأتي في المرتبة الثالثة «ائتلاف الكرامة» الذي يجمع شخصيات مقرّبة من التيار السلفي ونشطاء شعبويّين يتبنون خليط أفكار محافظة وسرديات مؤامرة، فيما يحلّ في المرتبة الرابعة «الحزب الدستوري الحر» الذي تترأسه عبير موسي ويتبنى أفكار نظام زين العابدين بن علي، مع توزّع عدد كبير من المقاعد المتبقية على قوائم مستقلة.بناءً على هذه التوقّعات، عدّلت حركة «النهضة» خطابها الانتخابي. إذ تحوّل زعماء الحركة من الدفاع عن «التوافق» الذي طبع الأعوام الخمسة الماضية، والذي تمّ على أساسه عقد تحالف حكم مع حركة «نداء تونس» وزعيمها الباجي قائد السبسي إلى استعادة خطابهم السابق عن انتخابات عام 2014. ولعلّ أبرز نموذج على ذلك التحوّل هو ما جاء على لسان راشد الغنوشي في اجتماع شعبي يوم الأحد الماضي، حيث تحدث زعيم «النهضة» عن تنظيمه باعتباره الممثل الأبرز لـ«قوى الثورة»، ودعا الجماهير إلى دعمه في وجه «القوى المدافعة عن الماضي» و«القوى المعادية للثورة»، وحثّ على عدم تشتيت أصوات الناخبين بين عدد كبير من الأحزاب التي لها توجّه حركته نفسه.
وإلى جانب إعادة تبني الخطاب المدافع عن الثورة، طعّم الغنوشي حديثه بإلقاء وعود قديمة لإظهار خلفية حركته الإسلامية. وأهمّ ما أدلى به في هذا السياق هو وعده بإحياء ما يُعرف باسم «مشروع قانون الزكاة» الذي يعود إلى عام 2013، ويدور حول إنشاء «هيئة وطنية للزكاة» و«صندوق زكاة». ويعود طرح الموضوع المتقدم إلى رغبة لدى زعيم «النهضة» في خلق مشروع مضادّ للنموذج الذي أسّسه نبيل القروي، القائم على جمع مساعدات من الناس وإعادة توزيعها على الفقراء. ولم يُخف الغنوشي عداءه للقروي، لافتاً إلى أنه متقدم عليهم انتخابياً، ومشدّداً على ضرورة العمل على تحجيمه. وربط العمل على تحقيق انتصار في الانتخابات التشريعية بالدورة الثانية للانتخابات الرئاسية التي ستدور بين نبيل القروي وقيس سعيّد في الـ13 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري. وفي هذا الإطار، دافع الغنوشي عن سعيّد، معتبراً إياه «مرشح قوى الثورة»، طامحاً بذلك إلى الاستفادة من قاعدة سعيّد الشعبية، والتي طالبها بالتصويت لصالح «النهضة» حتى يتمكّن الرئيس العتيد من العمل مع حكومة تتبنى مبادئه نفسها.
عدّلت حركة «النهضة» خطابها الانتخابي بناءً على توقّعات استطلاعات الرأي


في المقابل نشر نبيل القروي، عشية أول من أمس، رسالة مُوجّهة إلى الغنوشي، وذلك بعد رفض القضاء طلب إطلاق سراحه. وخاطب القروي زعيم «النهضة» بالقول: «لقد أوهمكم وجودي في الزنزانة بأنني في موقف ضعف، ففاجأتمونا بتصريحات لمهاجمتنا». وردّاً على حديث الغنوشي حول استحالة التحالف معه لوجود شبهة فساد مرتبطة به، قال القروي: «كلّ ما في الأمر هو أنني أرفض التحالف معكم ومع حزبكم، وأكبر دليل على هذا أنني لا أزال سجيناً ولأسباب معلومة». بعد ذلك، انتقلت رسالة القروي إلى مهاجمة «النهضة» وربطها بـ«شبهات قوية معزّزة بملفات جدية». ومن هذه «الشبهات»، ذَكَر القروي الاغتيالات السياسية، و«التغرير بشباب تونس وتسفيرهم إلى محرقة سوريا»، و«محاولة تمرير قانون إقصائي مخالف للدستور بهدف السطو على إرادة الشعب التونسي». أما الاتهام الأبرز في السياق الحالي، فقد وجّهه القروي إلى «النهضة» ورئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد، حيث قال: «أرفض التحالف معكم لأنكم لجأتم مع حلفائكم في الحكومة إلى الجناح القضائي لتنظيمكم السريّ لإيقافي، ثم إبقائي في السجن وتغييبي عن الساحة السياسية».
بعيداً عن تفاصيل الاتهامات المتبادلة، تعكس حالة الصراع الحالية واقعاً سياسياً مثيراً للمخاوف. فإذا ما تحقّقت توقّعات استطلاعات الرأي، سيكون البرلمان المقبل مشتّتاً بين عدد كبير من الأحزاب المتصارعة والنواب المستقلين، من دون أن يتوفر لأيّ من الأحزاب النصاب الضروري لتشكيل حكومة مستقرة. أما الانتخابات الرئاسية فتطرح بدورها معضلة قانونية، حيث يمكن لنبيل القروي الطعن في نتائجها في حال فوز قيس سعيّد بحجة عدم تكافؤ الفرص بينهما. أما في حالة فوز القروي، فلا يعلم أحد ما الذي سيحصل بالضبط، والأمر هنا محصور بين سيناريوين متناقضين: إما إطلاق سراحه ليؤدي القَسم ويصير رئيساً، أو إبقاؤه في السجن وإلغاء نتائج الدورة الثانية من الانتخابات.