اعتباراً من اليوم الجمعة، يبدأ العاملون في وزارة الإعلام اللبنانية (تضم «الوكالة الوطنية للإعلام» و«إذاعة لبنان» و«مديرية الدراسات والمنشورات» و«مصلحة الديوان») إضراباً مفتوحاً، بعدما لم يلمسوا خطوات فعلية إيجابية من قبل المعنيين بملفّهم، لناحية تصحيح أوضاعهم المعيشية المأساوية. حالهم حال الغالبية الساحقة من العاملين في القطاع العام المتهالك، كما كلّ مفاصل الدولة اللبنانية.إلى جانب تدنّي قيمة رواتبهم (لم تعد تساوي أكثر من 5 في المئة من قيمتها، ولن تصرف في نهاية الشهر الحالي بسبب إضراب القطاع العام) في ظلّ الأزمة الاقتصادية الخانقة التي ترزح تحتها البلاد والارتفاع الجنوني لسعر الدولار مقابل الليرة، وعدم تقاضيهم (شأنهم شأن موظفي القطاع العام) بدل نقل منذ أكثر من أربعة أشهر، يُرخي اهتراء القطاعات المختلفة بظلاله على يوميّاتهم في العمل كما في البيت. هم عاجزون عن الوصول إلى مراكز عملهم بسبب ارتفاع كلفة النقل، ويشتغلون في ظلّ انقطاع التيّار الكهربائي وتردّي خدمة الإنترنت وتحليق أسعارها، ناهيك عن غياب المياه خصوصاً في المراحيض، ما يضطر بعضهم إلى إحضار قوارير ماء من منازلهم!

(بوليغان ــ المكسيك)

واقع مزرٍ تؤكد شريحة واسعة من العاملين في الوزارة منذ عقود، خصوصاً في «الوكالة الوطنية للإعلام»، أنّهم لم يشهدوا مثيلاً له من قَبْل، حتى في أحلك الأوقات: الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982 وحرب تموز 2006 مثلاً.
هكذا، فضّل 420 شخصاً، من متعاقدين (الغالبية) وأجراء وموظّفي ملاك (15)، «الصمت... لعلّه يكون أكثر تعبيراً من الصوت وأبلغ من أي رسالة إعلامية»، وفق بيان أصدروه الأسبوع الماضي بعد الجمعية العمومية التي عُقدت بحضور وزير الإعلام في حكومة تصريف الأعمال زياد المكاري ومدير عام الوزارة حسّان فلحة (حاولنا التواصل معهما من دون جدوى) وعدد من رؤساء الوحدات والدوائر والأقسام.
يومها، نفّذ العاملون في الوزارة إضراباً تحذيرياً لمدّة يومَيْن، واتفق المجتمعون على تشكيل لجنة برئاسة مدير «الوكالة الوطنية للإعلام» زياد حرفوش، وعضوية مديرة البرامج في «إذاعة لبنان» ريتا نجيم ورئيسة دائرة الأنباء العامة رنا شهاب الدين ورئيس دائرة الأنباء الإذاعية خليل حمدان ورئيس دائرة الشؤون المالية فادي عليان ورئيس الفريق التقني في الإذاعة علي جباوي. جاء ذلك بعدما تمنّى الوزير ذلك على العاملين إفساحاً في المجال أمام «زيارة المعنيين والبحث في الحلول المعقولة والمتاحة».
أما المطالب التي يصفها العاملون بأنّها «حقوق مقدّسة»، فتتلخّص بالآتي: تحويل الراتب على أساس سعر صرف 8000 ليرة أسوة برواتب القضاة، والحصول على ما يكفي من بدلات نقل، وإعادة السير باقتراح قانون إفادة متعاقدي وزارة الإعلام من شرعة التقاعد (أمام الهيئة العامة لمجلس النواب منذ عام 2015 بعدما أقرّته اللجان النيابية المشتركة حينها)، وإفادة الإعلاميين في الوزارة من بطاقات هاتفية مجانية تصدر عن وزارة الاتصالات تسهيلاً (كما كان معمولاً به وفق القانون الخاص بامتيازات المحررين)، وإقرار تعديل مرسوم بدل الانتقال عن كلّ مهمة تغطية لمندوبي الوكالة الوطنية للإعلام (أرسله وزير الإعلام إلى وزارة المالية) بما يتماشى مع تغير سعر الصرف أو تزويدهم بقسائم محروقات ضرورية لإتمامهم المهمات المطلوبة منهم. هذا بالإضافة إلى إفادة المتعاقدين مع الوزارة من الدرجات الثلاث التي نصّ عليها قانون سلسلة الرتب والرواتب عام 2017 ولم تحرّر حتى اليوم، ونقل اعتماد لصالح الفنيين في إذاعة لبنان تحت بند «ساعات الليل»، ورفع قيمة اعتمادات الإنتاج للبرامج في «إذاعة لبنان»، والعمل على تشريع ملفّ شراء الخدمات لصالح مديريتَيْ «الوكالة الوطنية» و«الدراسات» عبر مجلس الوزراء.
الإضراب المفتوح انضمت إليه مجموعة متعاقدي شراء الخدمات في «الوكالة الوطنية للإعلام»، مؤكدين في بيان أنّ «التوقف عن العمل إلى حين التجاوب مع مطالبنا: تعديل الرواتب بشكل يسمح لنا بالاستمرار بالعمل، لا سيّما وأنّ قيمة بعض العقود لا تتخطى مبلغ المليون ليرة شهرياً. إضافة إلى تنظيم عملية تقاضي المستحقات شهرياً، فلا يمكن أن ينتظر الموظف عاماً كاملاً للحصول على أتعابه في ظل الضائقة الاقتصادية والمعيشية القاسية التي يشهدها وطننا. والمساواة بالعاملين في الوكالة، لجهة تخصيص بدلات نقل، وشملنا بالتقديمات والتسهيلات التي ستخصص لهم، خصوصاً بعد المرسوم الرئاسي الذي جرى إقراره أخيراً لجميع موظفي الإدارات العامة بجميع مسمياتهم بالحصول على مساعدة شهرية».
هنا، لا بد من الإشارة إلى أنّ معاناة العاملين في وزارة الإعلام ليست جديدة إطلاقاً، ومن المفيد استرجاع مراحلها المتعدّدة على مرّ العقود الماضية، وصولاً إلى ما نحن عليه اليوم.
بعدما وضعت الحرب الأهلية أوزارها، دخل عدد كبير من الموظفين إلى وزارة الإعلام بعد عام 1990 من خلال نظام التعاقد (كان يُسمّى التعامل وقتها). شملت القائمة أشخاصاً أكفاء وآخرين لا يتمتعون بالكفاءة المطلوبة إلى جانب أشخاص بأسماء مموّهة!
صُحّح هذا الأمر مع تنظيم أجراه غازي العريضي عندما تسلّم وزارة الإعلام أوّلاً، وهو الذي تولّاها في حكومات متعاقبة. صحيح أنّ العملية أدّت إلى تخفيف الفائض، إلّا أنّه كان لها شق سلبي كونها شملت أشخاصاً أكفاء لمجرّد أنّهم غير مرضي عنهم من قبل المرجعيات السياسية والدينية التي وضعت الأسماء، وفق ما يقول أحد العاملين في الوزارة لـ «الأخبار». ويضيف الرجل الذي أمضى أكثر من نصف عمره في هذه المؤسسة الرسمية، أنّ الغبن الحقيقي بدأ (في ظلّ العريضي أيضاً) مع ترفيع الموظّفين المستحقين من الفئة الرابعة إلى الثالثة، بموافقة «مجلس الخدمة المدنية»، لأنّه لم يتمّ على أساس الكفاءة. وحين أراد الوزير حينذاك استلحاق الموضوع وتصحيح الخطأ المرتكب، سارت الأمور على الدرب السابق نفسه!
هكذا، بقي كثيرون ممن يتمتعون بالجدارة والكفاءة والنزاهة وتنطبق عليهم الشروط المطلوبة ضمن الفئة الرابعة، على الرغم من عطاءاتهم الجمّة لـ «الوكالة الوطنية للإعلام» و«إذاعة لبنان». حين امتنع الوزير العريضي عن ترفيع هؤلاء، تقدّموا بمراجعة إلى «مجلس شورى الدولة» بعلم «مجلس الخدمة المدنية» في عام 1995.
في عام 2008، حين شغل طارق متري منصب وزير الإعلام، أبلغه «مجلس الخدمة المدنية» بوجود المراجعة، فحاول التفاوض مع العاملين لتحقيق مبتغاهم بعيداً عن القضاء. رفع متري الدرجة لكن لم يستطع رفع الأجور، ما أبقى دعوى «ردم الهوّة» مستمرة في «مجلس شورى الدولة» (ظلّت قائمة لـ 13 عاماً). بعدها، أدى وزير الإعلام السابق ملحم رياشي استعداداً للتعاون وحلّ المسألة. ووصل العمل مع «مجلس شورى الدولة» من قبل لجنة مؤلّفة من العاملين إلى وعد قطعه القاضي ج.ن. إلى مساواة الرواتب لكن من دون إمكانية إعطاء مفعول رجعي، لأنّ «القانون لا يسمح بذلك كونهم متعاقدين». لكن حتى تعديل الرواتب من دون مفعول رجعي لم يتم «بسبب مرور الزمن وعدم تقديم مستندات تدعم موقف العاملين» على الرغم من عدم حصول أي تغيير. علماً بأنّ الهوة بين رواتب الفئتين الرابعة والثالثة بعد إقرار سلسلة الرتب والرواتب الأخيرة وصلت إلى حدود 500 ألف ليرة.
هذا ليس كلّ شيء. فهناك شقّ مرتبط بتثبيت المتعاقدين مع وزارة الإعلام. إذ اشتُرِط يومها إجراء امتحانات، ما نسف المسألة من أساسها. ثمّ تشكّلت لجنة جالت على النوّاب من أجل تحقيق الدعم لهذا القانون في الندوة البرلمانية، لكن البند سُحب مراراً من على جدول الأعمال (من بينها مرّة فعلها سعد الحريري).
ومنذ ذلك الحين وصل كثيرون إلى السنّ القانونية وتركوا مهامهم من دون معاشات تقاعدية، بل تعويضات فقدت قيمتها اليوم!
اليوم، أضيفت إلى هذا الواقع تبعات الهستيريا التي تعيشها البلاد.
لم تعد الرواتب تساوي أكثر من خمسة في المئة من قيمتها


وبعدما التقى الوزير زياد المكاري ومديرين من الوزارة برئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، أوّل من أمس الأربعاء، بات الإضراب أمراً واقعاً. إذ عرض ميقاتي إعطاء العاملين في الوزارة مساعدة اجتماعية عبارة عن راتب إضافي شهرياً على دفعتين، في موازاة أمور أخرى من بينها مساعدة من خارج الراتب بقيمة 3 ملايين ليرة وتقديمات وزيادة بدل النقل ليصبح 95 ألف ليرة. رفض العاملون الأمر لأنّه بطبيعة الحال غير مضمون ومرتبط بإقرار الموازنة في مجلس النوّاب. وأكثر من ذلك: من يضمن تقديم الموازنة بهذه الشروط إلى مجلس النواب؟ ومن يضمن ألّا يُسحب هذا البند من جدول الأعمال كمان حصل سابقاً؟ ومن يضمن تصويت النواب لهذه العطاءات للعاملين في وزارة الإعلام في وقت القطاع العام كلّه في حالة إضراب؟
وأمام هذا الواقع، وجد العاملون أنفسهم غير قادرين على الاستمرار بالعمل، فاتجه السواد الأعظم منهم إلى الإضراب، وسط معلومات عن محاولات مدير «إذاعة لبنان»، محمد غريب، إقناع المذيعين بالقيام بمهمّة المحرّرين خلال فترة توقفهم عن العمل (وهذا مخالف لقانون العمل)»، وهو ما تؤكّد أوساطهم أنّه مرفوض لغاية كتابة هذه السطور.
الأنباء الواردة من العاملين في الوزارة تشدّد أيضاً على ألّا إمكانية لتسيير العمل، وأنّ الإضراب يشمل «الوكالة الوطنية للإعلام» والدائرة الإذاعية التابعة لها التي تمدّ «إذاعة لبنان» بالأخبار. وهم مصرّون أنّه إذا كانت هناك نيّة لاستمرار «الوكالة الوطنية للإعلام» و«إذاعة لبنان» اللتين تشكّلان جزءاً أساسياً في دورة عمل المؤسسات الإعلامية المحلية، يتعيّن فعل شيء. وإلّا فسيكون إقفالهما متعمّداً!