كنّا لثلاثين ليلة أمام عمل دراميّ تلفزيونيّ يحترم عقل المشاهد، ويراعي مناسبة عرضه وخصوصيّة المرحلة الأليمة التي نعيشها وتستلزم حدّاً أدنى من تقدير مشاعر الناس زمن المأساة في غزة، فمسلسل «تاج» لا يغترب بعيداً نحو قصص العصابات والجرائم والخيانات والعنف على أنواعه، بل يردّنا إلى تاريخ يُحاكي الراهن، فترةَ الانتدابين الاستعماريين، الفرنسيّ والبريطاني، لبلاد الشام، وتحديداً لسوريا الثلاثينيّات والأربعينيّات، بلوغاً لحظة الجلاء والاستقلال بعد طول كفاح ومعاناة سجناً وقتلاً وتجنيداً للعملاء الذين لا يخلو بلد أو شعب منهم، شرقاً وغرباً.عمل متكامل العناصر كتابةً (للمسرحيّ الشاب القدير عمر أبو سعدة) وإنتاجاً (لشركة الصبّاح) وإخراجاً (لسامر البرقاوي) وأداءً (لمجموعة كبيرة من الممثلين المخضرمين والجدد، في مقدّمتهم تيم حسن وبسام كوسا وجوزف بو نصار ونورا رحال وأندريه سكاف، إلى الوجه الأرستقراطيّ الجميل فايا يونان في أوّل بطولة لها) وإدارة تصوير (للبولنديّ المبدع زبيغنيڤ ريبتشينسكي، خرّيج «معهد لودز» العريق الذي أعطى السينما مخرجين ومصوّرين كباراً أمثال بولانسكي وڤايدا وسكوليموڤسكي وزانوسي) وبناءً «فرعونيّاً» للديكورات الضخمة (لأدهم مناوي تصميماً وتنفيذاً، استناداً إلى صور فوتوغرافية قديمة لساحة المرجة والصالحية وسط دمشق في حقبة الانتداب) وتصميماً للمعارك (لمُعَدْ ورد) وملابس (لرجاء مخلوف) وتوليفاً (لسالم درباس، بإحساس إيقاعيّ دقيق)، وغرافيك ومؤثرات بصريّة متقنة (لمصطفى البرقاوي) وإدارة مجاميع لافتة (لمحمد أبو الزند مساعداً للمخرج) وموسيقى (لآري جان)، إلى باقي الفريق الكبير الذي تُظهر النتيجة على الشاشة تفانيه ومهنيته في عمل غير بسيط، شاقّ تحضيراً وتصويراً، بلا ريب، إلى حدّ استنفاد طاقاته الفنية والتقنية والتمثيلية.
يستلزم الإحياء المقنع لحقبة تاريخيّة إنتاجاً كبيراً، شجاعاً، غير متردّد. فإعادة بناء الأبنية والساحات والمواقع، كما كانت في زمن سابق يقارب قرناً من السنين، تستدعي تشييد ديكورات ضخمة مرتفعة الكلفة، وملابس، وأكسسوارات.... «تاج» من المشاريع الإنتاجية العملاقة التي تردّد بشأنها رقم ثمانية ملايين ونصف مليون دولار كموازنة للمسلسل، وهذا رقم لا يُرصد إلّا في أعمال أجنبية، كتلك التي اشتهرت بها channel 4 البريطانية، أو شركات البث التدفقي (ستريمينغ) القوية مثل نتفليكس وسواها. قليلة جداً ونادرة الأعمال الدرامية العربية التي تخصّص لها موازنات بهذا الحجم لما في الأمر من مجازفة على صعد مختلفة تبدأ بصعوبة التنفيذ ولا تنتهي عند ضمان نجاح التسويق والإعلان ونسبة متابعة الجمهور. مع ذلك، خيضت المغامرة، والأرجح بفضل روح التحدّي المعروفة عن صادق الصبّاح الذي يعمل منذ سنين، بين لبنان وسوريا ومصر، على رفع سويّة الدراما التلفزيونية العربية لتضاهي تلك العالمية، و كسب رهانه مع «تاج».

بين واقع وخيال
كاتب المسلسل عمر أبو سعدة هو مخرج ومؤلّف مسرحيّ، كتب نصوصاً لخشبة المسرح قبل أن يتحوّل لاحقاً إلى مخرج مسرحيّ أيضاً، علماً أنّه خرّيج المعهد العالي للفنون المسرحيّة في دمشق وأنشأ مع بعض زملائه فريق «مسرح الاستوديو»، وشاركت أعماله في مهرجانات عالمية بين برلين ونيويورك وأڤينيون وباريس وبروكسل. يخوض مع «تاج» تجربته الثالثة في كتابة الدراما التلفزيونية بعد مسلسل «الزند: ذئب العاصي» العام الفائت ومسلسل «مدينة المعلومات» الذي يعود إلى عام 2004.
يتجاوز أبو سعدة نفسه في «تاج» متقدّماً على تجربته التأليفية في «الزند» الذي يدور في الحقبة نفسها. هنا ترتقي كتابته تاريخيّاً وسياسيّاً ووطنيّاً وسايكولوجيّاً ودراميّاً إلى مستويات عالية، بدءاً بالحبكة الأساسية، إلى ابتكار شخوص المسلسل أو إحياء شخصيات تاريخية حقيقية كالرئيس السوري شكري القوتلي أحد كبار الثوار ضدّ السلطة العثمانية ثم ضدّ الانتداب الفرنسي، مشاركاً في الثورة السورية قبل نفيه إلى أرواد والحكم عليه بالإعدام ولجوئه إلى مصر ثم عودته وزيراً للدفاع في حكومة الكتلة الوطنية الأولى عام 1936 وسطوع اسمه مرشحاً لخلافة هاشم الأتاسي في رئاسة الكتلة، ما أوصله إلى سدّة الرئاسة بين عامَي 1943 و 1949 ومرّة ثانية بين عامَي 1955 و 1958، وقد نالت سوريا في عهده استقلالها التام فلقّب بـ«أبي الجلاء»، وكان لاحقاً صانع «جمهورية الوحدة السورية» مع الرئيس والزعيم المصري جمال عبد الناصر.
قد لا تكون شخصية القوتلي الوحيدة الحقيقية في المسلسل، وربّما استلهم أبو سعدة للمسلسل بعض شخوصه من أناس حقيقيين عاشوا في تلك الحقبة. والأرجح أنّه وثّق جيداً لمعالجته الدرامية التي توصف في بداية الحلقات بأنّها «من نسج الخيال وأي تشابه...» إلى آخر الصيغة المعتمدة في المعالجات التاريخية، علماً أن شخصية الرئيس القوتلي لا تنتمي البتة إلى الخيال. المهمّ أنّ التركيب الدراميّ استقام للكاتب حبكةً مشوّقة، متطوّرة، كثيرة الحوادث والمفاجآت غير المتوقعة (كتلك التي توقع فيها «ندى» العشيقة السابقة لـ«رياض» زوجة هذا الأخير الشابة «نوران» طليقة «تاج»، فتوهمها بصفقة معلومات مقابل جواهر من الذهب، لكنّها تشي بها لدى العشيق الذي تخلى عنها وتطمح إلى استرداده، فيحضر فجأة بينهما). حرفيّة الكتابة الدراميّة متأتّية لدى سعدة بأمرين، الموهبة التأليفية الخاصة، والثقافة المسرحيّة التي مكّنته من امتلاك أصول الكتابة الدرامية وتطوير الشخصية وخلق الحدث وبناء الملامح النفسية لكلٍّ من شخوصه المبتكرة، أو شخصياته التاريخية، ونسج أفضل الحوارات.

مخرج يكسب التحدّي والرهان
يمكن الافتراض بسهولة، بعد مشاهدة حلقات المسلسل كاملةً، أنّ سامر البرقاوي كان منذ انطلاق المشروع إزاء تحدٍّ كبير ورهان قد لا يكون مضمون النتائج نظراً إلى كبر حجمه ودقّة تفاصيله التاريخية وكثرة أماكن تصويره وعدد مشاهده ولقطاته، الخارجية والداخلية، الهائل. عمل بهذه الضخامة يخيف أيّ مخرج ويقلقه (المخرج الأميركي الكبير مارتن سكورسيزي عبّر مراراً عن الخوف والقلق لدى تصوير أعماله المشهدية الكبيرة مثل «عصابات نيويورك» وحديثاً «قتلة زهرة القمر»)، لذا يُقدَّر للبرقاوي إقدامه وتنكّبه مسؤولية بهذا الحجم كمايسترو (بالإذن من «إل مايسترو» فديريكو فيلليني) مولج بكامل عمله من ألفه إلى يائه.
البرقاوي، مثل الكاتب أبو سعدة، تجاوز نفسه بأشواط بعيدة وحقّق تحفته التلفزيونية التي تفتح له آفاقاً مستقبلية مهمّة مخرجاً. في معايير اللغة الإخراجية، أي تكوين المشهد فنّياً (إضاءةً ومناخاً، وآتي لاحقاً إلى مساهمة مدير التصوير المهمة جداً) ودراميّاً (وضعيّات الممثلين تحرّكاً وانفعالاً وإدارةً لحالاتهم النفسية وتعبيرهم اللفظيّ والجسديّ) وتحريكاً للكاميرا (بين لقطات ثابتة أو متحرّكة مرافقة، سفليّة أو علويّة، واسعة للجموع في المشاهد الخارجية، أو حميمة ضيقة للمشاهد الداخلية ذات الطابع الصداميّ المشحون) أبدى البرقاوي حرفيةً عالية وأناقةً لافتة تؤهّلانه حقاً وموضوعياً للعالمية التي لا أحسب أنّه طامح إليها، إذ يكفيه في رأيي نجاحه العربيّ، بل حتى الوطنيّ، الذي ينبغي أن يكتفي به العاملون في التلفزيون وحتى في السينما، بعيداً من طموح «العالمية» الأجوف. فلو بلغ العمل الفني العالمية انتشاراً وقبولاً وتقديراً، لكان في هذه الحال فقط أمراً كافياً ومحموداً.

أداء صادق ومدهش
يرضينا، نقّاداً متابعين وجمهوراً متذوّقاً، أداء جميع الممثلين في «تاج» من أقدمهم إلى أحدثهم، ومن أكثرهم حرفيّة إلى أقلّهم خبرة ومراساً، بفضل مواهبهم الحاضرة للعمل بتوجيهات مخرج يُحسن إدارة فريق الممثلين بسويّة واحدة من الاهتمام بالدور الكبير كما بالدور الصغير وصولاً إلى الجموع غير الناطقين أو العابرين في المشهد (تلفت هنا مساهمة أحد مساعدي المخرج محمد أبو الزند في إدارة الجموع، ومعد ورد في تصميم المعارك).
بارعٌ تيم حسن في تركيب شخصية «تاج» وملامحها وحركتها، مبتكراً لها طريقة نطق ولهجة ونبرة وتلوّن انفعالات بين القسوة والانفعال والهدوء والرومانسيّة. حالات شتى يمرّ بها تباعاً، مبتدعاً أيضاً مشيةً خاصة، متهيّئاً بدنيّاً (على طريقة دي نيرو في «الثور الهائج») لاحترافية الملاكم في الشخصية المتعدّدة، فهو رياضي ومقامر مدمن ومناضل سرّي وخيّاط وحارس كازينو، إلى ما هنالك من حالات وأطوار يعيشها ويبرع فيها بسويّة واحدة متناغمة.
المذهل هو الممثل القدير بسام كوسا، المبدع إلى آخر حد، وبمعيار عالميّ، في شخصية «رياض الجوهر» الخياط العميل للفرنسيين الذي يثير القشعريرة في البدن من هول عنفه المضمر خلف ابتسامة خبيثة مرعبة تخفي ما تخفيه من تهديد، أو عنفه الظاهر الذي يتبدّى مراراً في أفعال قتل يأمر بها قاتلاً مأجوراً وحامياً، أو ينفذها بيده. شخصية بناها الكاتب أبو سعدة بفطنة وحرفيّة بكونها شخصية «سايكوباتيّة» متناقضة رغم انسجام أفعالها، مضطربة رغم الظاهر الأنيق المخادع، ينفجر عنفها المكبوت على حين غرّة فينقلب رعباً وحشيّاً. شخصية عميلة ومجازفة بقدر ما هي مذعورة وجبانة في لحظات الخيبة والتحوّلات الكبرى. ومذهل هذا الممثل العملاق الذي شعرتُ به طالعاً من «الفتية من البرازيل» فيلم فرانكلين شافنر القوي الذي يبرع فيه لورنس أوليڤييه النازيّ المرعب. لا يمحى وجه «رياض» بسهولة من الذاكرة، كذلك شرّه الداخليّ خلف الأقنعة المتبدّلة. عظيمٌ بسام كوسا، ذو أداء داخلي يجعله شرّيراً مخيفاً، قلباً وقالباً.
إلى جوزف بو نصّار، صاحب الخبرات المسرحية والسينمائية والتلفزيونية، يعثر هنا على «دور عمره» كما يُقال، بارعاً في تكوين شخصية الجنرال الفرنسيّ العنيف والساديّ الذي يجسّد تماماً وحشيّة الانتداب، أو الاستعمار (لا فرق كبيراً)، في إذلال أبناء الوطن وتعذيبهم وقتلهم وتشغيل العملاء صغار النفوس منهم، مع فشل في المقابل بحياته العائلية، مع زوجته السورية التي تخلّى عنها وابنه الوحيد الضابط في الجيش الفرنسي أيضاً الذي تمنعه قسوة أبيه من بناء علاقة طبيعية عطوفة معه حتى آخر لحظة. يتقن بو نصار أداء شخصيته المتلوّنة بين ذروة القسوة والعنف وأقسى حالات الانكسار الشخصية والعائلية، يسعفه عَصَبٌ تمثيليّ مشدود وصوت مميّز لطالما امتلكه في كلّ أداء، وإحساس جسديّ عبّر عنه في مختلف المواقف والمشاهد.
فايا يونان هي اكتشاف المسلسل وهديته وجهاً جديداً مشعّاً للجمهور العربيّ، رغم أنّها في بطولة أولى هنا، قادمة من عالم الغناء إلى دور كبير يحتاج إلى خبرة ومراس لا تملكهما بعد في التمثيل. لكن تبيّن بعدما شاهدناها في شخصية «نوران» طليقة «تاج» ولها منه ابنة وحيدة فتية، تتزوّج لاحقاً العميل غير المعلن لدى الفرنسيين «رياض جوهر» (الرائع، مجدداً بسام كوسا) وهو خيّاط ثري يملك مصنعاً للخياطة ويعيش في منزل فخم يغدو لـ«نوران» بمثابة سجن وحياة مهدَّدة لها ولابنتها، حتى عودة «تاج» للعب دور المخلّص والزوج السابق التائب المصمّم على استرداد عائلته... خرجت فايا يونان من هذه التجربة بنجاح لافت، كدور دراميّ أول لها في مسلسل طويل من ثلاثين حلقة، وتمكّنت من الوقوف بثقة أمام نجوم متمرّسين، تحديداً قبالة تيم حسن وبسام كوسا، ونجح كذلك رهان المخرج البرقاوي الذي رشّحها للدور واثقاً.
التنويه بالممثلين ينسحب على الجميع من دون استثناء. الكاستينغ ممتاز للأدوار الأولى والثانية والعابرة وذات الحضور الشرفيّ مثل القديرة منى واصف التي تظهر فقط في مشاهد قليلة، كتحيّة لها وعربون وفاء على مشاركاتها في أعمال سابقة مع المخرج. أيضاً الممثلة المعروفة والقديرة نورا رحال في شخصية امرأة الكازينو «زيزي»، وصاحب الأداء الحارّ والمتحمّس موفق الأحمد في دور «الصابوني»، والرائعة سوسن أبو عمّار في شخصية «فايزة» والمخضرم أندريه سكاف «الخواجة» مالك الكازينو، ونتاشا شوفاني «ماريون»، والقامة المميزة سهيل جباعي «شفيق»، والموفق شكلاً وأداءً باسل حيدر في شخصية الرئيس القوتلي، فضلاً عن إيهاب شعبان وفرح الدبيات ودوجانا عيسى ونوار سعد الدين وجوان الخضر ولوريس قزف وجهاد الزغبي وغسان عزب ونضير لكود وفواز سرور وفادي زغيب وأميرة خطاب ومحمد مراد وآخرين لا تتسع هذه الإضاءة على العمل لذكرهم جميعاً وهم جميعاً لافتون في أدوارهم مهما كبرت أو صغرت أو كانت مجرّد عبور.

ديكورات عملاقة وإضاءة مبدعة
قلّما عرفت الدراما التلفزيونية العربية، للاستعادات التاريخية، بناء ديكورات بضخامة تلك المنجزة خصّيصاً لـ «تاج» وإتقانها وجمالها وتطابقها مع الأبنية الحقيقية لساحة المرجة في دمشق زمن الثلاثينيّات والأربعينيات، والعمود الذي يتوسطها، والجسر ونوافير المياه، والترامواي، ما جعلها تاريخيّاً واحدة من أجمل عشرين ساحة مدينة حول العالم. على مساحة 26 ألف متر مربّع تولّى الفنان القدير أدهم مناوي تصميم وتنفيذ هذه الساحة وواجهات أبنيتها العالية ومحلّاتها وعمود المرجة وبناء المعابد ومبنى أمية ومبنى البرق (التلغراف) ومبنى المحافظة والبرلمان والصيدلية المركزية، إلخ. وما يحتاج إلى set extention تولّاه الغرافيكيّ ومصمّم المؤثرات المشهدية مصطفى برقاوي، ليتكامل الإطار التاريخيّ المدهش الذي يمكن اعتباره أحد «أبطال» هذا العمل الملحميّ «الفرعونيّ» الذي يشبه بناء أهرامات مصر. فالديكور العملاق هذا استلزم مئة وثمانية وأربعين مهنياً محترفاً للبناء، لثلاثة أشهر ونصف شهر من العمل المتواصل ليل نهار لإنجاز المهمة الصعبة، تحت إشراف المخرج المدقّق في كلّ التفاصيل والراسم «الميزانسين» في رأسه قبل الوقوف خلف الكاميرا. وميزة هذا الإنجاز ليست في ضخامته فقط، بل في جماله الذي يعيدنا بصدق إلى تلك الحقبة فنحيا فيها حقاً (ربما كان لازماً بعض «الحفترة» والتوسيخ الفني لأجزاء من الديكور لعدم تركه كاملاً)، وفي إتقان مطابقته للمباني التاريخية استناداً إلى صور فوتوغرافية قديمة وخرائط للمساحة.
قد لا تكون شخصية شكري القوتلي الوحيدة الحقيقية في المسلسل


أمّا الصورة المبدعة ومناخاتها التاريخية الآسرة (الـ sepia من المرات النادرة في توظيف سليم) فهي لمدير التصوير البولنديّ المخضرم زبيغنيڤ ريبشينسكي (75 عاماً) الذي وضع خبراته المديدة بين السينما والتلفزيون والفيديو كليب العالمي، وعلومه الأكاديمية التي حصّلها عام 1973 في أحد أهم معاهد السينما في العالم، lodz، حيث التلقين الجوهريّ لدراماتورجيّة الضوء واللون وتوظيفها دراميّاً لا بجمالية سطحية كما نرى أحياناً في صناعاتنا المشهدية، وبخاصة التلفزيونية. هنا الضوء واللون والظلّ في توظيف إبداعيّ، في المشاهد الخارجية والداخلية على السواء، ولا تنافر بين التاريخ ومناخاته اللونية، ولا بين الموقف الدراميّ وضوئه وظلاله، ولا بين مصادر النور الطبيعي وذاك المصطنع. مهنية عالية، فهم عميق لأجواء الحقبة، إضاءة مستلهمة من عمق الدراما بلا عيوب أو مبالغات. هذا تماماً ما تحتاجه درامانا العربية، العلم والمعرفة والثقافة والمهنية، وكلّه تبدّى في عمل هذا «العجوز الشاب» المبدع.
ملاحظة ختامية: قد يكون المأخذ الوحيد في مسلسل «تاج» هو عدم جودة نطق الضبّاط والجنود الفرنسيين والإنكليز (باستثناء جوزف بو نصار) اللغتين على نحو سليم، وليت القيّمين على العمل اعتمدوا حلّ الدوبلاج أي الاستعانة بممثلين فرنسيين وإنكليز لدبلجة الحوارات الخارجة من أفواه الممثلين بلفظ غير جيّد. وكان ينبغي وضع ترجمة (أكبر حرفاً) بالفصحى لا بالعامية أسفل الشاشة. أمّا المواطنون السوريون فلا بأس إن لم يتكلموا الفرنسية أو الإنكليزية، ففي هذا صدقية أكبر، ولكن ليس جماعات الانتدابين. عمل بهذا الكمال والإتقان، كان من المفضل ألّا يشوبه تفصيل مماثل.

* كاتب وناقد فني لبناني