يقول لنا «المعلّم خليل النجار» إن معظم القطّارات مغلقة لأن موسم العنب لم يبدأ بعد، لكن البعض «يخزّن سبيرتو ليصنع منه عرق لاحقاً». هكذا راح ينقلنا من دار إلى دار بحثاً عن العرق. وفي كل مرة كنّا نواجه الاستقبال الزحلاوي الشهير وترحب بنا رائحة العنب واليانسون، أو رائحة الورود الرقيقة، كما حدث في منزل طوني وليلى وهما يصنعان «ماء الورد».
تملأ ليلى «البابور» النحاسي بأكوام الورد في الغرفة المقابلة لغرفة الجلوس، وتغليه بالمياه لبضعة ساعات حتى يتبخّر ويتقطّر، ثمّ تضعه في الشمس، وتدخل من جديد لتسكب القهوة لضيوف النهار. تابعنا البحث عن عرق زحلة وحدنا، وودعنا خليل قاصوف، مشيراً إلى فسحةٍ صغيرة إلى جانب درج عتيق «حيث كان يعيش المفوّض السامي على أيام العثمانيين». والمفوض السامي، في أدبيات قاصوف، هو «المتصرف» في الواقع. في الظهيرة يعود إلى منزله: وقت الغداء «مقدّسّ». ذهب للغداء وشرب العرق... كالعادة. قبل مغادرته، يرسم لنا صورة عن تاريخ المنزل حيث الدرج. أخبرنا عن السكان الذين ماتوا في العام 1942 عندما استهدف الطيران الفرنسي منزل المتصرف خلال تلك الحرب المنسيّة. وكان العرق آنذاك، يجمع اللبنانيون والأتراك، والفرنسيّون أيضاً.
من هناك، توجهنا نحو منزل بولس حريقة في الوادي، قرب النهر. ومجدداً... رائحة اليانسون والعنب المُسكرة تقريباً للضيف.تبدأ الجولة أمام «العصّارة». وهي آلة بيضاء كبيرة يسكب بولس العنب فيها، ويقول «من زمان كنّا نعصر على أيادينا وبرجلينا، لكننا اشترينا هذا المكبسّ تنسهّل العملية ع حالنا». عائلة بولس تصنع العرق منذ أكثر من مئة عام. انها إحدى العادات البديعة التي ورثتها زحلة من الأجداد ونقلتها على الأجيال. وكما هي حال بولس، ستجد في وادي العرائش عائلات تحافظ على هذا التقليد بلا تحريف. ولكن منهم من هو مثل بولس يطورها، لكي يوزّع العرق على الأقرباء والأصدقاء من دون أن يستفيد من هذا مادياً. لا يريد بولس أن «ينقطّع» من العرق. بعد العصّارة يخزّن بولس شراب العنب في الخزانات البلاستيكية التي وضعها في الغرفة الصغيرة، بين المرآب والحديقة حتى يتأكد من أنه لم يعد حلواً على الإطلاق. عندها ينقله من جديد إلى موقع آخر في غرفة أخرى: إلى «البابور»، حيث يتخمّر للمرة الأولى على نار المازوت ويسير على شكل بخار من البابور نحو «العاروس». وفي «العاروس» التي تشبه الجرّة، تبرّده المياه التي فيها، ويسقط في الجرّة قطرة تلو الأخرى إلى أن تمتلئ بالسبيرتو. حينها، ينقل بولس السبيرتو إلى «بابور» آخر لكي يصير عرقاً. إهذه المرة، يغليه على نيران الغاز ثم يضيف إلى الخلطة المادة الجوهرية: اليانسون. هكذا، يفسّر بولس عملية صنع العرق بتفاصيلها إلى ضيوفه الكرام بكل سرور. ثمّ يحضر المشروب العزيز ليوزّعه على الزوار. لا يهدف بولس لنقل هذه الصناعة إلى أولاده: «إذا رغبوا فيهم يتعلموها، لكنها لا تهمهم»، ويضيف «يلي بدو يورث، لازم يكون له رغبة، أنا رغبتها. أولادي لا يرغبونها»، بكل بساطة، اهتمامات شباب اليوم مختلفة.
أولاد بولس يمثلون جيلاً جديداً في زحلة (وغيرها من المناطق اللبنانية). وهو جيلُ يفقد هذه العلاقة التاريخية مع «العرق». صحيح أن زحلة تبقى متعلّقة به أكثر من غيرها، لكن من الواضح أن استهلاك العرق ينخفض في لبنان. يفضّل الشباب «الفودكا» أو «الوسكي» عندما يريديون الكحول. «مسكين» العرق، يجلس طويلاً على رفوف البارات في بيروت بانتظار الأجنبي الفضول لاحتسائه. عرفاً، العرق اليوم هو مشروب «الختايرة وشعب الحمرا». ولا أحد يعرف ما هي العلاقة تحديداً بين شباب الحمرا والختايرة، لكن هذا متداول في أوساط «مار مخايل» و«الجمّيزة» حيث للشرّيبة ذائقة أخرى. قدّ يكون العرق مشروب الماضي التي ينعش ذاكرة هؤلاء. خمر الحنين إلى زمنٍ مفقود، إلى الأيام التي كانت لا «تدق» فيها الكؤوس على الهويّة. ثمة أسباب أخرى، ربما لأن ثقافة العرق لا تناسب ثقافة الحانات. فالعرق يرافق صحن التبولة، وتلازمه صحون الحمّص والكبّة النيّة، وغالباً ما يكون موعده يوم أحد. لحسن الحظ لم يفقد العرق علاقته الحميميّة مع «السُفرة» اللبنانية، حتى الآن. لكن، حتى على «سفرة الأحد»، يقعّ في خانة «الكبار». حتى في «ملعبه»، «ملعب الأحد»، ينهزم العرق أمام البيرة.
في الواقع، ترتفع نسبة محبّي الكحول في لبنان يوماً بعد يوم. منذ 15 عاماً، كان يوجد9 شركات لإنتاج الكحول، حسب معلومات شركة «كسارة» الشهيرة. اليوم، بات يتخطى العدد الـ42 شركة. وحسب «كسارة» أيضاً، المشروب الكحولي الأكثر استهلاكاً في لبنان هو النبيذ، ليس لأن اللبنانيين رومنسيين، على ما يبدو. فالزهري تحديداً هو الأكثر رواجاً. ربما لأمكانية تبريده واحتسائه مع أي نوع من الطعام، أي لأن اللبنانيين لم يعودوا أصحاب ذائقة كبولس وعمّو خليل والأجداد الزحلاويين. ما زال العرق، رغم عدم قدرته على منافسة النبيذ المحلي من حيث نسبة الاستهلاك والتصدير، يبقى حتى الآن المشروب الكحولي الأكثر أنتاجاً على الصعيد الشخصي وفي المنازل. ربما لا يحبّه الشباب، لأنه «مش عالموضة»، بيد أنه يشكّل 10 أو 15% من منتجات الشركات الكبيرة مثل «كسارة»، التي تصدّر العرق «حيث يوجد لبنانيون». والأهم من التصدير وما إلى ذلك، العرق خمر البيوت. بيوت زحلة القديمة، حيث تسكب الماء فوق ثمرة العنب الشفافة، في كأسٍ صغيرة، وتنتهي الرحلة.