اكتسح تيك توك هواتف المستخدمين حول العالم بسرعة قياسيّة، مستفيداً من فترة الوباء. دخل المنازل المغلقة أمام العالم الحقيقي والمشرّعة للعالم الافتراضي. ولأنّ العالم محكوم بالعولمة، أخذ التطبيق الصيني حيّزاً كبيراً من اهتمام اللبنانيين، فمنهم من استخدمه لكسب المال عبر صناعة المحتوى، ومنهم من أقلقتهم المنصة التي تمدّ خوارزميتها المستخدمين بكل ما يثير اهتماماتهم.

كيف يعمل اقتصاد TikTok؟

يتميّز تيك توك عن تطبيقات التواصل الاجتماعي الأخرى بإمكانيّة إجراء تحويلات ماليّة منه وإليه على شكل هدايا. هكذا، استحال منصّةً مرتبطة بالعمليّات الماليّة، مستفيداً من التوجّه العالمي نحو الهروب من المال النقدي إلى التحويلات الرقمية، ما أسهم في زيادة شعبيّته التي وصلت إلى 1.7 مليار مستخدم، وفقاً للأرقام المتوافرة على موقعه الإلكتروني.

لا يختلف اقتصاد تيك توك «الافتراضي» في الجوهر عن الأسواق التقليدية. تشمل عملية العرض عليه بيع السّلع والخدمات. وتعتمد الشركات الصغيرة ــ محليّاً وعالميّاً ــ بشكل «حيوي» على هذه المنصة. يرتبط «وجود» 45 في المئة منها به، فيما تشير أرقام تيك توك إلى أنّ الشركات التي تستخدمه لترويج منتاجاتها وخدماتها حقّقت نمواً بنسبة 88 في المئة.

(محمد نهاد علم الدين)


لكن اقتصاد تيك توك لا يقف عند هذا الحدّ، بل يتجاوز بيع وتسويق السّلع. فالقدرة على الظهور المباشر (live) أمام الملايين وجني الثروات، فتحت الباب على مصراعيه أمام المستخدمين للجوء إلى جميع الوسائل المتاحة لجذب أكبر عدد من المشاهدين، مستغلّين قوانين التطبيق ومعاييره المختلفة عن معايير «ميتا». ويبدو أنّ جيل الشباب متحمّس لاستغلال الفرص «السهلة» من أجل كسب المال.

أما الأسباب، فيختصرها تقرير منشور على موقع «جامعة ستانفورد» الأميركية ومقال لصحيفة الـ «غارديان» البريطانية، بنقاط عدّة، من بينها أنّ الجيل الأصغر سناً أكثر ارتياحاً للتقنيات الرقمية والسوشال ميديا. وبينما يفتقر عدد من الشباب إلى الثقافة المالية، يوفّر لهم TikTok منصة للتعرّف إلى الميزانيات والاستثمار وإدارة الأموال عبر المحتوى التعليمي والمؤثرين في مجال التمويل الشخصي. يتيح تيك توك أيضاً فرص عمل مرنة ومستقلة، مثل التسويق بالعمولة والبث المباشر وبيع المنتجات عبر TikTok Shopping. وتلعب خوارزمية TikTok والمؤثّرون الافتراضيون دوراً مهماً في تشكيل تصوّرات جيل الشباب للنجاح والاستقرار المالي.

وفي السياق نفسه، يبرز تزايد شعبية اقتصاد الوظائف المؤقتة (Gig Economy) وريادة الأعمال بين الشباب الذين يمنحهم تيك توك منصةً لعرض مهاراتهم وبناء علاماتهم التجارية الشخصية وتحقيق الدخل من خبراتهم.

أما العاملان الأخيران، فهما أنّ السوشال ميديا أصبحت مساراً مهنياً قابلاً للتطبيق. فالشباب يرون في تيك توك وسيلة لبناء متابعين وإنشاء محتوى وكسب المال عبر إستراتيجيات تحقيق الدخل المختلفة، فضلاً عن أنّ سوق العمل صار أكثر تنافسية وسط ندرة فرص العمل التقليدية وتعاظم أدوات الذكاء الاصطناعي التي أسهمت في خفض كلفة الذكاء البشري.

كيف يستحيل الأسد دولارات؟

أبرز المشاهد اللافتة على «كوكب» تيك توك، التحديات التي تحدث بين شخصين أو أكثر، ومدى تفاني المشاركين للفوز بتلك «المعارك الافتراضيّة». نجدهم مثلاً مستعدين لفعل المستحيل لمواجهة «خصومهم». والمدهش أكثر من مشهد مستخدم يمرّغ وجهه بالطّحين بعد خسارته، هو «جنون» المتبارزين بعد إهداء المتابعين لهم رمز «بطّة» أو «أسد». والأخير ليس مجرد صورة كرتونيّة على منصة افتراضية، بل «صرّة» من الأموال تعادل نحو 400 دولار أميركي، يحصد المستخدم نصفها.

وتشمل هدايا تيك توك أيقونة مثلّجات بكلفة عملة واحدة تسمى coin، وكعكة حلوى أو بطّة بقيمة 300 عملة. أمّا الأسد، فتبلغ قيمته حوالى 30 ألف عملة، فيما أغلى الهدايا الافتراضيّة هي Tiktok Universe بكلفة 50 ألف عملة تقريباً. ويقدّر تيك توك معدّل ثمن الهدايا التي يدفعها المستخدم الواحد في كلّ «المباراة» بنحو دولارَين اثنَين.

ما هي الـ coins؟

تتيح عملات تيك توك للمستخدمين شراء الهدايا وإرسالها إلى صانعي المحتوى المحبوبين أثناء البث المباشر. يقدّم هؤلاء محتوى مرغوباً من قبل المشاهدين في سبيل الحصول على الهدايا الافتراضية التي يمكن استبدالها بأموال حقيقية.

تبدأ أسعار عملات تيك توك من 70 عملة بقيمة 0.75 دولار، ولا يوجد سقف محدّد لعدد العملات التي يمكن شراؤها، وبالتالي المبالغ التي يمكن دفعها. كما تختلف الأسعار بين بلد وآخر، ويكون الشراء عبر الكومبيوتر أبخس قليلاً من الشراء عبر الهاتف المحمول. ليست عمليّة شراء عملات تيك توك في لبنان سهلة، إذ تُقدّم هذه الخدمة بكلفة عالية وبطرق «ملتوية»، أكثرها شيوعاً عبر محال الهواتف المنتشرة بكثرة وتتحكّم بالأسعار نتيجة غياب قطاع مصرفي فاعل في ظلّ الأزمة المالية غير المسبوقة التي يرزح تحتها لبنان.

يتّبع تيك توك نظام «ارتقاء» مع كل عمليّة شراء عملات. هكذا، يرتقي المستخدم بالـ «حكمة» في التطبيق ما يزيد من مستواه. ومع كلّ مستوى جديد، يوفّر تيك توك هدايا افتراضيّة جديدة يستطيع المستخدم شراءها. علماً أنّ أعلى مستوى هو الـ 50، ويعني أنّ المستخدم دفع ما يقرب من مليون دولار على المنصة.

كم عدد المشاهدات للربح من تيك توك؟ يبدأ جني الأموال من لحظة وصول أعداد المشاهدة على فيديو منشور إلى ألف. ويدفع تيك توك بين 0.02 و0.04 دولار أميركي مقابل ذلك، وهو مبلغ متواضع إذا ما افترضنا أنّ مليون مشاهدة تعود على المستخدم بما يراوح بين 20 و40 دولاراً. وتساعد هذه السياسة التطبيق على «توظيف» ملايين المستخدمين للمساعدة في خلق المحتوى، مقابل بدل ضئيل مقارنة بالأرقام الكبيرة التي يجنيها تيك توك من الإعلانات.

تحديات وعمولات

يعدّ البث المباشر حكراً على الحسابات التي تحظى بأكثر من ألف متابع. وبعد تأمين هذا الشرط، يصبح بإمكان المستخدم الدخول في تحديات مباشرة بين شخصَين أو أكثر، يتنافسون على حصد أكبر عدد من النقاط والهدايا من المتابعين. وبعد انتهاء التحدّي، يُصدر الفائز «حكماً» على الخاسر، ضمن سلسلة معارك مدّة كلّ منها 5 دقائق. ولضمان تعزيز شهرته، ينفّذ الخاسر الحكم مهما بلغت صعوبته. ومن أشهر الأحكام وأكثرها «إذلالاً»، هو رمي الشخص للطحين أو البيض على نفسه.

تدفع الثروات التي يحصدها التيكتوكرز أثناء المباريات بالمستخدمين إلى اللجوء إلى جميع الأساليب من أجل الفوز برضى المتابعين. كما يفرض تيك توك عمولة تبلغ نسبتها 50 في المئة على كل عمليّة إهداء أثناء البث المباشر، إلا أنّ الأمر لا يزعج المستخدمين السعداء بوجود تطبيق يمكّنهم من كسب المال بهذه السهولة.

وتنتهي الدورة الاقتصادية على تيك توك بتحويل الهدايا الافتراضيّة إلى رموز «ألماس»، تستحيل لاحقاً مبالغ نقدية عبر PayPal. وفي لبنان، تؤكد مجموعة من التيكتوكرز لـ «الأخبار» أنهم يلجأون إلى محال الهواتف التي تفرض «خوّة» تراوح بين 4 و10 في المئة. وتتغيّر النسبة طبقاً لـ «شهرة» التيكتوكر أو حجم المبلغ المُراد سحبه.

لماذا كلّ هذا الرواج؟

تُحسب للتطبيق مزايا عدّة، إذ استطاع تقديم منصة سهلة الاستعمال أتاحت الفرصة لأي كان الوصول إلى جمهور واسع، ما أفسح في المجال لأصحاب المصالح الخاصة الصغيرة للترويج لأعمالهم مجاناً. ولقي التطبيق رواجاً واسعاً بين الشباب لأنّه استطاع أن يحاكي اهتماماتهم ضمن قالب بصري عصري، في عالم أعاد اكتشاف الفيديو. وعلاوةً على ذلك، يغري تيك توك روّاده بكسب المال من مجرّد الظهور عبر البث المباشر، أو عبر صنع محتوى جذاب.

لا شيء إلا السلبيّات؟

في الفترة الماضية، أُحيط تيك توك في لبنان بكثير من السلبية، وخصوصاً بعد الكشف عن عصابات محليّة استخدمت التطبيق في جرائم عدّة. لكن «الغيمة السوداء» لا تمحي الأثر الإيجابي للتطبيق في حياة كثيرين ممّن وجدوا فيه «حبل نجاة» في ظلّ الانهيار الاقتصادي وأزمة كوفيد.

في هذا السياق، يلفت المؤسّس والمدير التنفيذي لشركة «فات كاو ديجيتال» المتخصّصة في التسويق الرقمي، رامي نصّار، في حديث معنا، إلى أنّ معظم الجوانب السلبيّة موجودة على جميع المنصات، لكن الفارق هو سرعة انتشارها على تيك توك. ويتطرّق نصّار إلى إمكانيّة وصول الشركات إلى جمهور واسع عبر دفع مبلغ إعلاني صغير. إذ تسمح خوارزمية تيك توك «المتفرّدة» بإيصال المحتوى إلى الفئة المستهدفة، حتّى من دون اللجوء إلى الإعلان أو الحاجة إلى عدد كبير من المتابعين.
علماً أنّ «ذكاء» خوارزمية تيك توك يصل إلى درجة عرض محتوى على مستخدمين «هم أنفسهم لا يعلمون أنّهم سيهتمّون به».
حقّقت الشركات التي تستخدمه نمواً بنسبة 88 في المئة


كما يشرح نصّار كيف يقدّم تيك توك نفسه كـ «نافذة رقمية» لروّاده عبر الاستفادة من قاعدة المستخدمين العريضة. وبهذا، يشكّل التطبيق الصيني المُحارب أميركياً حجر أساس ينطلق منه صنّاع المحتوى إلى منصات أكبر، مثل يوتيوب.

ورغم النجاح اللافت في مجال مقاطع الفيديو القصيرة، إلّا أنّ تيك توك بدأ أخيراً بالترويج لـ «محتوى طويل الأمد» (long form content) في مسعى إلى تغيير إستراتيجيّة عمله، والتحوّل من منصّة ترفيهية إلى أخرى تعليمية، وتثبيت نفسه منافساً ليوتيوب على المدى البعيد، وفقاً لما يوضح نصّار.
هو عالم جديد، تشكل فيه صناعة المحتوى على السوشل ميديا وظيفة مستحدثة، استطاعت استغلالها منصة تيك توك بنجاح منقطع النظير. علماً أن المنصة ستواجه في المدة القادمة غضباً أميركياً ما لم تتخلَّ الشركة الصينية الأم «بايت دانس» عن تطبيق الفيديوهات القصيرة، ما قد يحول دون احتفاظها بمقعدها في صفوف عمالقة التكنولوجيا.