بعيداً من الموت المستفحل في السلمانية (حلب)، هرب جود سركيس (33 سنة) إلى مطعمه الصغير في برج حمود. من يدخل المطعم الأرمني المختبئ بين زواريب «البرج»، يشعر بأنه مجبر على الانصياع لسكينة المكان الذي يبعث، كما عيون جود، شعور الحزن الهادئ. منذ سنة ونصف تقريباً، هرب جود من عبثية القتل المنتشرة في بلدته الى لبنان. لم يفكر طويلاً في تحديد المنطقة التي سينزح إليها. وجهتُه كانت محدّدة بشكل «بديهي»، على حد تعبيره: برج حمود، حيث «أبناء لغتي وهويتي وجذوري».
«يمكن لو كنا ببلدنا بأرمينيا ما كان هيك صار، ما كنت رح لاقي حالي ببلد (لبنان) مش لازم كون في»، يجاهر جود بعدم ارتياحه بوجوده في بلد «من الـ100، 50 بيكرهوني في». وعلى الرغم من امتنانه من احتضان المجتمع الأرمني له، إلّا أن «حلب غير». تستطيع تلمّس تعلق الشاب الثلاثيني بمدينته من خلال لكنته «الحلبية» البحت. حلب لم تفارق قلبه ولا لسانه. عند سؤاله عنها، يصمت ويستذكر، تلمع عيناه ويخفت صوته، هي مدينة لا تستحق هذا الكم من الحزن. في عيون جود بعض من ذاك الحزن. إلا ان جود سرعان ما يستطرد: «أنا أرمني سوري، القضية الأولى الإبادة، ومن ثم يأتي ألم السلمانية الذي هو امتداد لإجرام واحد». وكأنه يبرر استرساله في الحديث عن حلب وينزع عنه شبهة المفاضلة بين الوجع. يربط حلب بالإبادة: «بدن يوصلو للإبادة بطريقة حديثة»، هكذا يعلّق على الأحداث الحاصلة في العالم.
يفاخر الرجل بـ»تعصبه» لأرمنيته، «عصبية ايجابية»، يصفها قائلاً: «أن تبحث عمّن يشاركك تاريخاً وحضارة وثقافة وتجهد في الحفاظ عليه خوفاً من تكرار الاضطهاد، فهو حتماً، ليس أمراً سلبياً». يعتقد جود أن الخطر المحدق بهم، هناك، يتعلّق بكونهم «مسيحيين» أكثر من أنهم «أرمن»، وإن كان يدرك ان الهدف الإقصائي للمتطرفين نفسه.
لا يشعر جود بأنه يشكل «عبئاً» على المجتمع اللبناني والأرمني على حد سواء، برأيه، انه كما يستفيد من مطعمه، فإن الكثير من اللبنانيين الأرمن وغير الأرمن يستفيدون من هذا المشروع الذي أنشأه فور نزوحه الى لبنان. يختم جود حديثه بالقول: «يمشي الحال بحلب، وعمرو ما يرجع المطعم».