دمّر إعلام السوشل ميديا قواعد الصحافة. حتى الصفحات المكرّسة أو المرتبطة بمؤسسات إعلامية كبرى باتت تنشر موادَّ من دون أدنى تدقيق في المعلومات. منذ أيّام، نشر شاب سوري فيديو ادّعى فيه أنّه في إحدى غابات اليونان بعد أن تاه عن مجموعته التي تهاجر بشكل غير شرعي عن الطريق المعروف والذي سلكه ملايين السوريين، وأنّه صار مهدداً بالموت بعد نفاد طعامه واقتراب انتهاء شحن هاتفه، ثم يشير إلى حفرة في وادٍ ويقول: «هنا سنرقد وهذا سيكون مثواي الأخير». فسارعت المنصّات الإلكترونية لتداول الفيديو ودعوة من يتمكّن من المساعدة لمساندة الشاب، ليعود في اليوم التالي وينشر فيديو آخر يشرح فيه أنّه بلا نوم ولا أكل منذ يومين ولم يتمكن من الخروج من الغابة وأنّه لا يخشى الموت، لكنه يفكر بأولاده وزوجته ومصيرهم بعد رحيله. بمعنى أنه يستعطف الجمهور ويستخدم عائلته في سبيل هذه الغاية، وهذا ربما حق مشروع فيما لو كان فعلاً تائهاً وعلى وشك نهاية مجهولة، الأمر الذي ولّد تعاطفاً واسعاً وتصديقاً لروايته التي تأثر بها كثيرون وأعادت نشرها عشرات المواقع الإخبارية المكرّسة (من بينها صفحة «الجزيرة سوريا» وتلفزيون «سوريا» المعارض). حصل ذلك من دون أدنى تدقيق في حقيقة الأمر، على الرغم من أنّه من السهل جداً على الرجل الوصول إلى الطريق طالما أنّه يملك هاتفاً محمولاً حديثاً ويتصل بالإنترنت، عن طريق خرائط «غوغل».
عدا أنه تقصّد قفل التعليقات والرسائل على حساب لا يحمل اسماً صريحاً عبر «تيك توك». ناهيك عن أنّ المدة التي نشر فيها الفيديوات مدعياً أنّه من دون طعام أو شراب أو قدرة على شحن الموبايل غير منطقية لأنّها استمرّت لأكثر من أربعة أيّام، ليخرج اليوم بفيديو جديد أمام خلفية بيضاء شاركته «الجزيرة سوريا» يشرح أنّ أحد الأشخاص تمكن من مساعدته وإرشاده إلى الطريق وقد عاد إلى إسطنبول! طبعاً من دون أن يفكر للحظة واحدة بتصوير عملية الإنقاذ التي يدّعيها، ومن دون أن تحلل «الجزيرة» وغيرها ممن تفاعل مع القصة طريقة العودة، خاصةً أنّ المنبر نفسه (أي «الجزيرة سوريا») نشر فيديو مسرباً من سجن يوناني يسمى مجازاً «سجن أبو ريحة» بسبب انتشار الروائح الكريهة فيه، حيث تعتقل السلطات اليونانية المهاجرين غير الشرعيين لدى إعادتهم إلى تركيا التي ترفض بدورها استقبالهم أو تعتقلهم وترميهم في إدلب إذا كانوا من السوريين، طالما أنّ هؤلاء يمزقون أوراق إقاماتهم التركية، قبل دخول الأراضي اليونانية. بمعنى أنّ طريق الإياب من اليونان إلى تركيا أصعب بكثير من الذهاب.
ظهور هذا الشاب اليوم بفيديو يقول فيه إنّه بخير هو بالضبط ما كان قد توقّعه لنا بالأمس الممثل السوري وائل شريفة المقيم في ألمانيا بعد سؤالنا له عن سبب تعليقه حرفياً على أحد الفيديوات المنشورة على المنصات الكبيرة، مدعياً بأنّ الرجل كاذب قولاً واحداً. علماً أنّ شريفة لجأ إلى أوروبا هرباً من سوريا نهاية العام الماضي بالطريقة نفسها. يشرح شريفة في حديثه معنا أنّه متأكد من أنّ الرجل كاذب ويسعى وراء الشهرة وتوسيع نطاق حساباته الافتراضية، ولا سيّما أنّ المجموعات التي تهاجر تمشي بنسق واحد وبخطوات غالباً بطيئة جداً بسبب الجهد والتعب، ولا يمكن لأحد أن يتوه عن فريقه. عدا أنّه ليست هناك غابات في هذا الطريق تمتد 50 كيلومتراً مثلاً، إنّما غابات صغيرة نسبياً لا تتعدى 5 كيلومترات يمكن تجاوزها بمشي بضع ساعات. فضلاً عن أنّ من يملك موبايل وإنترنت سيسهل عليه الاستدلال على أي طريق. عدا قصة إقفال الرسائل والتعليقات.