بعد غياب بضعة أشهر فرضته الأعباء الناجمة عن الأزمة الاقتصادية-المالية وأزمة كورونا، عادت أخيراً مجلة «تحوّلات مشرقية» الفصليّة للصدور ورقياً بِعدَدٍ «ممتاز» للتأكيد على الاستمرارية في مواجهة صعوبات المرحلة ومواكبةً للأسئلة الكبرى المطروحة في لحظة تأزّم تاريخية يعيشها لبنان بالتزامن مع ذكرى «مئوية الكيان» وصراع دولي-إقليمي يعيد تشكيل وتقاسم مناطق النفوذ في المنطقة. بالنسبة إلى إدارة تحرير «تحولات مشرقية»، المهم أن تبقى الثقافة، بكل صورها وأشكالها، حاضرة في زمن الانهيارات المتتالية على مختلف الصعد. تنوّعت مواضيع العدد الصادر (العدد 20 آب 2020) من «تحولات مشرقية»، وتوزّع تبويبها بين فكر سياسي ومقالات رأي وفلسفة وأدب، إضافة إلى بعض المراجعات لإصدارات حديثة: مِن الحديث عن التوظيف السياسي لجائحة كورونا إلى «وهم السلام مع العدو الإسرائيلي» وصولاً إلى «حدود النقد الأدبي» وغيرها. في العدد دراسة مطوّلة بعنوان «اللاهوت السياسي بين أوغسطينوس والأكويني» للدكتور روبير مطانيوس معوّض، ومقالة بعنوان «الهوية والمواطنة» للدكتورة سينا مقلّد، وأخرى تتناول «الدعاية الموجهة في الإعلام الصهيوني» للدكتور خالد العزّي. وفيما يبرز نص فكري فلسفي لزهراء عقيل بعنوان «أَمارات موت الإله في فكر نيتشه»، تشارك في العدد كلٌّ من لارا ملّاك بنص حول «الصورة الشعرية الحديثة وحقيقة ما بعد التخيّل»، وديما رعد من خلال دراسة بعنوان «جبران بين التركيب اللغوي والتشكيل الفني»، إضافة إلى عناوين أخرى من بينها «رسالة عتاب» لافتة من الأب الياس زحلاوي إلى بابا الفاتيكان.
الجائحة في خدمة السياسة
كان لا بدّ لأزمة وباء كورونا التي شغلت ولا تزال تشغل العالم أن تحضر في عدد «تحولات مشرقية» الأخير. في هذا السياق، يبرز مقال- رأي للباحث السياسي حسن حمادة بعنوان «الجائحة في خدمة السياسة». حمادة الذي يُعدّ واحداً من المساهمين الرئيسين في انطلاقة مشروع مجلة «تحولات» إلى جانب سركيس أبوزيد، لا يقبل المنطق الإنكاري لحقيقة وجود جائحة كورونا وخطورتها والذي يذهب البعض إلى اعتباره «مجرد خدعة كبرى». لكن الكاتب مع ذلك يطرح في مقاله سؤالاً مركزياً حول ما أسماه «التوظيف السياسي المكثف» للجائحة، ولا سيما من جانب الإدارة الأميركية. وهو ما يرسم «علامات استفهام لا تُعدّ ولا تحصى حول الظروف المواكبة لهذه الكارثة العالمية»، على ما يقول حمادة. ويربط كاتب المقال بين هذا الاستثمار السياسي وبين سياسات أميركا «العدوانية» سواء بالحروب أم عبر الحصار، لافتاً إلى أن «أكثر ما يؤذي في هذه الكارثة هو الانقضاض على عقول الناس وإخضاعهم لحصار خانق من خلال إشغالهم بما هو الأكثر تأثيراً بهم، صحّتهم». وفي طريقه للتشكيك بكلّ ما يصدر عن الإدارة الاميركية بشأن الجائحة الفظيعة، يذهب الكاتب لشرح الآلية التي تختصر طريقة العمل الخاصة بالنظام الأميركي سواء عبر تكريس سياسات تخويف الأميركيين أم ضرب حصانة الإنسان-المواطن، أم من خلال الترويج لوجود «تهديدات خارجية تستهدف الأمن القومي الأميركي»، إضافة إلى أنّ ما يسمّيه «نظام القيم والتسلّط»، أي النظام النقدي، يفرض نفسه بشكل مطلق، ما «يسحق الطبقات الكادحة سحقاً».
يتوقف حبيب البدوي عند أبرز بنود وفقرات معاهدة «وادي عربة» ليظهر حجم المكاسب الإسرائيلية


وفي معرض انتقاد السلوك الأميركي تجاه الجائحة، يشير حمادة إلى أنه «لا يوجد حتى الآن أرقام أو لوائح بيانية للخسائر الهائلة التي أحدثتها جائحة كورونا في العالم». يضيف: «الدمار الاقتصادي-الاجتماعي واضح لا لبس فيه وكذلك الدمار الثقافي والنفسي. وفي الوقت ذاته، نلاحظ وباستغراب شديد أن الحروب الأميركية العدوانية الدائرة في بقاع الكرة الأرضية تستمر وكأنَّ شيئاً لم يكن من دون أي تغيير على صعيد البرمجة والمحاور». وبينما يشير إلى التصعيد في الحرب الاقتصادية الأميركية-الصينية واصفاً إياها بـ«خط التماس الدولي» في هذه المرحلة، يلفت إلى ما يعتبره تعزيزاً للشكوك في احتمال مسؤولية الولايات المتحدة في انتشار وباء كورونا، لجهة تغييب «الستار الحديدي» الأميركي-الأطلسي لكل ما له صلة بالمختبرات السرية الأميركية المتخصصة في الأبحاث حول الفيروسات والبكتيريا وما شابهها والمنتشرة في مناطق عدة من العالم، وعددها يصل إلى قرابة الـ 25 مختبراً. ويسأل حمادة في هذا السياق: «كيف يغيب موضوع خطير كهذا وفي ظرفنا الراهن؟ الجواب عند مَن يملك وسائل الإعلام وكبرى الوكالات الاعلامية وصولاً إلى الشبكة العنكبوتية التي يتحكّم بها الصهاينة تحكّماً كاملاً...».

لا مكتسبات من التطبيع
وهم السلام مع «إسرائيل» ــ نموذج اتفاقية وادي عربة»، تكتسب المقالة البحثية المطوّلة لحبيب البدوي أهمية مضاعفة لتزامن نشرها مع الموجة الحالية من التطبيع العربي الإسرائيلي، وإن اختلفت ظروف المرحلتين، فضلاً عن كونها تغوص عميقاً في حقائق ووقائع تاريخية وجغرافية وسياسية في منطقة شرق الأردن وظروف إنشاء الدولتين الأردنية (بصيغتها الحالية) ودولة الاحتلال الإسرائيلي. ويبدو البدوي كمن ينقّب فعلاً في الحفريات التاريخية والاجتماعية لتلك المنطقة معتمداً على دراسات وأبحاث عديدة ووثائق ورسوم وخرائط، وصولاً إلى المسار الذي أفضى في النهاية إلى توقيع معاهدة «وادي عربة» بين الأردن و«إسرائيل» عام 1994. يتوقف الكاتب عند أبرز بنود وفقرات الاتفاقية ليظهر حجم المكاسب الإسرائيلية مقابل مكتسبات محدودة على الجانب الأردني. وهو في المحصلة ما كرّس إسرائيل صاحبة اليد العليا في المنافع أمنياً واقتصادياً واستراتيجياً، وكذلك في دفع الأردن للإقرار عملياً بالتوطين. ويخلص البدوي إلى أن «التفوق الإسرائيلي في شتى المجالات العسكرية والتكنولوجية والأكاديمية يفرض رؤيته على مختلف الطروحات في منطقة الشرق الأوسط بما في ذلك ترسيم الحدود وتحديدها»، لافتاً في المقابل إلى أهمية «الرد» من خلال تحقيق «نهضة تعليمية في الشرق يتبعها نهوض شامل على مستوى جميع القطاعات المرفودة بكوادر مؤهلة بكفاءة علمية عالية حتى يتم إرجاع الشرق إلى وضعه الطبيعي».

سوريا المصلوبة
تكاد تكون «الرسالة المفتوحة» التي وجّهها الأب الياس زحلاوي إلى بابا الفاتيكان في الذكرى العاشرة للحرب على سوريا، والمنشورة في عدد «تحولات» الأخير، أكثر من مجرّد «عتاب» بسيط على رأس الكنيسة الكاثوليكية ومواقفها السياسية. يخاطب الأب زحلاوي «الحبر الأعظم» بعبارات صريحة يدعوه فيها لأن تقطع الكنيسة الكاثوليكية كل علاقة لها بسياسة الإمبراطورية الأميركية «التي لا تعرف حدوداً لهيمنتها، والتي تتواصل منذ عشرات السنين في تحدّ سافر لكل شرعية دولية وإقليمية ولكل أخلاقية إنسانية ودينية». يستغرب الأب زحلاوي، في رسالته، هذا الغياب الكبير للكنيسة تجاه أحداث العالم العربي وخصوصاً سوريا «التي تواجه حرباً كونية ظالمة بامتياز وحصاراً اقتصادياً ليس ما يبرره على الإطلاق». يسأله: «أما زلت تعتقد حتى اليوم، باستمرار بقاء يسوع المسيح في العالم العربي؟». زحلاوي الذي طالب الكنيسة بالوقوف إلى جانب المليارات من البشر المحرومين والمنتشرين على وجه الأرض الذين يقاومون للحصول على الحد الأدنى من حياة كريمة وعادلة، دعا بصفته «كاهناً عربياً سورياً» رأس الكنيسة إلى زيارة «سوريا المصلوبة» لعلّه بذلك يفتح الطريق «لأجل اهتداء الكنيسة الكاثوليكية إلى السيد المسيح وإلى مَن تماهى معهم مِن معذّبي الأرض» على ما يقول زحلاوي في رسالته المفتوحة.



تحديات التقنيّات والقيم، الهويّة والفوضى


مرَّت «تحولات مشرقيّة» التي انطلقت في عام 1974، بمراحل عديدة، وكانت قد توقّفت عن الصدور خلال فترة الحرب الأهلية. المجلة التي تصدر في طبعتين من لبنان وفلسطين، «بدأت ثقافياً من الريف العفويّ وطوباويّاته ثم انتقلت إلى المدينة المركّبة وتعقيداتها، وتسعى دائماً لمواجهة تحديات التقنيّات والقيم، الهوية والفوضى، الصراع والمعنى» على ما يقول المدير العام المسؤول سركيس أبو زيد (الصورة) الذي يدرك اليوم حجم الأعباء المتزايدة. وإذ يلفت أبو زيد إلى وجود «خطة عمل» لتفادي الثغرات التي تحول دون وصول أعداد «تحولات» إلى القراء داخل لبنان وخارجه، يشير إلى أن العدد المقبل من المجلة سيُخصِّص ملفّاً واسعاً وشاملاً عن «روسيا والمشرق» بمشاركة كتّاب وباحثين روس وآخرين من فرنسا ولبنان ودول عربية أخرى.