في معجم الكلام اليومي، قولُ مثل «أنا هيك» يُصنّف كتصريحٍ خَصبٍ على ما يحمل من تفكيك أو تأويل لدلالة صلبة تُستعمل في الكثير من الأحيان كإستعارة. في حالاتٍ كهذه، دائماً ما تَكون نهاية الموضوع مفتوحة على خلاصات متشعبة تأسُرها قناعة ذاتية. في حالة نجاح واكيم، المعادلة مختلفة برّمتها. هوَ هيك مع نيشان أو بدونه، بعد أن ينتهي من مقابلة تلفزيونية أو قبل أن يبدأها. واكيم الذي حلّ ضيفاً يوم الأربعاء في برنامج «نيشان» الحواري (أنا هيك/ الجديد) حَضَر بخطابه النقدي الفَجّ، معرّياً عيوب سياسات البيزنس، مجسداً مقولة صديقه زياد الرحباني: «أنا ما بدي غيّر البلّد بس ما بدي هالبلد يغيرني». هوَ هيك، لم يتغيّر. ما زال هو نفسه، ونَجَحَ. نجاح واكيم: المُدخِن الشره، اليائس من صفاقة السِياسة اللبنانية ورثاثتها، الصوت الصادح لضرورة تبلوّر وعي يستشرف مستقبل قاتم، قبل فوات الأوان.كلّما غاب، بدا وجوده ضرورياً، لا بل يفيض النقص. لا أحد إستطاع أن يأخذ، أو أن يعوّض مكانه، حتى الأقرباء منهم. سُئل إذا يعتقد أن هنالك تجربة نيابية شبيهة بتجربته (هو وصديقه زاهر الخطيب) كان محقاً بنفيِه. لكن هنالك سؤال يبقى مِلكاً للغيب يقتحم كل جلسة نقاش تدور حول مرحلة نجاح واكيم: ماذا كنت تفعل لو كنت مكانه في وطن تغدق فيه الأموال من كل حدبٍ وصوب على كل من يقول مرحبا في البرلمان؟
أولاده دخلوا الحقل السياسي. إبنه عمر إنخرط في وهم لعبة البرلمان وترشح على المقاعد النيابية في الإنتخابات الأخيرة. النكتة البائخة أن يُبرِر إذا كان هو، بذاته بوابة للتوريث. أساساً هو لا يحب أن يتكلم عن مسائله الشخصية أو العائلية. أكدَ ذلك مراتٍ عدة، في إجاباتٍ عدّة. الرجل عكس الأغلبية من «زملائه» في المهنة، بعيد كل البُعد عن موائد التبولّة وجلسات الجعدنة وحكايات الصالونات الساذجة. لكن بما أن تهمة التوريث فُرِضت عليه، تعامل معها بهدوء، بتصريحٍ موجز مفاده أن بيته سياسيّ بإمتياز، والسياسي (هنا) يعني القضية والقضية ليست رابطة دم بل تنشئة وثقافة ومزاج.
المشكلة الجوهرية تقبع في النظام، في التركيبة البنيوية وفي الطاقم السياسي كلّه. الناجي من «النظام اللبناني (الـ) خطير» صرّح بوضوح عن شكل وجوهر المعضلة بحديّته المعهودة المرفقة مع الكثير من التبعثر في حركات اليد. هذا ليس إستنتاجاً راهنياً، ولم تكن المرة الأولى التي يبوح بها. دائماً ما كان يقولها بالفم الملاَن وعلى مسمع الجميع. عندما كان نائباً، حاول أن يغيّر من الداخل، جرّب أن يخرُق السيستام من داخل السيستام، فَشلَ. أخفق بإستراتيجيته لكنه لم ينقلب على نفسه. لم يتحوّل إلى ناقد حاقد على إرثه السياسي أو على إنحيازاته الإيديولوجية. بقي على سجيته، كما هو، بِنَفس نبرة الصوت، ساخر ممتعض من فوضى حربٍ باردة بدأت منذ تسعين الطائف، من «الزعران الذين صاروا الدولة». أخفق استراتيجياً لكنه لم يفشل سياسياً. كل المحاولات المتشدقة لضمّه إلى صفوف المدافعين عن نعمة الإزدهار ولبنان الجديد باءت بالفشل. كل الإغراءات المالية والمحاولات المتكررة لشراء ذمة سكوته، باءت أيضاً بالفشل. مناعته القوية أججها إلتصاق الأخلاقي مع السياسي. «الهدف النبيل يشترط مساراً نبيلاً» هكذا ينتقل إلى موقع الهجوم، مستشهداً بملهمه الأوّل جمال عبد الناصر. ما زال منشغلاً ومُصراً على قراءة التاريخ، خصوصاً تاريخ الحركات التحررية، ليس للمجاهرة بأبطالها كما قال، بل لنتعلم أين أخطأت وأين أصابت. هذا ما يمنعه من إنجاز كتابه الثالث.
يمرّ الوقت وتشتد معارضته. يتجعد وجهه لكنه لا يترهل. هو الناقم على كل مسارٍ ومصيرٍ يسّوقه ممثلو السلطات التنفيذية والتشريعية «بوجود هذه التركيبة وهذا الطقم السياسي يلي شايفه ما رح يرجع ولا ربع دولار» محنّك بالرفض، وكل رفض هو فعل مقاومة وممارسة صاخبة للحرية. خطابه حيوي متجدد، مستمدٌ من الفلَك العام. فرادة نجاح واكيم تكمن في دقة ملاحظته الفائقة الحساسية على سلوكيات يومية، وعلى يقظته بوجود خلل يشوب الفضاء العام وعلى واقعية مفرطة لا تعرف الإنشائيات. وعلى الأرجح هذا ما زاد من منسوب يأسه، وَلَو أنها علّته ليكون كما عليه: «هيك»، فريد ٌغير قابل للإستبدال.
مهما تكن بؤرة إنبثاق خطابه، من يأسٍ أو يقظة، من إنفعالٍ أو عقلانية، يبقى نجاح واكيم دوماً مستعداً للمواجهة. بعصبية تصيبه برجفة لكنها تحاكي وَتَر المُشاهد إستفاض في كيل النقد من أصغر تفصيل إلى أعلى الهرم. إنه هو كما إعتدنا عليه دائماً.
من الهيمنة الأميركية، إلى فشل الحكومة، عن أسباب التناقضات التي تمنع بناء كيان أو دولة، من ثم عن الفراغ الهائل الذي يسيطر على الساحة السياسية، وعن العاملين في الشأن السياسي، عن خواء الطروحات وضعف الأفق، إستفاض واكيم بالكلام من دون أن يقاطعه أحد. وحده في الإستوديو يفصح عن مسائل لم يطلبها المقدم منه، كأنه كان يعوّض عن مشاكسة إشتاق إليها في الجلسات النيابية. ضرب مثل حادثة إختلاس أموال «نفق بحمدون» من قبل فريق وزارة الأشغال كمتعهدة للمشروع. «اعتبر كلامي بمثابة إخبار» جملة جعلت من المقدم يستفيق فجأةً. رآها على الأرجح، فرصة مؤاتية للغوص في البازار السياسي والإعلامي. أراد نيشان أن يحظى منه بالمزيد من أسماء سياسيين متورطين في الفساد. مع دليل أو بدون دليل، لا يهم، المُهم الخبر. أراد أن يوقعه في فخ التصاريح المباشرة التي عادةً ما تنتج مواجهات تافهة بين قطبين يُقال بأنهما متصارعان. ذكرّه نجاح واكيم بـ «الأيادي السود»، كتابه الثاني الذي يحتوي على الفضائح، بالأسماء. الرجل قنبلة موقوتة ونيشان أدرك ذلك، لكنه لم يستطع أن يجرّه إلى مكيدة السكوب، أو المزاحمات العبثية التي لا تطاق. هو في الأساس كيان مُضاد للمهاترات الشعبوية التي دائماً ما تجعل من سلطة الاستعراض تجني نقاطاً.
خُتِمت الحلقة مرتين. في الفصل الأوّل للنهاية، عَزَفَ نجاح واكيم عن توجيه أي رسالة للرئيس الجمهورية. بدا كطفلٍ اعتكف طوعاً عن اللعب مع أصدقائه، مفضلاً الصمت المطبق. أما النهاية الثانية، فكانت أشبه بوصية. «بماذا تريد أن يتذكرك اللبنانيين بعد عمرٍ طويل؟» سأله نيشان، ليجيب «أن يعرفوا أنني لم أتلوث رغم وجودي في بؤرة فساد خطيرة». حسناً، إنها معلومة معهودة عند الجميع. لكن في المبدأ سيبقى نجاح واكيم في الذاكرة السد المنيع الذي وقف في وجه سيلان الخراب، النائب الوحيد الذي صب شتائمه الطويلة في وجه أباطرة المال، الوحيد الذي قالَ كلمته ومشى.