أن تنجز مسلسلاً سورياً عن سبعينات وثمانينات القرن الماضي بميزانية متواضعة، متكئاً على نص كلاسيكي، سيعتبر إنجازاً في كل الأحوال. فكيف، إذا لحقت بالبلاد أزمة اقتصادية، وتهاوت العملة المحلية، وخسرت أضعاف قيمتها، وولعت الأسعار بعد إبرام العقود وبدء التصوير!! لابد من أخذ هذه المعطيات في الاعتبار قبل تقييم مسلسل «خريف العشّاق» (كتابة ديانا جبّور وإخراج جود سعيد وإنتاج «إيمار الشام» بطولة: أحمد الأحمد، محمد الأحمد، صفاء سلطان، حسين عباس، حلا رجب، ترف التقي، علا السعيد، وأيمن زيدان الذي حلّ ضيف شرف على العمل)العمل الذي لفت الأنظار هذا الموسم، يبدأ بمنطق هادئ، وإيقاع بطيء على مدار خمس حلقات تمهيدية، نتعرّف فيها إلى المقترح الحكائي، و أبطال القصة وهم ثلاثة شبّان قرّروا الزواج بتمرّد صارخ على القيم والعادات، ثم الانتقال من اللاذقية إلى دمشق لتحاصرهم ظروف لاهبة، تجبر خطواتهم أن تسلك طرقاً وعرة ستودي في النهاية إلى مصائر متشابهة من ناحية الخلل المجتمعي الذي نشأت منه تلك الزيجات!
الحلقات الأولى وغالبية العمل كتب بطريقة من قرر سلفاً أن يخسر الجمهور الرمضاني، أو أن يبحث عن المشاهد المتروي أصلاً، أي صاحب النفس الطويل الذي يصبر بضع حلقات حتى تبدأ الحكاية بالتحرر من بطئها المزعج، وتشتبك خيوطها بشكل متصاعد، وتزداد جرعات التشويق، بعد ذلك تمتثل القصة لقاعدة الدراما الذهبية التي أدرجتها شهرزاد مذ أقنعت شهريار بأن يستمع لحكايتها ويؤجّل قتلها، وراحت تورّطه في سردها، وتثير شهيّته ليستمع لقسط إضافي، فيؤجل موتها إلى يوم جديد، تعيد فيه نفس اللعبة وتحافظ على حياتها بينما يغرق مستمعها في فضوله بعد نهاية جديدة!
حكاية «خريف العشّاق» حملت توليفة اجتماعية لطيفة وخاصة، رغم أنها أرادت أن تنجز ضربة حساب حقيقية مع تاريخ سوريا المعاصر وما اكتساه من أحداث مترفة بالتفاصيل والغنى، لكنّ الواقع الانتاجي للمسلسل قال كلمته بدون سجال: لا يمكن لمسلسل ضخم أن ينجز بتراب الفلوس، وهذا المسلسل أنجز فعلياً بـ «فرنكات» إذا ما قيست ميزانيته بالقوانين التي تحكم عالم الإنتاج الدرامي! الموضوع انعكس على الشاشة وبشكل بليغ، إذ لا يمكن لعاقل أن يتخيّل مسلسلاً في عام 2021 يختصر بريطانيا في غرفة فندق في منتجع في ريف اللاذقية، وكبين تلفون لونه أحمر، وامرأة مقعدة تتحوّل مشاهدها مع النجم محمد الأحمد إلى حالة إذاعية منفّرة! كما لا يعقل أن تختصر حرب تشرين ببضعة عيارات نارية وتفجيرات خلبية غير مقنعة كأننا في ساحة عيد، لا في معركة مستعرة. ومن الصعب استحضار محافظة حماة السورية عند اندلاع المواجهة بين السلطة، والاخوان المسلمين بدون صرف أموال كافية لتسييج الحالة الدرامية بمتمماتها الإنتاجية، التي تعتبر بمثل هذه المشاريع خاصة لبنة أولى! بمعنى أن الحوارات على كتف العاصي وقرب النواعير إذا كانت تشبه الخطب السياسية، وبيانات الأحزاب، لن تجدي نفعاً في استحضار روح مرحلة زمنية ومكانية حساسة مثل تلك.. طبعاً كلّ ذلك، لا يقلل من جهد فريق مدير الإنتاج رامي عبيدو الذي وصل الليل بالنهار حتى استطاع الوصول بالعمل إلى برّ الأمان.
النص بمنطقه السردي التقليدي للأحداث على مستوى بناء الرواية، إضافة إلى الشرط الإنتاجي الخجول، كان بحاجة فعلاً لمن يرمم الفجوات بسوّية محكمة، وبالفعل هذا ما حصل عندما تصدى للعمل مخرج ناضج، تبحّر في البحث عن المراحل الزمنية المتعبة التي تدور فيها القصة، وتخلّى أولاً عن أي نبرة استعلائية نحو التلفزيون، ثم استحضر خبرة السينمائي الذي يحمل في جعبته 9 أفلام روائية طويلة غالبيتها حصدت جوائز مهمة حول العالم، وأصرّ على فريقه الفني والتقني في مقدمته مهندس الصورة والضوء وائل عزّ الدين، لتكون الفرجة في المسلسل مرسومة بروح فناّن تشكيلي على مستوى صياغة العناصر الجمالية، وتوظيف الطبيعية البكر لخدمة جوهر الدراما، إضافة إلى استعراضات بصرية جذابة في حركة الكاميرا، والاحتيال الذكي على المشاهد لتوريطه بمزاج الحكاية، مثل استخدام المرايا بصورة دلالية في بعض المشاهد كنوع من منكّهات التلقي. أما البطل المطلق في المسلسل، فقد ذهب بدون منازع للأداء التمثيلي لغالبية نجومه المكرّسين ووجوهه الشابة.
فعلياً، كان جود سعيد كان أمام اختبار لا يحسد عليه في هذا العمل، وقد تجاوزه بنجاح خالص، بعدما حكم عليه سابقاً بالإعدام من قبل شركات الإنتاج التلفزيوني إثر تجربة واحدة لم توّفق! وربما كان أمام «خريف العشّاق» والاتزان في التعاطي معه إخراجياً فرصة تحقيق صدمة إيجابية للدراما السورية، فيما لو أتيح له جهة إنتاجية قادرة على مواكبته، بمعنى آخر لو تمسّكت كاتبة النص بشرط إنتاجي مريح، وتركت الحرية المطلقة لإعادة الكتابة بلغة الصورة بدون تدخلات مستمرة كونها مديرة الشركة المنتجة، وابتعدت عن التفكير بعقلية التوفير الظاهرة على المسلسل لكانت عتبة النجاح أعلى بكثير.