«كوداك».الشركة إياها، اللوغو الأصفر والاسم الأحمر عينهما. ذكرياتنا المحفوظة بالـ«نيغاتيف». كانت «كوداك» السبّاقة في إطلاق الأفلام بالأسواق في 1885، وكذلك كاميراتها اليدوية. كنّا نشتري الفيلم، بالكرتونة الصفراء، ونركّب «أسنانه» بدقة في الكاميرا، ثم نستمع لصوته، بعدما نغلق عليه غطاء الكاميرا. وتُؤخذ الصورة الأولى «ليركب مكانه»، هكذا تصبح الكاميرا جاهزة لتخليد لحظاتنا الـ Kodak.
والكلمة بمعناها الأصلي مشتقة من عبارة «Kodak Moment» والتي تستخدم لوصف صورة استثنائية في لحظة لن تتكرر. لكن اللحظة الاستثنائيّة التي لن تتكرر هي النهاية، إذ أصابت خيبة عارمة جيل الكوداك عندما أعلنت إفلاسها منذ ثلاث سنوات. انتهى كل شيء. العالم تحوّل لإنتاج الكاميرات الديجيتال، تزامناً مع الفورة الرقمية التي أصابت التكنولوجيا، وسهّلت عمل المصوّرين، إلى درجة الترف. واليوم، لم يعد العثور على فيلم نيغاتيف سهلاً. لقد صار العالم رقمياً. في «فوتو بالاديوم»، الاستديو المعد للتصوير وبيع الأفلام وتظهيرها، الذي يملكه المصوّر إبراهيم سليمان، يتضح كل شيء. خلال فترة الثمانينيات كان يقصده المصورون الصحافيون، المحترفون، الهواة، وطلاب الجامعات. يستأجرون كاميرات النيغاتيف ويشترون الأفلام ويظهرونها. لكن «هذه الحركة بدأت تخف تدريجياً منذ خمس سنوات تقريباً»، كما يقول سليمان. آخر من كان يسأل عن النيغاتيف وكاميراته طلّاب الجامعات، لكنهم استسلموا بدورهم. صاروا يستخدمون الديجيتال توفيراً للوقت والمال. لم يعد يطلب الأفلام إلا هواة النيغاتيف والمحترفين، أولئك الذين يحبّون إمساك الصورة ولمسها. يدركون قيمة النيغاتيف في نوعية الصورة التي يقدمها، كما يعترف المصورون الذين عاصروا الأفلام واستخدموها أن الديجيتال لن ينتج الصورة التي يلتقطها الفيلم. والديجيتال ليس وحيداً، بل يقترن بالـ«فوتوشوب»، وهذا عامل مساعد للمصوّر «الديجيتال». عامل تخريبي آخر.

ضوء أخضر خفيف

لم تكن المهمة سهلة أثناء الحرب. كان مصطفى جمال الدين، المصور في صحيفة «السفير» يحمل معه إلى الجنوب عدداً من الأفلام، أثناء فترة التحرير، فيصوّر. ثم يرسل الأفلام بالتاكسي إلى مبنى الصحيفة في بيروت ليقوموا بتظهيرها. يذكّر هذا بفيلم «The Secret Life of Walter Mitty» حيث أرسل المصور شون أوكونيل النيغاتيف إلى مجلة «Life»، التي يعمل فيها، إلى والتر ميتي، مسؤول قسم التحميض في المجلة، فبحث الأخير عن صورةٍ للغلاف في «نيغاتيف» شون. كان الأمر حميمياً ويستغرق مجهوداً إضافياً وأحياناً مغامرات خطرة كما في حالة والتر. وكما في الفيلم كما في «السفير». أيام النيغاتيف كان المصوّر في صحيفة السفير مصطفى جمال الدين يتحكّم بكل شيء في غرفة التحميض. غرفة سوداء صغيرة بمصباح يرسل ضوءاً أخضر خفيفاً، بالكاد يُرى. وذلك منعاً لاحتراق الفيلم في حال تعرضه للضوء. يفتحه ثم يُسقطه في الـ «Developer» بدرجة حرارة باردة، ثم يتركه لدقائق قليلة. يخرجه ويضعه في وعاء ماء، لينتقل النيغاتيف بعدها إلى الـ «Fixer» الذي يثبّت الألوان. ثم يُنظّفه بالأسيد والماء ويعلّقه في خزانة طويلة توجد في أسفلها مروحة ومدفئة لتجفيفه. يتابع جمال الدين بشغف: «ينتقل النيغاتيف إلى مكنة الطبع المسمّاة بالـ «Large»، ثم يضع المصور «cart» الطبع على طاولة تعكس الضوء، ليرى الصور. وبعدها تغسّل بالماء من جديد، وتعلّق بالملاقط. تحتاج عملية تظهير الفيلم (36 صورة) من 20 إلى 30 دقيقة.
في العمل الصحافي كانت العملية تأخذ مجهوداً ووقتاً ساعد الديجيتال في توفيرهما. والتطور التقني منع وقوع حوادث كارثية، كأن يعود أحد المصوّرين من مناسبة يغطيها فيكتشف أن الفيلم فارغ؛ لا صوَر فيه ولا من يصوّرون. ببساطة النيغاتيف لم يركّب كما يجب بالكاميرا، وعندها يضطر المصور للبحث عن صورة من أحد زملائه. والحال أن كاميرا الديجيتال اليوم لا تعمل إن لم يكن الـ «memory card» موجوداً، وهذا يسمح لصاحب الصورة باكتشاف رداءتها قبل النشر، تسمح له... بالتذاكي. الصورة جاهزة أمامك، سيئة؟ تصوّر غيرها فوراً بتعديلات بسيطة. كان الفيلم الواحد كافياً لتصوير ثلاث أحداث صغيرة. 10 صور لكل حدث، يُؤخذ منها 7 على الأقل. كل صورة كانت تحتسب. في الديجيتال يعود المصور بـ50 صورة عن ندوة صغيرة يختار منها ثلاث صور أو أربعاً. يستهلك الكاميرا والكارت معاً من دون حاجته للخمسين لقطة تلك.
وطالما أننا نتحدث عن الديجيتال، فكله يحتل مساحات من الـ software. يمكن حفظ الصور في الأقراص المدمجة. ولا يعود الحديث هنا عن المصوّرين المحترفين، إنما عن العاديين أصحاب الذكريات. أولئك الذين تصير ذكرياتهم في أقراص مدمجة، لا في ألبومات. ومجرّد أن تتعرض الأقراص لخدش صغير أو تترك معرّضة للشمس والحرارة والرطوبة فستتلف، ستنتهي الذاكرة في قرص تالف. أما شريط النيغاتيف البني فهو يحافظ على الصورة ويحرسها. لا يزال جمال الدين محتفظاً بأرشيفه النيغاتيف منذ أواخر الثمانينيات حتى تحوّل عمله إلى الديجيتال. يوقن أن الابتسامة التي ترتسم على وجه مصوّر النيغاتيف عند إمساكه للصورة لن يعرفها مصورو الديجيتال.
بدوره، يُسهب المصور في صحيفة «الأخبار»، الزميل هيثم الموسوي، في وصف علاقة المصور بفيلمه والصورة. فالعلاقة تنتج من طبيعة النيغاتيف، لأنه مادة حسّاسة سريعة العطب. يخاف على الفيلم من الاحتراق في الضوء وينتبه لكيفية تركيبه في الكاميرا. عدا عن أن مواد التحميض لديها خاصية الرائحة والطعم واللون واللمس. كل هذه العناصر تجعل العلاقة مع النيغاتيف حسّية وحميميّة. ولأنه يتألف من «نترات» الفضة فلا تُهدر المياه التي يغسّل بها بل يُعاد استخراج الفضة من الماء. يعتني بما رسمته الآلة بالضوء واحتفظت به على الشريط حتى يمسكها بين يديه ويطبعها. يكتب الموسوي الذي بدأ عمله مع وكالة الصحافة الفرنسية التاريخ بما يصوّر، لذا يحرص على الاحتفاظ بأرشيفه.

جيل الـ«تراك تراك»

في الأساس، صُنع فيلم الفضة ليعيش مئة عام وأكثر، كما يقول الناقد الفوتوغرافي جوزيف الحاج. وهذا ما يفتقده العالم الرقمي، بحيث أن التحكّم بكمية الأدوية لتثبيت الصورة وألوانها لم يعد موجوداً، ما يعرّض الصورة للتلاشي مع مرور الزمن. الصورة الرقيمة لا تدوم فالـ pixels التي تكوّنها تتداعى تدريجياً بانتقالها عبر الفضاء الالكتروني. ويضيف الحاج أن الأحبار المستخدمة في طباعة الصور الرقمية لا فكرة واضحة عن ديمومتها. فالصور المطبوعة على ورق لم يعالج بمواد كيميائية مثبِّتة، تتحوّل بعد مدة إلى مساحات سوداء. لذا نجد بعض المصورين المحترفين لا يتخلون عن فيلم الفضة للتصوير، كالمصور اللبناني العالمي فؤاد الخوري‪.
‬لم تغيّر الصورة الرقمية معالم الفوتوغرافيا‬ بقدر ما بدّلت مفهومها. فالصورة فقدت قيمتها بين الجيلين. يذكرنا الحاج في حديثنا معه بـ «حدث الصورة» حيث في الصغر كنا نهيئ أنفسنا للذهاب إلى الاستديو. نهندم أنفسنا في صباح العيد ونرتدي الثياب الجديدة. نقف مع العائلة أمام الكاميرا لتأريخ تلك اللحظة فنحبس أنفاسنا وننتبه ألا نرمش كي لا نبدو نائمين. لم تعد «ثقافة الصورة» كما كانت حتى للمصورين أنفسهم. فالحاج اختبر التعليم المهني للمادة وأعدّ مقرراً بنفسه لها. فاقتصر الصف على المواد النظرية من دون التطبيقية لعدم توافر الإمكانيات في المعهد. وطبعاً ذلك لا يخرّج طلاب فوتوغرافيا يمتلكون خلفية صلبة للمادة، تسمح لهم بتكوين هويّة خاصة بهم. ناهيك عن أن التعليم الرقمي للمهنة لعب دوراً أساسياً في ضياع القيمة الحقيقية لها.
كان الحاج يقصد سوق الجمعة في طرابلس ويبتاع الصور القديمة لمصورين مجهولين متمسكاً بشغفٍ أورثه لابنه زياد الذي لا يزال وفياً لفيلم الفضة بدوره. استطاع تجميع الصور في كتاب شِعر «محبرة المحكيّه» بإطاراتها الورقية القديمة، بالأبيض والأسود، تُركت في الصور طيّات الأيادي. يستعيد قول الفيلسوف الفرنسي رجيس دوبراي، بأن «الصورة صنعت لنقضي على التلاشي والموت». لكن آرا كيشيشيان لم يستطع الاحتفاظ بذاكرة تفوق الخمسين سنة. طلب صاحب المبنى الذي يستأجر فيه كيشيشيان الاستديو الخاص به الرحيل فقام بحرق كل لفافات الفضة. أحرق أكثر من ثمانية صناديق مليئة بالذاكرة وأفلام النيغاتيف من عام 1975. لا يملك مساحة كافية ليحتفظ بذلك الكنز ويورثه لأجيال عائلته على الأقل. كانت الرائحة قوية ومزعجة، كما يصفها آرا، لن يشتمّها جيل الـ «تراك تراك» كما يسميه هازئاً. لن يدركوا القيمة الحقيقية للصورة إذا ما لمسوا فيلم الفضة ودخلوا الغرفة السوداء. يعيدنا ما ذكره آرا لفيلم والتر ميتي مجدداً، حين أرسل المصور شون الفيلم محدداً الصورة رقم 25 لغلاف النسخة الورقية الأخيرة لمجلة Life.
كتب معبراً عنها «إنها الأفضل على الإطلاق، إنها جوهر الحياة». وكانت الصورة لميتي وهو جالس يمعن النظر في الصور التي حمّضها ليختار منها صورة الغلاف.



آرا كيشيشيان: أشرف مكان في العالم





المار في شارع «بافيون» في الحمرا سينظر قطعاً إلى الأعلى، حيث الواجهة الزجاجية وخلفها كاميرات الـ 16 ملم وكاميرا الأبيض والأسود وبقيّة العدة. «هذا أشرف مكان في العالم»، يصف آرا كيشيشيان الاستديو الخاص به منذ الحرب الأهلية. كان يعمل في استديو بباب ادريس حيث اكتسب المهنة هناك وتعلمها بحذافيرها وتقنياتها. انتقل بعدها إلى مكانه الحالي في الحمرا. جهّزه بكل ما يحتاجه، وفي اليوم التالي وقعت الحرب. تكسّرت الواجهات الزجاجية. أعاد ترميم ما تهدّم وبدأ من جديد. يفتخر بعمله مع المخرج السوري الراحل مصطفى العقّاد الذي أوكل إليه مهمة تصوير لبنان، وفعلاً كان يذهب كل نهاية أسبوع إلى محافظة. توقف آرا اليوم عن التصوير. لن يدخل مدرسة الديجيتال، ويجلس على «مقعد» رقمي. هذه مدرسة برأيه لا يعرف ناسها قيمة الصورة ومعناها. يعترف بأسى أن زمن النيغاتيف انتهى: مصورو هذا العصر برأيه «لن يعرفوا المعنى الحقيقي للصورة».